الحمد لله المعز المذل، الخافض الرافع، والصلاة والسلام على نجم التوحيد اللامع الساطع، الساجد الراكع،
سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وكل من هو بإحسان مقتف وتابع.
وبعد ..
فرط مني فيما مضى مقال أسميته "شيخ النصر في العاشر من رمضان" (السادس من أكتوبر) ضمنته
بشارة الرجل الصالح الشيخ أحمد حجاب للرئيس محمد أنور السادات، ورؤياه رسول الله
صلى الله عليه وسلم يبشرهم بالنصر، والتي سمعها منه شيخ الأزهر عبد الحليم محمود
فحكاها على منبر الأزهر الشريف، رحمهم الله جميعا.
لم أكن أنوي أن أكتب عن
هذه الذكرى كلما تجددت، مع أنها من أيام الله، والله تعالى يقول (وذكرهم بأيام
الله) فهي من أيام الله للمؤمنين نصرا، ومن أيام الله على المعتدين هزيمة
ودحرا، ولو لم يكن من مكاسبها غير تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر ولا يتقهقر
لكفى بذلك نصرا.
إلا أن الشام التي كانت
تشاطر مصر الاحتفاء بهذه الذكرى دهرا طويلا ألغى إخواننا في حكومتها الانتقالية
الحديثة الاحتفاء بها هذا العام.
علل أهل السياسة منهم ذلك
أن "مصر استرجعت سيناء، ولكن سوريا خسرت الجولان" يريد أنه لم
يكن نصرا يستحق الاحتفاء، إنما هو نصر هناك، وهزيمة هنا، وهذا لا يستحق - في رأيهم
- الاحتفاء إلى حد الإجازة الرسمية، وفسر هذا المتكلم اهتمام النظام السابق بهذه
المناسبة بأنه متاجرة ببطولات وهمية.
صحيح أن الحكم على
المكاسب والخسائر في الحروب يختلف باختلاف الموازين التي تستعمل، فالميزان السياسي
له حكم يختلف عن الميزان الاقتصادي، وهما قد يختلفان مع موازين أخرى .. ولهذا اختلف
الناس في وزن "طوفان الأقصى" ما بين محتف به ومستاء من نتائجه،
وهي رؤى اجتهادية لا تفسد عدالة القضية، ولا تنفي الحق، ومن حق إخواننا في بلاد
الشام المباركة أن يزنوا الأمر بما يرونه مناسبا لهم.
لكن من حقهم علينا أيضا
أن نلفتهم إلى رأي آخر له ثقله يتساءل عن هذا المنظار ذي العدسات المادية بأي لون
ستبدو منه "الثورة السورية" نفسها ؟ أليس أوار خسائرها المادية والبشرية لا زال يبرِّح بالصدور ولا يكاد يَبْرحها ؟
أخشى - ولا أقطع - أن كثيرا من معاركنا التاريخية المجيدة لن تُرى أكاليلها الزاهية بهذا المنظار.
حتى إن غزوة
بدر الكبرى التي خرج المسلمون فيها قاصدين قافلة قريش لاسترجاع أموالهم التي سلبها
المشركون لم يتحقق فيها مقصدهم وهدفهم، قال تعالى: (وتودون أن غير ذات الشوكة
تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) صدق الله
العظيم.
غير ذات الشوكة التي كان المسلمون يطلبونها هي القافلة، وقد فرت القافلة ولم يظفر المسلمون بها، ووقعت المعركة، وانجلت عن خسائر في الأنفس والأموال.
كذلك، لكن ما ربحه المسلمون كان أكبر: نصر عسكري وسياسي ما كان يدور بخلدهم.
إن اشترطنا أن تتحقق كل
المكاسب على أكف جميع الموازين ليحق لنا الاحتفاء بالنصر، فلن نجد أي نصر من هذا
النوع في طول التاريخ وعرضه.
إن الاحتفال بمثل هذه المناسبات مستحب لما فيه من التذكير بأيام الله، وليس بواجب، واستحبابه مشروط بالقيود الشرعية وإلا لم يكن مستحبا.
وقد كنت أود أن أقترح على إخواننا الشوام - إذا تشبثوا برأيهم هذا - كنت أود اقتراح يوم آخر من أيام الله يحتفون به، ربح فيه المصريون والشاميون معا، وكان لكليهما في صناعته نصيب عظيم، ويطيب له خاطر مصر، كنت أود هذا.
ولكن قبل أن تكلَّ ألسنة الإعلام
العربي والإسلامي وحناجره من الحديث عن السادس من أكتوبر، وقبل أن تبرد حرارته وينطفئ
جمره إذا بإخواننا في الحكومة الانتقالية الشامية يتحدثون بحديث مفاضلين فيه بين بعض الدول العربية في موضوع "التطور" مؤخرين مصر عما تستحقه
من التقديم والتبجيل.
الآن حصحص الحق، إنها
واحدة بواحدة إذن ! فالعاشر من رمضان يذكر ويشكر، أو ينسى ويُكفر بما يكون عليه
التطور من البرودة أو الحرارة.
أَوْرَدَها سعدٌ وسعدٌ مشتمل
* ما هكذا يا سعد تُورَدُ الإبل
يا إخواننا الشاميين
إنها مصر ! أتدرون ما مصر؟! تالله مهما كان من مصر مما لم يطربكم فما كان لكم –
أيها الشاميون - خاصة أن تحزنوا مصر وتكدروا خاطرها، ولأنتم أولى الناس بالاستيصاء بمصر خيرا.
أتذكرون ما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم في طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الذي فدا رسول الله
صلى الله عليه وسلم بنفسه مستقبلا سهام الموت المسددة إلى صدر رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ لم يمت طلحة ولكن شلت يده إلى الأبد، فكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول عنه : (من سره أن ينظر إلى
شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله) فكذلك من سره أن ينظر إلى بلد شهيد لا يزال حيا فهي مصر.
أتذكرون ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في عثمان بن عفان الذي بدد ثروته في سبيل الله حتى جهز جيش العسرة بماله ؟ قال: (ما ضر عثمان ما عمل بعد هذا اليوم) قالها مرارا، فكذلك مصر لا جناح عليها في بعض هناتها فقد قدمت ما لا يمكن وصفه ولا حصره.
بل قولوا ماذا قدم غير مصر لمصر إذا قورن بما قدمته مصر؟
قد ألهاني هذا الحديث الأخير عن "التطور" عن ذكر اليوم الذي وددت اقتراحه على إخواننا الشاميين حتى طال الكلام، فليكن له مقال آخر غير هذا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(يتبع قريبا)


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق