الأحد، 14 ديسمبر 2025

أسباب النصر في الخامس والعشرين من رمضان "عين جالوت"



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه ..

وبعد ..

تحدثنا من قبل عن نصر (الخامس والعشرون من رمضان 658هـ) ولم نتحدث عن أسباب النصر فيه، والنظر في أسباب النصر والهزيمة مهم جدا لأخذ العبر والاستفادة من الدروس.

حقا إن ينصركم الله فلا غالب لكم، لكن إنما ينصر الله من ينصره، ونصرة الله تعالى تكون بأداء ما فرضه وترك ما نهى عنه، وأما من حاربوا الله بالربا فقد قال لهم (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) أو آذوا أولياء الله فقد قال لهم (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب) والهزيمة والخذلان مصير كل من عطل شريعته،  ولم يتمعر وجهه لانتهاك محارم الله، ولا حرمة عنده لأولياء الله، فلا يستحق النصر والمدد من الله، لكنه موكول إلى قوانين النصر العادية، فمن أعد العدة جيدا انتصر، ومن لم يستعد هزم وخذل، هذه سنة الله.

في القرن السابع الهجري عندما انهال المغول التتار من الشرق فدمروا المدن الإسلامية كلها واحدة واحدة بكل وحشية ووصلوا إلى حدود بغداد حيث الخلافة العباسية كان السلطان الصالح إسماعيل في دمشق يتوقع ألا تصمد بغداد في وجوههم وأنهم عما قريب يغزون بلاد الشام، ولن تصمد أي قوة إسلامية أمامهم، ولما كان الصليبيون أعقل كثيرا من المغول وأهون شرا – في نظره – فقد رأى الصالح إسماعيل أن يصانعهم ويهادنهم ببعض التنازلات ليجرهم إلى صف المسلمين فيكون المسلمون والصليبيون يدا واحدة في مواجهة المغول، فسلمهم بعض المدن وفتح لهم باب التجارة الحرة في الشام (تطبيع علاقات كامل) في الوقت الذي كان الصليبيون يشكلون خطرا حقيقيا على مصر وقد احتلوا مناطق من شمال مصر، ونياتهم معقودة على اقتناص فرص الضعف الإسلامي لابتلاع المزيد والمزيد.

لكن أحد علماء الشام الشجعان وهو الإمام شيخ الإسلام عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي الشافعي الشهير بالعز ابن عبد السلام والملقب فيما بعد بـ (سلطان العلماء) لم يجد مسوغا شرعيا لتصرف السلطان الصالح إسماعيل لا سيما والصليبيون يفدون إلى الشام فيشترون المؤمن والسلاح ليقاتلوا بها المصريين ! فاخترق الشيخ الصمت وحاجز الخوف فأفتى بأن تمكين الصليبيين من ديار الشام باطل وأنهم حربيون لا يجوز إعطاؤهم الأمان بل يؤسرون متى دخلوا الشام، وطارت هذه الفتوى في بلاد الإسلام الأمر الذي أفرح أهل مصر لكنه أغضب الصالح إسماعيل، فدبر حيلة الحبس والتضييق على الشيخ ليتخلص من وجوده في الشام، فاضطر الشيخ إلى الخروج من الشام إلى مصر، وهناك استقبل استقبال الملوك، والمصريون لا يشعرون أن الله تعالى أعد امتحانا صعبا لهم على يد هذا الشيخ الشامي الجليل.

فشلت خطة الصالح إسماعيل واجتاح التتار بغداد فقتلوا الخليفة وأفنوا أهلها وأحرقوها، ثم ابتلعوا الشام كله ولم يغن الصليبيون شيئا، ولم يبق أمام التتار إلا الجيش المصري، وبالنظر إلى جميع المقومات والأحوال والظروف فالجيش المصري لا فرصة له في الفوز والظفر، ومصيره مصير سائر الأمم والجيوش التي كسرها التتار وقهرها.

عندما دخل العز ابن عبد السلام مصر، واستقبل استقبال الملوك، امتنع غير واحد من العلماء الكبار من الإفتاء – منهم الإمام المنذري صاحب الترغيب والترهيب – ورأوا أن الفتيا متعينة في هذا العالم الجليل الذي لا يخاف في الله لومة لائم، فتقلد العز ابن عبد السلام قضاء القضاء والإفتاء رسميا في أيام السلطان الملك الصالح: نجم الدين أيوب.

لقد كانت مصر كسائر بلاد الإسلام في ذلك التاريخ تحكم بالشريعة الإسلامية، يقوم بذلك المفتون والقضاة، إلا أن بعضا من تلك الأحكام الشرعية كانت تقف دون المساس بكبار القوم من الأمراء والسلاطين وحواشيهم فلا تجد طريقها إليهم – الأمر الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم - وبدخول العز ابن عبد السلام مصر اختلف الأمر وصار يبطل المحرمات المتعلقة بهذه الطبقة ويتتبعها واحدة واحدة، ويقدم علية القوم إلى المحاكمة الشرعية دون أدنى تدخل من السلطان، إلى أن جاءت المحنتان :

أما الأولى : فإن كثيرا من أمراء الجند في مصر كانوا مماليك، اشتراهم السلطان من بيت مال المسلمين ثم رباهم ودربهم حتى صاروا فرسانا أشداء ثم أعطاهم المناصب العليا في الجيش، فملكوا الضياع والأموال والأنعام وسكنوا القصور، وصارت لهم تجارة وجاه يتصرفون تصرف الأحرار.

والأصل في الشريعة الإسلامية أن المملوك غير نافذ التصرفات وأن أمره إلى سيده ومولاه، وسيده ومولاه في هذه الحالة المصرية هم الشعب المصري الذي اشتري المماليك من أمواله.

وهنا قرر شيخ الإسلام إبطال جميع تصرفاتهم من عقود بيع أو شراء أو إيجار أو نكاح ونحو ذلك – وهم من هم إمرة وشهرة ومكانة - حتى تعطلت مصالحهم وضجوا بالشكوى عند السلطان الذي رفض التدخل لتغيير الأحكام الشرعية، ولكنه سعى إلى شيخ الإسلام للنظر في حل شرعي لهذه المعضلة، وشيخ الإسلام أعطاه حلا واحدا أمرُّ من العلقم.

هذا الحل أن يباع هؤلاء المماليك في السوق علنا وتوضع أثمانهم في بيت مال المسلمين ثم الخيار لمن اشتراهم في إعتاقهم لتصح تصرفاتهم !!! وا عجبا ! أمراء وقادة جند يباعون في السوق؟! هل يقبل عامة الناس هذا فضلا عن أمراء وقادة كبار ! لقد وضعهم العز ابن عبد السلام أمام نار تلفح وجوههم، وقد أدرك قادة الجند أن لا مناص لهم من تجرع مرارة الذل خضوعا لأحكام الشريعة الإسلامية، نعم حاول بعضهم التمرد ولكنهم لما واجهوا شيخ الإسلام خارت قواهم وضعفوا وتحولوا إلى حملان وديعة تستفتي الشيخ ..

وهكذا عقد المزاد العلني في السوق وحضره الناس ونودي بالأمراء واحدا واحدا وتنافس التجار فيهم فإذا عجزوا عن الزيادة زاد وكيل السلطان نجم الدين أيوب في الثمن فاشترى الأمير وأودع ثمنه لدى شيخ الإسلام لبيت المال، ثم يعتق الأمير !! هل سمع الناس بذلة لله وشرعه كهذه من قبل؟!

أما المحنة الثانية : فعندما جد الأمر وهدد التتار مصر وأمروها بالاستسلام وإلا الخراب، وبدا أن لا مناص من الحرب، فهنا أمر شيخ الإسلام السلطان والجند بالاستعداد لملاقاة التتار، وبدأ تجهيز الجيش، فأمر السلطان سيف الدين قطز بجمع المال من العامة لتجهيز الجيش، فأفتى سلطان العلماء بأن ذلك لا يحل للسلطان والأمراء حتى يخرج السلطان وأمراؤه ما في قصورهم من الأثاث والأموال والدواب والحلي والزينة فإن لم تف فحينئذ يمكن النظر في أموال العامة، فانصاع السلطان وأمراؤه للأمر وأخرجوا ما في قصورهم طائعين هم ونساؤهم فاجتمع شيء عظيم كفى لتجهيز الجيش وزاد ولم يؤخذ شيء من العامة.

لقد كان عامة الناس في مصر وخاصتهم من العلماء على استعداد إيماني قبل دخول سلطان العلماء العز ابن عبد السلام إلى مصر، وذلك بفضل شيوخ صالحين من أولياء الله تربى على أيديهم أهل مصر، وعلى رأسهم الإمام العارف بالله أبو الحسن الشاذلي، فالعامة مفروغ من خضوعهم لله.

لكن هذين الامتحانين العظيمين لم يكونا موجهين لعامة الناس، بل كانا لخاصتهم من السلطان وأمرائه وحاشيته، وقد أجراهما الله على يد الشيخ العز ابن عبد السلام الدمشقي خاصة، ولا يمكن تحقق الصلاح ولا الخضوع التام لله تعالى إلا باستسلام هذه الطبقة المترفة لله، قال تعالى ﴿وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا أي أمرناهم بالطاعة ففسقوا، وفسق هذه الطبقة وحدها كاف في حلول البلاء.

لقد تعرض كثير من الكتاب والمؤرخين لهذه الحادثة مظهرين بذلك كل الإعجاب والتقدير لشخصية الإمام عز الدين ابن عبد السلام - وحق له ذلك - والذي لقب على أثرها بسلطان العلماء، ولكني هنا أتعرض لهذه الحادثة مظهرا الإعجاب والتقدير بسلطان مصر وأمرائه الذين خضعوا لله تعالى وأذلوا رقابهم ووجوههم له.

لقد نجح السلطان وأمراؤه في الامتحانين معا فهبت رياح النصر الرباني من حيث لا يحتسبون وتحقق الظفر العظيم على أخبث جيش عرفه التاريخ، لم يكن النصر متوقعا ولكنه حدث، وقد جرت فيه من الكرامات الربانية ما لا يخطر على بال، فلم يكن النصر بانكسار التتار في عين جالوت فحسب، بل إن الله تعالى سلط بعضهم على بعض، وألقى في قلوب كثير منهم الرعب من المسلمين ثم هيأ قلوبهم للإسلام فدخلوا فيه أفواجا حتى كانوا من حماة الإسلام وناشريه في ربوع الأرض.

والناظر في حال المسلمين اليوم يتعجب من رحمة الله تعالى وستره ولطفه وحلمه، مع توفر جميع أسباب السخط ونزول البلاء من المعاصي والعبث بالشريعة وكثرة الفسق وانتشار الربا والتبرج وقلة الحياء وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. نسأل الله العفو والعافية وصلاح الحال.

 

 

الجمعة، 7 نوفمبر 2025

الخامس والعشرون من رمضان 658هـ

 




الحمد لله الذي كسر شوكة التتار الطغاة بالعساكر المصرية والشامية ذوي التمكين، وقطع رأس الكفر بسيفٍ حلبيٍّ أمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، ورسول رب العالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.  

وبعد ..

أيها الشاميون، قدمنا مقالة: هل كان العاشر من رمضان نصرا والآن أقول: إن كنتم في شك من العاشر من رمضان فأين أنتم من الخامس والعشرين منه من سنة 658هـ؟ أنسيتموه؟

أنسيتم كلمات المؤرخ ابن الأثير الموصلي الجزري المشهورة إذ يقول :

(ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة

ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام

لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين .. فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا، .. فلو قال قائل : إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها... ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة، إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأمـا الدجال، فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح..)اهـ إلخ

وهذا النعي الأليم قاله ابن الأثير الجزري قبل وصول التتار إلى بغداد عاصمة الخلافة، وفعلهم بها الأفاعيل، وقتل الخليفة العباسي، وتدمير البلاد كلها، ثم أخذوا العراق كله، وبلاد الشام كلها، إما بالحرب المدمرة، وإما بالاستسلام المخزي، وعبارات المؤرخين بعد ابن الأثير الجزري في وصف هذا الخطب العظيم الأليم مشهورة لا نطيل بنقلها.

ولم يبق أمامهم إلا مصر، فكتب الملعون هولاكو إلى مصر يأمرها بالاستسلام، فسخروا منه وتوعدوه، وقطعوا رؤوس رسله الملاعين وعلقوها، فأمر الملعون هولاكو جيشه بالتقدم بإمرة كتبغا (كيتو بوقا) وكان هذا تعتقده التتار مؤيدا بالأرواح والسحرة والآلهة، يُنصرون ويَفتحون البلاد به.

وتحرك الجيش المصري على رأسه السلطان المظفر قطز ومعه أمراء المماليك الشجعان، ومعهم من كان التحق بهم من أمراء وجنود عساكر الشام الذين أبوا الاستسلام، والتقوا بالتتار المشركين في عين جالوت في التاريخ المذكور - والتتار في عتوهم وغرورهم ويقينهم بالنصر، والمسلمون في قلوبهم ما فيها من هول ما سمعوا من بأسهم - فأول الأمر هجم التتار فكسروا ميسرة المسلمين، فضرب الملك المظفر بخوذته الأرض وصاح "وا إسلاماه" فالتهبت القلوب، وباعوا أنفسهم لعلام الغيوب، فهجموا هجمة من كره الدنيا وأحب الآخرة، فإذا بجيوش التتار خاسرة منكسرة.

ووفق الله الأمير الشامي الحلبي جمال الدين آقوش الشمسي وأعانه في الرمي والضرب، فشق صدر جيش التتار إلى القلب، وأطار جملة من رؤوس من كفر وبغا، منها رأس الملعون كيتوبغا.

فلما رأى التتار ذلك بهتوا ودهشوا وتقهقروا، ولم يصدقوا ما عاينوا، فأعادوا جمعهم أعظم من الأول قرب بيسان، والتحم الجيشان، وزلزل المسلمون زلزالا عظيما، قال المؤرخ المقريزي :

(فصرخ السلطان صرخة عظيمة، سمعه معظم العسكر وهو يقول "وا إسلاماه" ثلاث مرات)

فكانت آية من آيات الله، فأخلص المسلمون وأيدهم الله بنصره، وأمدهم بجند من عنده، وربط على قلوبهم، وقذف الرعب في قلب عدوهم، فهُزم التتار وولوا هاربين، وتبعهم المسلمون يجتثونهم، حتى تحررت الشام كلها منهم وما يليها من العراق، ثم توالت الهزائم على التتار، والحمد لله رب العالمين.

أقول لو أن المسلمين هُزموا في هذه المعركة لذهب الإسلام، لأن من وراء مصر بلاد ممزقة، يقاتل بعضهم بعضا لا يقومون للتتار.

وأشبهت هذه المعركة معركة بدر التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن تهلك هذه العصابةَ لا تُعبد في الأرض) فكذلك يوم عين جالوت لو هزم فيه المسلمون لذهب الإسلام.

أيها الشاميون، إن كنتم في ريب من العاشر من أكتوبر فأي حجة لكم في يوم عين جالوت؟ إنه والله ليوم عظيم، أعظم من يوم سيناء، فالعدو يوم سيناء بعوضة أو ذبابة والإسلام عزيز، إذا ما قورن بالعدو يوم عين جالوت والمسلمون أذلاء.

وهو يومٌ نصر الله فيه الإسلام بسواعدكم أنتم والمصريين خاصة، وقد كان لكم فضل عظيم في هذا النصر لا يتسع الوقت لذكره هنا، لعلي أذكره فيما بعد.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الثلاثاء، 4 نوفمبر 2025

هل كان العاشر من رمضان نصرا ؟



الحمد لله المعز المذل، الخافض الرافع، والصلاة والسلام على نجم التوحيد اللامع الساطع، الساجد الراكع، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وكل من هو بإحسان مقتف وتابع.

وبعد ..

فرط مني فيما مضى مقال أسميته "شيخ النصر في العاشر من رمضان" (السادس من أكتوبر) ضمنته بشارة الرجل الصالح الشيخ أحمد حجاب للرئيس محمد أنور السادات، ورؤياه رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرهم بالنصر، والتي سمعها منه شيخ الأزهر عبد الحليم محمود فحكاها على منبر الأزهر الشريف، رحمهم الله جميعا.

لم أكن أنوي أن أكتب عن هذه الذكرى كلما تجددت، مع أنها من أيام الله، والله تعالى يقول (وذكرهم بأيام الله) فهي من أيام الله للمؤمنين نصرا، ومن أيام الله على المعتدين هزيمة ودحرا، ولو لم يكن من مكاسبها غير تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر ولا يتقهقر لكفى بذلك نصرا.

إلا أن الشام التي كانت تشاطر مصر الاحتفاء بهذه الذكرى دهرا طويلا ألغى إخواننا في حكومتها الانتقالية الحديثة الاحتفاء بها هذا العام.

علل أهل السياسة منهم ذلك أن "مصر استرجعت سيناء، ولكن سوريا خسرت الجولان" يريد أنه لم يكن نصرا يستحق الاحتفاء، إنما هو نصر هناك، وهزيمة هنا، وهذا لا يستحق - في رأيهم - الاحتفاء إلى حد الإجازة الرسمية، وفسر هذا المتكلم اهتمام النظام السابق بهذه المناسبة بأنه متاجرة ببطولات وهمية.

صحيح أن الحكم على المكاسب والخسائر في الحروب يختلف باختلاف الموازين التي تستعمل، فالميزان السياسي له حكم يختلف عن الميزان الاقتصادي، وهما قد يختلفان مع موازين أخرى .. ولهذا اختلف الناس في وزن "طوفان الأقصى" ما بين محتف به ومستاء من نتائجه، وهي رؤى اجتهادية لا تفسد عدالة القضية، ولا تنفي الحق، ومن حق إخواننا في بلاد الشام المباركة أن يزنوا الأمر بما يرونه مناسبا لهم.

لكن من حقهم علينا أيضا أن نلفتهم إلى رأي آخر له ثقله يتساءل عن هذا المنظار ذي العدسات المادية بأي لون ستبدو منه "الثورة السورية" نفسها ؟ أليس أوار خسائرها المادية والبشرية لا زال يبرِّح بالصدور ولا يكاد يَبْرحها ؟

أخشى - ولا أقطع - أن كثيرا من معاركنا التاريخية المجيدة لن تُرى أكاليلها الزاهية بهذا المنظار. 

حتى إن غزوة بدر الكبرى التي خرج المسلمون فيها قاصدين قافلة قريش لاسترجاع أموالهم التي سلبها المشركون لم يتحقق فيها مقصدهم وهدفهم، قال تعالى: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) صدق الله العظيم.

غير ذات الشوكة التي كان المسلمون يطلبونها هي القافلة، وقد فرت القافلة ولم يظفر المسلمون بها، ووقعت المعركة، وانجلت عن خسائر في الأنفس والأموال. 

كذلك، لكن ما ربحه المسلمون كان أكبر: نصر عسكري وسياسي ما كان يدور بخلدهم.

إن اشترطنا أن تتحقق كل المكاسب على أكف جميع الموازين ليحق لنا الاحتفاء بالنصر، فلن نجد أي نصر من هذا النوع في طول التاريخ وعرضه.

إن الاحتفال بمثل هذه المناسبات مستحب لما فيه من التذكير بأيام الله، وليس بواجب، واستحبابه مشروط بالقيود الشرعية وإلا لم يكن مستحبا.

وقد كنت أود أن أقترح على إخواننا الشوام - إذا تشبثوا برأيهم هذا - كنت أود اقتراح يوم آخر من أيام الله يحتفون به، ربح فيه المصريون والشاميون معا، وكان لكليهما في صناعته نصيب عظيم، ويطيب له خاطر مصر، كنت أود هذا.  

ولكن قبل أن تكلَّ ألسنة الإعلام العربي والإسلامي وحناجره من الحديث عن السادس من أكتوبر، وقبل أن تبرد حرارته وينطفئ جمره إذا بإخواننا في الحكومة الانتقالية الشامية يتحدثون بحديث مفاضلين فيه بين بعض الدول العربية في موضوع "التطور" مؤخرين مصر عما تستحقه من التقديم والتبجيل.  

الآن حصحص الحق، إنها واحدة بواحدة إذن ! فالعاشر من رمضان يذكر ويشكر، أو ينسى ويُكفر بما يكون عليه التطور من البرودة أو الحرارة.


أَوْرَدَها سعدٌ وسعدٌ مشتمل * ما هكذا يا سعد تُورَدُ الإبل


يا إخواننا الشاميين إنها مصر ! أتدرون ما مصر؟! تالله مهما كان من مصر مما لم يطربكم فما كان لكم – أيها الشاميون - خاصة أن تحزنوا مصر وتكدروا خاطرها، ولأنتم أولى الناس بالاستيصاء بمصر خيرا.

أتذكرون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الذي فدا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه مستقبلا سهام الموت المسددة إلى صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لم يمت طلحة ولكن شلت يده إلى الأبد، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنه : (من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله) فكذلك من سره أن ينظر إلى بلد شهيد لا يزال حيا فهي مصر.

أتذكرون ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في عثمان بن عفان الذي بدد ثروته في سبيل الله حتى جهز جيش العسرة بماله ؟ قال: (ما ضر عثمان ما عمل بعد هذا اليوم) قالها مرارا، فكذلك مصر لا جناح عليها في بعض هناتها فقد قدمت ما لا يمكن وصفه ولا حصره.

بل قولوا ماذا قدم غير مصر لمصر إذا قورن بما قدمته مصر؟

قد ألهاني هذا الحديث الأخير عن "التطور" عن ذكر اليوم الذي وددت اقتراحه على إخواننا الشاميين حتى طال الكلام، فليكن له مقال آخر غير هذا.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

(يتبع قريبا)

 

 

 

السبت، 23 أغسطس 2025

سورة عمر !!

 




عاد التلميذات إلى البيت مستبشرات بما وعدتهن به معلمتهن أنها ستقرأ معهن في الدرس القادم (سورة عمر) ! وانتشر الخبر عن هذه السورة الجديدة في تاريخ الإسلام !!

وجاء وقت الدرس الموعود ليحضره بعض الأساتذة بنية تصحيح هذا اللحن البشع :

·    إنها يا أستاذة ليست سورة عمر وإنما هي (سورة عم) !

·    لكنها موجودة في المصحف ! فما هذه الراء التي بعد الميم؟

·    إنها ليست راء يا أستاذة وإنما هي طريقة رسم الميم في قواعد خط "الثلث".

ذنب هذه المعلمة أنها لم يُدخلها ولي أمرها كُتَّابا لتعلم القرآن الكريم في الصغر (المطوع).

ولكن الذنب كل الذنب لقطبة المحرر – الخطاط الأموي - غفر الله له، فما كان أغناه عن اختراع خط "الثلث" و "الجليل" وتلك الأضاليل، ولو أنه جعلها زينة لثياب النساء ونمارق المجالس ونقوش الحوائط لهان الخطب ..

أكاد أترضى على ابن مقلة مهذب خط (النسخ) وألعن ما سواه من الخطوط، فقد أيقنت بعد معالجة ما لا أحصي من المخطوطات والوثائق أن جميع الخطوط - غير النسخ - إذا كتبت بها الوثائق الثمينة صارت كالأحاجي والطِلَّسِمات بأدنى اختلال في قواعد الرسم لاشتباه الحروف والنقط وتشابكها حينئذ.

ومع أدنى رطوبة أو تغير للحروف ينعدم الانتفاع بها، وتصير النقوش الفرعونية أقرب إلى الاكتشاف منها.

وأما خط الرقعة – الرقيع - فمن أبغض الخطوط إلى نفسي، قيل إن الذي اخترعه هو ممتاز بيك التركي سنة 1280هـ حتى عم الدولة العثمانية والتزمه علماؤنا من بلاد الروم وقلدتهم فيه الدوائر الرسمية التابعة للدولة العثمانية في سائر البلاد، وافتتن به علماء مصر والأزهر خصوصا في عصر التطوير والتجديد ! فكتبوا به كثيرا فضيعوا علينا الاستفادة من أنفس نصوصهم ..

وقريب منه في الرقاعة والحماقة الخط الفارسي الذي أولع علماؤنا من بلاد فارس والروم أيضا بالرسم به فصرت إذا نظرت إلى مخطوطة رومية أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وأستغفر الله لكاتبها ..

يا الله !! كم من وثيقة خطية مهمة كتبت بهذه الخطوط - التي هي إلى الطلسمات أقرب - فضاعت علينا فوائدها وكنوزها ولم نستطع بسببها التفريق بين محمد ومحمود ومسجد .. وصرت كلما عجزت عن فهم المقصود بسبب أحد هذه الخطوط أكاد أدعو على مخترعه.

بالله عليكم ما الحاجة إلى تلك الزوائد التي تلحق بالحروف قبلها أو بعدها أو فوقها أو تحتها فتزيدها جمالا – زعموا – ولكنها تجعلها مشتبهة مع كلمة أخرى خاصة عند من لم يحط بقواعد هذه الخطوط خبرا؟

لا يوجد أوضح ولا أظهر ولا أكثر بيانا وإشراقا من خط النسخ، ولا ريب أن المقصود الأول في الخط هو الوضوح وإيصال المعنى المقصود، وكل جمال يكون على حساب الوضوح فهو عبث وخلل، فعلموا أولادكم خط النسخ.