المقامة الواقْ وَاقِيَّة
حدثني شهاب الدين أبو العباس ابن حبيب قال :
كنت برهة خِدْن أبي الحسن العيني المشهور
ـ شُرَطِي المرور ـ فصادفته مشتملا هَمَّا، وبالحزن مُعْتَمَّا .. عَيْنُه أضحت بَغْلا شموسا، ولسانه
كأنما انعقد على موسى، فاضطرتني قيود الصحبة السالفة، وحبال الأخوة المتعارَفة، أن أواسيَه
في مصابه، وأحتمل معه بعض ما به، فأَنَخْتُ عند دراجته رحالي، وأذكرته الأيام الخوالي،
فلما اطمأنت إليَّ نَفْسُه ـ وكانت حَرُودا ـ وعاد إليه نَفَسُهُ ـ وكان شرودا ـ سألته عن سر
غروب بَسَمَاته من بعد إشراق، وخمود قَسَماته من بعد اشتعال واحتراق؟
فقال : ما علمك بالوقواقيين؟
فقلت : أولئك قوم يسكنون البروج العالية،
والجزائر النائية، لا يمسهم فقر، ولا يلحقهم صقر، لا تحرقهم نيران، ولا يصلهم دخان،
ولا يثور عليهم غبار، ولا يعمل فيهم السيف البتار، إذا غضب أحدهم رجف وانتفخ، ثم
استوفز فنفخ، فأرعد وأبرق، فأصاب فأحرق ..
لا يردعهم عرف ولا قانون، حاشا سيف المنون.
قال : فهل تحس منهم من أحد ـ هنا ـ أو
تسمع لهم ركزا ؟
قلت : لا
قال : فهم حولك وأنت لا تشعر !
قلت : كيف ذلك؟!!!!
قال : تشبهوا بالناس، في الطباع واللباس،
فلا تعرفهم بفرق، حتى تعاين البرق، غير أن كبير الوقواقيين ـ وهو أعقلهم ـ قد
نهاهم عن النفخ والتفل قبل الإعذار والإنذار، وأمرهم بالحلم والاصطبار.
ثم قال :
رأيت بالأمس ـ عند قهوة المطار ـ سيارات
في شكل قطار، تقف في وسط الطريق، وتمنع المرور من الضيق، فترجلت عندها لأسجل
المخالفة لأولها، فجاءني رجل طويل، في لباس عربي أصيل، فقال لي : ما تصنع؟
قلت : أسجل المخالفة المرورية، وأقوم بوظيفتي
الضرورية.
فقال : يا حمار ! ألا ترى الناس جلوسا في
القهوة ـ وهذه سياراتهم ـ فأين منك إنذارهم وتنبيههم؟ أحمار أنت؟
فقلت له ـ وقد تعجبت من جرأته على سبي ـ :
أَنِلْنِي رخصتَك.
فقال : لا أنيلك إياها، وائت بضابطك.
فلما جاء ضابطي ومعه جماعة من شُرَط المرور
قال له الرجل : إن هذا الحمار فعل وفعل .. وإن هؤلاء الحمير معك يفعلون ويفعلون ..
فلما فرغ الرجل من سبنا، وشبع من شتمنا قال
له ضابطي بعد صمت مديد : هات رخصتك بلا مزيد.
فلما أخرج الرجل رخصته ورَمَقَها الضابط، ضرب
الأرض بِخُفِّه، وكبر له بِكَفِّه، واعتذر بمولاي وسيدي، ورجع ورا، وسحبني القَهْقَرَي.
فقلت له : ما لك كأنك خشيت على نفسك فوتا،
أو عاينت تلفا وموتا؟!!
فقال
: ما قلتَ شيئا فريا، لقد كان وقواقيا !!!
قال أبو الحسن الشرطي :
وأزيدك أني كنت من يومين في حاجز تفتيش
وفحص، فمرت سيارة ـ وضابطي يشير إليَّ إشارة عَجْماء، يضرب بكفيه الهواء ـ فظننته يعني
أَدْرِك سيارة العجوز لئلا يجوز، فأوقفت سيارته وطلبت رخصته، وقبل أن تنعقد مني
الكلمات، باغتتني عصاه بضربات، فتعجبت من جرأته أمام الناس، وتهيأت لمناجزته، وقبض
حنجرته، غير أن لطف الله بدا لائحا، إذ أدركني ضابطي صائحا : خله خله .. فخليته،
ثم قال لي ضابطي : إنه وقواقي !!
أعلمت يا أبا العباس ما أعانيه من البلاء
العظيم، وأقاسيه من الخطر الجسيم؟! وإني لمحتار في أمر قُطَّاع الطريق والإضاءةُ حمراء، أأدَعُهُم فأسلم أم أتبعهم فأندم، فإني لا أضمن أن لا يكون أحدهم وقواقيا مريدا،
فيتفل في ثيابي ويحرق إهابي، أو ينفخ في وجهي فيجعله فحمة، أو يذيب جبيني بلا رحمة،
فما قولك يا أبا العباس؟
فقلت له : هل من سبيل إلى تمييزهم من بعيد
دون اقتراب، ومعرفتهم بلا خلطة أو احتراب؟
فقال : لا سبيل إلى ذلك إلا بفحص الرخص
والأوراق، ومعاينة : فلان بن فلان من واق واق، أو تسمع منه لكنة أو رابط، كقوله :
(بابا زابط) فحينئذ تعلم أنه وقواقي جبار، وأنك على شفا جرف هار.
فقلت : إنك لهالك مقبور، إن بقيت في شرط
المرور، فاسمع نصيحتي واطلب السلامة، واترك الشرط في غير ندامة، ثم أنشدته :
جانب الوقواق واحذر نفخه ** لا تعاند من
بنيران تفل
يبصق الوقواق في الوجه فلا ** ينفع الطب
إذا الموت نزل
بوركتم مولانا
ردحذف