الحلقة الثالثة
يوم الأحد 13 مارس
هذا اليوم كان في غاية الأهمية عندي، فأنا على أمل استقبال مولود بعد ساعات، ولكن إذا قضى الله أمرا فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
ففي صباح هذا اليوم تلقيت اتصالا من إدارة قسم الولادة بالسلمانية يطلبون حضوري للتوقيع على إجراء العملية القيصرية، فخرجت من العمل متجها إلى السلمانية، وقد بدا المجمع هادئا وآمنا، وكما سبق فالبوابة (6) مفتوحة، والمواقف متاحة، وكل شيء على ما يرام، ولكن الإشاعات في الخارج لا تتوقف، وأنا في غاية الحيرة مما أسمع مقارنة بما أرى !
أحداث المرفأ المالي :
وصلت إلى قسم الولادة ووقعت على الأوراق، وبعد مدة نحو نصف ساعة رأيت أن أعود إلى العمل فإذا بشرونا بالمولود عدنا إلى المجمع لقربه من مكان عملي، وبينما كنت أسير في أروقة المجمع الهادئة متجها إلى الخروج إذا بالإذاعة الداخلية تفتح، وطلب من كل الجراحين وأطباء العيون التوجه فورا إلى قسم الطوارئ !!
قدَّرت حينها أن أمرا ما قد وقع ناحية الدوار، كانت الأحداث المؤسفة قد بدأت إذ تمددت المعارضة إلى المرفأ المالي وشرعت قوات الأمن في إجلائهم عن المرفأ وردهم إلى الدوار:
(اضغط على التسجيل للتكبير)
كما وقعت أحداث الجامعة، وحوادث متفرقة، وفي هذا اليوم حصل أيضا مقتل بعض الآسيويين، واضطربت البحرين اضطرابا شديدا، وكل جريح أو مغشي كان ينقل إلى السلمانية يصحبه أعداد من الناس يتبعهم الأقارب والأصحاب، ولم يقتل ذلك اليوم من المعارضة إلا واحد، وهكذا احتشد الناس في السلمانية، وعمت الفوضى عند قسم الطوارئ كما هو متوقع في ظرف كهذا، لكن قبل أن يبدأ ذلك كله كنت قد عدت إلى العمل، وبعد مدة تلقيت اتصالا من السلمانية يفيد بأنهم مضطرون لتأجيل العملية نظرا للظروف الطارئة التي واجهتهم، وقد عذرتهم وتوقعت ذلك.
حراس البوابة (6) لأول مرة ! :
وباقتراب العصر كان علي أن أتوجه إلى السلمانية، ولأول مرة أفاجأ بحراس عند البوابة !! في البداية أسأت فهم الأمر، لأن كثرة الإشاعات قد شوشتنا، وأنا على ثقة من أن أي زائر سني للسلمانية في ظل تلك الظروف وتلكم الإشاعات قد يعود أدراجه إذا شاهد الحراس دون أن يحاول استيضاح الأمر متوهما أنهم للفرز والتفتيش ومنع أهل السنة، وقديما قالت العرب: (من يسمع يخل).
كان الحارس يقف عند البوابة يرشد السيارات التي تزمع الدخول يرشدها إلى التوجه إلى المواقف الخارجية المنتشرة حول المجمع، وذلك ليخلي الطريق المؤدي إلى مبنى الطوارئ لسيارات الإسعاف الرسمية وغير الرسمية في الدخول والخروج وذلك لتيسير انسياب الحركة وسرعة الوصول، فلما وصلت ظننته يمنع الناس اعتباطا، فتقدمت بسيارتي للدخول من البوابة ولم أعبأ بإشارته، فلما رأى إصراري اتجه نحوي وطلب مني أن أقف في الخارج، فقلت له: إن معي من الأقارب من لا يمكنه المشي كل هذه المسافة ولا بد من تقريبه، فهنا سمح لي بالدخول، فدخلت وأنزلت من معي من الأهل ثم انعطفت يسارا ناحية المواقف وأوقفت سيارتي، وقبل أن أخرج من السيارة بقيت أتفكر في تصرف الحارس هذا ما الحكمة منه؟ فتبين لي ما ذكرته، وكان أكثر من يقصد السلمانية ذلك الوقت هم من الشيعة كما لا يخفى، وقلّ أن يأتي سني أو يقترب من السلمانية في تلك الظروف خاصة، وكانت الناس تدخل راجلة نساء ورجالا، فلما تفهمت الأمر خرجت بالسيارة وإذا به كأنه يراقبني فاتجه نحوي واعتذر بلطف مبينا أن المسألة تنظيمية لا أكثر، فشكرته وأيدته وخرجت حيث أوقفت السيارة ثم دخلت المستشفى، وقد عثرت على تسجيل مهم جدا لما كان يجري عند البوابة قبيل وصولي أو بعيده، يوضح حقيقة هذه الحراسة، وسأقدم له بثلاث صور منتزعة من التسجيل نفسه لمزيد التوضيح ثم أضع التسجل:
الصورة الأولى:
(اضغط على الصورة للتكبير)
الصورة الثانية:
الصورة الثالثة:
التسجيل كاملا:
هذا الرجل الحارس الذي ظهر في التسجيل هو نفسه الذي كان يقف عند البوابة حال وصولي إليها، ولم يتكرر هذا الموقف معي بعد ذلك، نعم حصل موقف آخر سيأتي ذكره لكن لا علاقة له بموضوع الحراسة، والحاصل أن هذا الموقف لعله تكرر من قبل فقط في أوقات الذروة حينما تحصل مواجهات وإصابات، ولا يحدث في غير ذلك، وطيلة ترددي على السلمانية لم أشاهد ذلك إلا هذه المرة فقط، وكان لا بد من توضيح هذا الحدث الذي أساء فهمه كثيرون.
مباحث متنكر في السلمانية !! :
عندما كنت أسير متوجها إلى المبنى كنت أشعر بأني ملفت للنظر، فإن مظهري لا تخطئه العين، ويبدو جليا أنني شخص سني متدين، ولحيتي ظاهرة، ومن المتوقع أن يصنفني من يراني تصنيفا خاصا لا يخفى على اللبيب ـ واللبيب بالإشارة يفهم ـ ووجود مثلي ذلك الوقت بالذات شيء نادر، لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار ما يذاع ويشاع بالإضافة إلى كل الملابسات والظروف، كان ذلك الشعور مجرد تخمين ساورني لأوقات قليلة، وحينما ألمح بعض النظرات أقول في نفسي : ما عساها تقول تلك النظرات؟؟
وقد جاءتني الإجابة بتقدير الله تعالى بعد دخول المصعد إذ دخل معي شابان يحملان آلتي تصوير، وكانا يتهامسان ـ ومثل هذا الصنيع ليس من آداب الإسلام ـ فأصغيت إليهما وتبينت بعض همسهما حينما قال أحدهما للآخر : ترى ماذا يصنع هذا هنا الآن؟ فأجابه صاحبه : مباحث متنكر !!
استنبطت من هذه المهامسة أنني شخص يصلح للاشتباه به على أقل تقدير! وأن وجود من هو مثلي في السلمانية بات مستغربا ! وأن بعض أفراد المعارضة يشعرون بوجود المباحث في المجمع ! ولكني استنبطت أيضا أنهم لا ينوون أخذ الناس بالشبهات وإلا لأخذونا بمجرد ذلك، وعلى كل حال فإن هذه الكلمة كانت توجب علي أخذ الحيطة والحذر في التصرفات مستقبلا لولا نبأ بلغني أزعجني جدا بحيث لم أتمكن من ضبط النفس والتحلي بالحذر !!
المداهمة وشيكة :
بينما كنت خارج المجمع لشراء بعض اللوازم في نفس الليلة تسرب خبر بشكل محدود جدا مفاده أن الجهات الأمنية تضع خطة لمداهمة السلمانية ! ولولا أن هذا الخبر بلغني من شخص أثق به لما صدقته، لأنني لم أر ما يوجب المداهمة ويستدعيها ذلك الوقت، خصوصا بعد الخبر الرسمي المذاع عبر التلفاز يوم 9 مارس، فما الذي اختلف من 9 إلى 13 ؟؟ هناك احتمال كبير أن لا يكون لهذا الخبر مصداقية، وأنه من جملة الإشاعات فالوقائع لا تشير إليه، ولم ينتشر هذا الخبر بين الناس، ولكن الاحتمال الآخر وارد أيضا !
وجدت نفسي أمام مفترق، إما أن ألتزم الصمت وأتجاهل ما أسمعه وما يجري من حولي، وإما أن أحاول فهم الوضع جيدا لأتصرف بناء على ذلك، وهذا ما ترجح لدي وقررت تفهم ما يجري، وبمجرد عودتي إلى المجمع كان علي أن أفهم ما يجري في قسم الطوارئ !
ماذا يجري في قسم الطوارئ؟ :
اقتربت من قسم الطوارئ من داخل المبنى لأول مرة في هذا اليوم المضطرب، وصرت أتأمله من بعيد، وأعيد الكرة، أبحث عما يجلي الأمر لي، وأخيرا وجدت ضالتي، رأيت طبيبين يقفان في ناحية آخر ممر الطوارئ، وكأنهما قد أقصيا، وآثار الامتعاض والتذمر بادية عليهما، تقول ملامحهما أنهما مصريان، اقتربت منهما بحذر في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات الصياح والضوضاء، فنظرت إليهما وسألتهما ما الذي يجري هنا؟
نظرا إلي نظرة لا أراها تختلف كثيرا عن نظرة الشابين في المصعد الكهربائي، ثم اقترب مني أحدهما في حركة نصف دائرة وقال :
((ما فيش حاجة أصلا)) !!
أوضحت لي هذه الكلمة ما كان يجري، ولا ينبغي أن تحمل هذه الكلمة على ظاهرها، ولكن معناها أنه لا يوجد ما يستدعي كل هذا العويل وكل هذه الفوضى، نعم لا يمكن أن ينكر أحد وجود الجرحى والمغشي عليهم من الغازات وبعض القتلى في أحيان أخرى متفرقة، ولكن المبالغات والتصنع مما لا يمكن إنكاره أيضا، وقد كانت هذه المبالغات تنقل عبر وسائل الإعلام لتصل إلى العالم موهمة أن المجمع الطبي يتعرض لمذبحة ومجزرة ويكتظ بالقتلى وأن الجثث تتناثر في ساحة المجمع في وسط مستنقعات من الدماء!!
وحينما سمعت هذه الكلمة من الطبيب المصري كانت هناك عيون تراقبني، فلما تراجعت إلى الوراء عائدا، انطلق نحوي رجلان يلبسان لباس الأطباء، والانفعال باد عليهما جدا، فقال لي أحدهما ـ ولا أعرفهما ـ:
يا أستاذ كيف حالك؟ أنا أعرفك وأعرف الوالد وأعرف أخاك محمدا الكاتب في الجريدة (يقصد شقيقي الأصغر محمد مبارك صاحب عمود بـ"الشمع الأحمر" والذي أدرجت صورته ضمن قائمة العار وكان في بريطانيا ذلك الوقت)
قال: فهل تريد أن ترى الجرحى والمصابين لتتأكد بنفسك؟
فقلت له : لا أشك أن هناك جرحى ومصابين، ولكني لا أريد أن تتعب نفسي ويتكدر خاطري بهذه الصور الآن، فإن أهلي في قسم الولادة وأريد أن أكون معهم منشرح الصدر.
ارتاح الرجلان لجوابي ومضيا، ولم تبد على معاطفهم البيضاء بقع الدماء ولا على الممرات، وقد اتضح من كلامهما أنهما على معرفة بي !! ولا أدري أشر هذا أم خير؟
على كل حال كانت المبالغات واضحة، وكلما دخل مصاب مهما كانت الإصابة خفيفة تسمع العويل والصياح من بعض النساء.
ومن أسباب الفوضى ظاهرة التسكيت الجماعية، كل واحد يرفع صوته ليسكت الآخر طالبا منه الهدوء، وهكذا يستمرون في إسكات بعضهم دون أن يسكت أحد !! وكل واحد يأمر الآخر باحترام النظام دون أن ينتظم أحد .. ويمكن مشاهدة بعض هذه المقاطع على يوتيوب مثلا (ممر الطوارئ) :
إطلالة حذرة على قسم الطوارئ :
في هذه الصورة ـ التي لم يلاحظها أحد ـ تجدون في الدائرة الحمراء إطلالة مني على معمعة قسم الطوارئ :
وهذه الصورة توجد ضمن هذا التسجيل في الوقت : (1:17:23)
الإعلام الرسمي وبرنامج (الراصد) :
عندما عدت إلى البيت ليلا راقبت الأخبار والبرامج وتبين أن الإعلام بدأ يأخذ منحى مختلفا منذ اليوم، فقد فتح المجال للناس لتتكلم على الهواء مباشرة وتبدي رأيها ـ العجيب أني من يومين غير قادر على التقاط الخط ! ـ وبعض من كان يتكلم ليس من أهل البحرين، وبدأت الإشاعات التي كانت ترددها الناس في الشارع تتسرب إلى الإعلام، ومن أعجبه كلام قيل في هذه الجريدة أو تلك القناة اتصل ليلقيه في الإعلام الرسمي، وفي المقابل كانت القنوات المدعومة من إيران قد فتحت المجال مبكرا لكل متصل من البحرين ليتحدث عن المذابح والمجازر والجثث المتناثرة في الطرقات، وهكذا دخلنا مرحلة الحرب الإعلامية، وظهر مصطلح (احتلال السلمانية).
تكرير الاتصال بتلفزيون البحرين :
كررت محاولة الاتصال بتلفزيون البحرين مرارا من المحمول والثابت ولكن دون جدوى، ثم كان علي أن أضع حصيلة كل تلك الساعات الماضية ابتداء من 11 مارس وحتى هذه الليلة 13 مارس لأتفكر في أمري وكيف سأتصرف غدا.
شكرا لك على نشر هذه الحقيقة التي تكذّب الإعلام النتن
ردحذف