الجمعة، 7 نوفمبر 2025

الخامس والعشرون من رمضان 658هـ

 




الحمد لله الذي كسر شوكة التتار الطغاة بالعساكر المصرية والشامية ذوي التمكين، وقطع رأس الكفر بسيفٍ حلبيٍّ أمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، ورسول رب العالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.  

وبعد ..

أيها الشاميون، قدمنا مقالة: هل كان العاشر من رمضان نصرا والآن أقول: إن كنتم في شك من العاشر من رمضان فأين أنتم من الخامس والعشرين منه من سنة 658هـ؟ أنسيتموه؟

أنسيتم كلمات المؤرخ ابن الأثير الموصلي الجزري المشهورة إذ يقول :

(ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة

ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام

لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين .. فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا، .. فلو قال قائل : إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها... ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة، إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأمـا الدجال، فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح..)اهـ إلخ

وهذا النعي الأليم قاله ابن الأثير الجزري قبل وصول التتار إلى بغداد عاصمة الخلافة، وفعلهم بها الأفاعيل، وقتل الخليفة العباسي، وتدمير البلاد كلها، ثم أخذوا العراق كله، وبلاد الشام كلها، إما بالحرب المدمرة، وإما بالاستسلام المخزي، وعبارات المؤرخين بعد ابن الأثير الجزري في وصف هذا الخطب العظيم الأليم مشهورة لا نطيل بنقلها.

ولم يبق أمامهم إلا مصر، فكتب الملعون هولاكو إلى مصر يأمرها بالاستسلام، فسخروا منه وتوعدوه، وقطعوا رؤوس رسله الملاعين وعلقوها، فأمر الملعون هولاكو جيشه بالتقدم بإمرة كتبغا (كيتو بوقا) وكان هذا تعتقده التتار مؤيدا بالأرواح والسحرة والآلهة، يُنصرون ويَفتحون البلاد به.

وتحرك الجيش المصري على رأسه السلطان المظفر قطز ومعه أمراء المماليك الشجعان، ومعهم من كان التحق بهم من أمراء وجنود عساكر الشام الذين أبوا الاستسلام، والتقوا بالتتار المشركين في عين جالوت في التاريخ المذكور - والتتار في عتوهم وغرورهم ويقينهم بالنصر، والمسلمون في قلوبهم ما فيها من هول ما سمعوا من بأسهم - فأول الأمر هجم التتار فكسروا ميسرة المسلمين، فضرب الملك المظفر بخوذته الأرض وصاح "وا إسلاماه" فالتهبت القلوب، وباعوا أنفسهم لعلام الغيوب، فهجموا هجمة من كره الدنيا وأحب الآخرة، فإذا بجيوش التتار خاسرة منكسرة.

ووفق الله الأمير الشامي الحلبي جمال الدين آقوش الشمسي وأعانه في الرمي والضرب، فشق صدر جيش التتار إلى القلب، وأطار جملة من رؤوس من كفر وبغا، منها رأس الملعون كيتوبغا.

فلما رأى التتار ذلك بهتوا ودهشوا وتقهقروا، ولم يصدقوا ما عاينوا، فأعادوا جمعهم أعظم من الأول قرب بيسان، والتحم الجيشان، وزلزل المسلمون زلزالا عظيما، قال المؤرخ المقريزي :

(فصرخ السلطان صرخة عظيمة، سمعه معظم العسكر وهو يقول "وا إسلاماه" ثلاث مرات)

فكانت آية من آيات الله، فأخلص المسلمون وأيدهم الله بنصره، وأمدهم بجند من عنده، وربط على قلوبهم، وقذف الرعب في قلب عدوهم، فهُزم التتار وولوا هاربين، وتبعهم المسلمون يجتثونهم، حتى تحررت الشام كلها منهم وما يليها من العراق، ثم توالت الهزائم على التتار، والحمد لله رب العالمين.

أقول لو أن المسلمين هُزموا في هذه المعركة لذهب الإسلام، لأن من وراء مصر بلاد ممزقة، يقاتل بعضهم بعضا لا يقومون للتتار.

وأشبهت هذه المعركة معركة بدر التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن تهلك هذه العصابةَ لا تُعبد في الأرض) فكذلك يوم عين جالوت لو هزم فيه المسلمون لذهب الإسلام.

أيها الشاميون، إن كنتم في ريب من العاشر من أكتوبر فأي حجة لكم في يوم عين جالوت؟ إنه والله ليوم عظيم، أعظم من يوم سيناء، فالعدو يوم سيناء بعوضة أو ذبابة والإسلام عزيز، إذا ما قورن بالعدو يوم عين جالوت والمسلمون أذلاء.

وهو يومٌ نصر الله فيه الإسلام بسواعدكم أنتم والمصريين خاصة، وقد كان لكم فضل عظيم في هذا النصر لا يتسع الوقت لذكره هنا، لعلي أذكره فيما بعد.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الثلاثاء، 4 نوفمبر 2025

هل كان العاشر من رمضان نصرا ؟



الحمد لله المعز المذل، الخافض الرافع، والصلاة والسلام على نجم التوحيد اللامع الساطع، الساجد الراكع، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وكل من هو بإحسان مقتف وتابع.

وبعد ..

فرط مني فيما مضى مقال أسميته "شيخ النصر في العاشر من رمضان" (السادس من أكتوبر) ضمنته بشارة الرجل الصالح الشيخ أحمد حجاب للرئيس محمد أنور السادات، ورؤياه رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرهم بالنصر، والتي سمعها منه شيخ الأزهر عبد الحليم محمود فحكاها على منبر الأزهر الشريف، رحمهم الله جميعا.

لم أكن أنوي أن أكتب عن هذه الذكرى كلما تجددت، مع أنها من أيام الله، والله تعالى يقول (وذكرهم بأيام الله) فهي من أيام الله للمؤمنين نصرا، ومن أيام الله على المعتدين هزيمة ودحرا، ولو لم يكن من مكاسبها غير تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر ولا يتقهقر لكفى بذلك نصرا.

إلا أن الشام التي كانت تشاطر مصر الاحتفاء بهذه الذكرى دهرا طويلا ألغى إخواننا في حكومتها الانتقالية الحديثة الاحتفاء بها هذا العام.

علل أهل السياسة منهم ذلك أن "مصر استرجعت سيناء، ولكن سوريا خسرت الجولان" يريد أنه لم يكن نصرا يستحق الاحتفاء، إنما هو نصر هناك، وهزيمة هنا، وهذا لا يستحق - في رأيهم - الاحتفاء إلى حد الإجازة الرسمية، وفسر هذا المتكلم اهتمام النظام السابق بهذه المناسبة بأنه متاجرة ببطولات وهمية.

صحيح أن الحكم على المكاسب والخسائر في الحروب يختلف باختلاف الموازين التي تستعمل، فالميزان السياسي له حكم يختلف عن الميزان الاقتصادي، وهما قد يختلفان مع موازين أخرى .. ولهذا اختلف الناس في وزن "طوفان الأقصى" ما بين محتف به ومستاء من نتائجه، وهي رؤى اجتهادية لا تفسد عدالة القضية، ولا تنفي الحق، ومن حق إخواننا في بلاد الشام المباركة أن يزنوا الأمر بما يرونه مناسبا لهم.

لكن من حقهم علينا أيضا أن نلفتهم إلى رأي آخر له ثقله يتساءل عن هذا المنظار ذي العدسات المادية بأي لون ستبدو منه "الثورة السورية" نفسها ؟ أليس أوار خسائرها المادية والبشرية لا زال يبرِّح بالصدور ولا يكاد يَبْرحها ؟

أخشى - ولا أقطع - أن كثيرا من معاركنا التاريخية المجيدة لن تُرى أكاليلها الزاهية بهذا المنظار. 

حتى إن غزوة بدر الكبرى التي خرج المسلمون فيها قاصدين قافلة قريش لاسترجاع أموالهم التي سلبها المشركون لم يتحقق فيها مقصدهم وهدفهم، قال تعالى: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) صدق الله العظيم.

غير ذات الشوكة التي كان المسلمون يطلبونها هي القافلة، وقد فرت القافلة ولم يظفر المسلمون بها، ووقعت المعركة، وانجلت عن خسائر في الأنفس والأموال. 

كذلك، لكن ما ربحه المسلمون كان أكبر: نصر عسكري وسياسي ما كان يدور بخلدهم.

إن اشترطنا أن تتحقق كل المكاسب على أكف جميع الموازين ليحق لنا الاحتفاء بالنصر، فلن نجد أي نصر من هذا النوع في طول التاريخ وعرضه.

إن الاحتفال بمثل هذه المناسبات مستحب لما فيه من التذكير بأيام الله، وليس بواجب، واستحبابه مشروط بالقيود الشرعية وإلا لم يكن مستحبا.

وقد كنت أود أن أقترح على إخواننا الشوام - إذا تشبثوا برأيهم هذا - كنت أود اقتراح يوم آخر من أيام الله يحتفون به، ربح فيه المصريون والشاميون معا، وكان لكليهما في صناعته نصيب عظيم، ويطيب له خاطر مصر، كنت أود هذا.  

ولكن قبل أن تكلَّ ألسنة الإعلام العربي والإسلامي وحناجره من الحديث عن السادس من أكتوبر، وقبل أن تبرد حرارته وينطفئ جمره إذا بإخواننا في الحكومة الانتقالية الشامية يتحدثون بحديث مفاضلين فيه بين بعض الدول العربية في موضوع "التطور" مؤخرين مصر عما تستحقه من التقديم والتبجيل.  

الآن حصحص الحق، إنها واحدة بواحدة إذن ! فالعاشر من رمضان يذكر ويشكر، أو ينسى ويُكفر بما يكون عليه التطور من البرودة أو الحرارة.


أَوْرَدَها سعدٌ وسعدٌ مشتمل * ما هكذا يا سعد تُورَدُ الإبل


يا إخواننا الشاميين إنها مصر ! أتدرون ما مصر؟! تالله مهما كان من مصر مما لم يطربكم فما كان لكم – أيها الشاميون - خاصة أن تحزنوا مصر وتكدروا خاطرها، ولأنتم أولى الناس بالاستيصاء بمصر خيرا.

أتذكرون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الذي فدا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه مستقبلا سهام الموت المسددة إلى صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لم يمت طلحة ولكن شلت يده إلى الأبد، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنه : (من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله) فكذلك من سره أن ينظر إلى بلد شهيد لا يزال حيا فهي مصر.

أتذكرون ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في عثمان بن عفان الذي بدد ثروته في سبيل الله حتى جهز جيش العسرة بماله ؟ قال: (ما ضر عثمان ما عمل بعد هذا اليوم) قالها مرارا، فكذلك مصر لا جناح عليها في بعض هناتها فقد قدمت ما لا يمكن وصفه ولا حصره.

بل قولوا ماذا قدم غير مصر لمصر إذا قورن بما قدمته مصر؟

قد ألهاني هذا الحديث الأخير عن "التطور" عن ذكر اليوم الذي وددت اقتراحه على إخواننا الشاميين حتى طال الكلام، فليكن له مقال آخر غير هذا.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

(يتبع قريبا)