بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة
والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه ..
وبعد ..
تحدثنا من قبل عن نصر (الخامس والعشرون من رمضان 658هـ) ولم نتحدث عن أسباب النصر فيه، والنظر في أسباب النصر والهزيمة مهم جدا لأخذ العبر والاستفادة من الدروس.
حقا إن ينصركم الله فلا
غالب لكم، لكن إنما ينصر الله من ينصره، ونصرة الله تعالى تكون بأداء ما فرضه وترك
ما نهى عنه، وأما من حاربوا الله بالربا فقد قال لهم (فأذنوا بحرب من الله ورسوله)
أو آذوا أولياء الله فقد قال لهم (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب) والهزيمة
والخذلان مصير كل من عطل شريعته، ولم يتمعر
وجهه لانتهاك محارم الله، ولا حرمة عنده لأولياء الله، فلا يستحق النصر والمدد من
الله، لكنه موكول إلى قوانين النصر العادية، فمن أعد العدة جيدا انتصر، ومن لم
يستعد هزم وخذل، هذه سنة الله.
في القرن السابع الهجري
عندما انهال المغول التتار من الشرق فدمروا المدن الإسلامية كلها واحدة واحدة بكل
وحشية ووصلوا إلى حدود بغداد حيث الخلافة العباسية كان السلطان الصالح إسماعيل في
دمشق يتوقع ألا تصمد بغداد في وجوههم وأنهم عما قريب يغزون بلاد الشام، ولن تصمد
أي قوة إسلامية أمامهم، ولما كان الصليبيون أعقل كثيرا من المغول وأهون شرا – في نظره
– فقد رأى الصالح إسماعيل أن يصانعهم ويهادنهم ببعض التنازلات ليجرهم إلى صف
المسلمين فيكون المسلمون والصليبيون يدا واحدة في مواجهة المغول، فسلمهم بعض المدن
وفتح لهم باب التجارة الحرة في الشام (تطبيع علاقات كامل) في الوقت الذي كان
الصليبيون يشكلون خطرا حقيقيا على مصر وقد احتلوا مناطق من شمال مصر، ونياتهم
معقودة على اقتناص فرص الضعف الإسلامي لابتلاع المزيد والمزيد.
لكن أحد علماء الشام
الشجعان وهو الإمام شيخ الإسلام عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي الشافعي
الشهير بالعز ابن عبد السلام والملقب فيما بعد بـ (سلطان العلماء) لم يجد مسوغا
شرعيا لتصرف السلطان الصالح إسماعيل لا سيما والصليبيون يفدون إلى الشام فيشترون
المؤمن والسلاح ليقاتلوا بها المصريين ! فاخترق الشيخ الصمت وحاجز الخوف فأفتى بأن
تمكين الصليبيين من ديار الشام باطل وأنهم حربيون لا يجوز إعطاؤهم الأمان بل يؤسرون
متى دخلوا الشام، وطارت هذه الفتوى في بلاد الإسلام الأمر الذي أفرح أهل مصر لكنه
أغضب الصالح إسماعيل، فدبر حيلة الحبس والتضييق على الشيخ ليتخلص من وجوده في
الشام، فاضطر الشيخ إلى الخروج من الشام إلى مصر، وهناك استقبل استقبال الملوك،
والمصريون لا يشعرون أن الله تعالى أعد امتحانا صعبا لهم على يد هذا الشيخ الشامي
الجليل.
فشلت خطة الصالح
إسماعيل واجتاح التتار بغداد فقتلوا الخليفة وأفنوا أهلها وأحرقوها، ثم ابتلعوا
الشام كله ولم يغن الصليبيون شيئا، ولم يبق أمام التتار إلا الجيش المصري، وبالنظر
إلى جميع المقومات والأحوال والظروف فالجيش المصري لا فرصة له في الفوز والظفر،
ومصيره مصير سائر الأمم والجيوش التي كسرها التتار وقهرها.
عندما دخل العز ابن عبد
السلام مصر، واستقبل استقبال الملوك، امتنع غير واحد من العلماء الكبار من الإفتاء
– منهم الإمام المنذري صاحب الترغيب والترهيب – ورأوا أن الفتيا متعينة في هذا
العالم الجليل الذي لا يخاف في الله لومة لائم، فتقلد العز ابن عبد السلام قضاء القضاء
والإفتاء رسميا في أيام السلطان الملك الصالح: نجم الدين أيوب.
لقد كانت مصر كسائر
بلاد الإسلام في ذلك التاريخ تحكم بالشريعة الإسلامية، يقوم بذلك المفتون والقضاة،
إلا أن بعضا من تلك الأحكام الشرعية كانت تقف دون المساس بكبار القوم من الأمراء
والسلاطين وحواشيهم فلا تجد طريقها إليهم – الأمر الذي حذر منه النبي صلى الله
عليه وسلم - وبدخول العز ابن عبد السلام مصر اختلف الأمر وصار يبطل المحرمات المتعلقة
بهذه الطبقة ويتتبعها واحدة واحدة، ويقدم علية القوم إلى المحاكمة الشرعية دون
أدنى تدخل من السلطان، إلى أن جاءت المحنتان :
أما الأولى : فإن كثيرا
من أمراء الجند في مصر كانوا مماليك، اشتراهم السلطان من بيت مال المسلمين ثم
رباهم ودربهم حتى صاروا فرسانا أشداء ثم أعطاهم المناصب العليا في الجيش، فملكوا
الضياع والأموال والأنعام وسكنوا القصور، وصارت لهم تجارة وجاه يتصرفون تصرف
الأحرار.
والأصل في الشريعة
الإسلامية أن المملوك غير نافذ التصرفات وأن أمره إلى سيده ومولاه، وسيده ومولاه
في هذه الحالة المصرية هم الشعب المصري الذي اشتري المماليك من أمواله.
وهنا قرر شيخ الإسلام إبطال
جميع تصرفاتهم من عقود بيع أو شراء أو إيجار أو نكاح ونحو ذلك – وهم من هم إمرة
وشهرة ومكانة - حتى تعطلت مصالحهم وضجوا بالشكوى عند السلطان الذي رفض التدخل
لتغيير الأحكام الشرعية، ولكنه سعى إلى شيخ الإسلام للنظر في حل شرعي لهذه
المعضلة، وشيخ الإسلام أعطاه حلا واحدا أمرُّ من العلقم.
هذا الحل أن يباع هؤلاء
المماليك في السوق علنا وتوضع أثمانهم في بيت مال المسلمين ثم الخيار لمن اشتراهم
في إعتاقهم لتصح تصرفاتهم !!! وا عجبا ! أمراء وقادة جند يباعون في السوق؟! هل يقبل
عامة الناس هذا فضلا عن أمراء وقادة كبار ! لقد وضعهم العز ابن عبد السلام أمام
نار تلفح وجوههم، وقد أدرك قادة الجند أن لا مناص لهم من تجرع مرارة الذل خضوعا
لأحكام الشريعة الإسلامية، نعم حاول بعضهم التمرد ولكنهم لما واجهوا شيخ الإسلام
خارت قواهم وضعفوا وتحولوا إلى حملان وديعة تستفتي الشيخ ..
وهكذا عقد المزاد
العلني في السوق وحضره الناس ونودي بالأمراء واحدا واحدا وتنافس التجار فيهم فإذا
عجزوا عن الزيادة زاد وكيل السلطان نجم الدين أيوب في الثمن فاشترى الأمير وأودع
ثمنه لدى شيخ الإسلام لبيت المال، ثم يعتق الأمير !! هل سمع الناس بذلة لله وشرعه
كهذه من قبل؟!
أما المحنة الثانية :
فعندما جد الأمر وهدد التتار مصر وأمروها بالاستسلام وإلا الخراب، وبدا أن لا مناص
من الحرب، فهنا أمر شيخ الإسلام السلطان والجند بالاستعداد لملاقاة التتار، وبدأ
تجهيز الجيش، فأمر السلطان سيف الدين قطز بجمع المال من العامة لتجهيز الجيش،
فأفتى سلطان العلماء بأن ذلك لا يحل للسلطان والأمراء حتى يخرج السلطان وأمراؤه ما
في قصورهم من الأثاث والأموال والدواب والحلي والزينة فإن لم تف فحينئذ يمكن النظر
في أموال العامة، فانصاع السلطان وأمراؤه للأمر وأخرجوا ما في قصورهم طائعين هم
ونساؤهم فاجتمع شيء عظيم كفى لتجهيز الجيش وزاد ولم يؤخذ شيء من العامة.
لقد كان عامة الناس في
مصر وخاصتهم من العلماء على استعداد إيماني قبل دخول سلطان العلماء العز ابن عبد
السلام إلى مصر، وذلك بفضل شيوخ صالحين من أولياء الله تربى على أيديهم أهل مصر،
وعلى رأسهم الإمام العارف بالله أبو الحسن الشاذلي، فالعامة مفروغ من خضوعهم لله.
لكن هذين الامتحانين العظيمين
لم يكونا موجهين لعامة الناس، بل كانا لخاصتهم من السلطان وأمرائه وحاشيته، وقد
أجراهما الله على يد الشيخ العز ابن عبد السلام الدمشقي خاصة، ولا يمكن تحقق
الصلاح ولا الخضوع التام لله تعالى إلا باستسلام هذه الطبقة المترفة لله، قال
تعالى ﴿وإذا أردنا أن نهلك قرية
أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا﴾ أي أمرناهم بالطاعة
ففسقوا، وفسق هذه الطبقة وحدها كاف في حلول البلاء.
لقد تعرض كثير من الكتاب والمؤرخين لهذه الحادثة مظهرين بذلك كل الإعجاب والتقدير لشخصية الإمام عز الدين ابن عبد السلام - وحق له ذلك - والذي لقب على أثرها بسلطان العلماء، ولكني هنا أتعرض لهذه الحادثة مظهرا الإعجاب والتقدير بسلطان مصر وأمرائه الذين خضعوا لله تعالى وأذلوا رقابهم ووجوههم له.
لقد نجح السلطان
وأمراؤه في الامتحانين معا فهبت رياح النصر الرباني من حيث لا يحتسبون وتحقق الظفر
العظيم على أخبث جيش عرفه التاريخ، لم يكن النصر متوقعا ولكنه حدث، وقد جرت فيه من
الكرامات الربانية ما لا يخطر على بال، فلم يكن النصر بانكسار التتار في عين جالوت
فحسب، بل إن الله تعالى سلط بعضهم على بعض، وألقى في قلوب كثير منهم الرعب من
المسلمين ثم هيأ قلوبهم للإسلام فدخلوا فيه أفواجا حتى كانوا من حماة الإسلام
وناشريه في ربوع الأرض.
والناظر في حال
المسلمين اليوم يتعجب من رحمة الله تعالى وستره ولطفه وحلمه، مع توفر جميع أسباب
السخط ونزول البلاء من المعاصي والعبث بالشريعة وكثرة الفسق وانتشار الربا والتبرج
وقلة الحياء وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. نسأل الله العفو والعافية وصلاح الحال.

