((المقامة الصَّنْدَلِيَّة))
أصل هذه المقامة أني كنت في بلدة
"ما يجري؟" (1) المناوحة (2) لـ "فَيْس" (3) و"تغاريد" (4) إذا ببدر
الدين بن أبي الهواجر ـ فتى من أهل ناحيتنا ـ قد أقبل نحوي مُنْجَرِدا (5) يصيح يا أبا حُمَيدٍ المالكي .. يا أبا حُمَيدٍ المالكي
!! فقلت : على رسلك يافتى، ودونك غداءَك، ثُمَّتَ قل ما وراءك.
فقال يا أبا حميد دعك من الغداء الساعة ..
أَبَلَغَكَ ما كان بين القاضي أبي فَسَادَة الموصلي، والمحتسب أبي إسحقَ الصوفي الصندلي؟؟
قلت : لا.
فقال : إن القاضي أبا فسادة ـ على غير
العادة ـ دخل ضحى مجلس الشيخ أبي إسحق الصندلي المعتاد، حتى إذا ما بلغ الصندلي التذكيرَ
بيوم المعاد، وقُضِيت الأذكار، وفرغ القَوَّال (6) من الأشعار، انثنى أبو فسادة إلى أبي إسحق فشكاك إليه مُرَّ الشكوى، فكأن الشيخ أبا إسحق يُلدَغُ أو يُكْوى، والناس عليه مقبلة، والشيخ يُتْبِعُ
حوقلة بحوقلة (7) ، وذَكَرَ له من أَمْرِك أشياءَ لم أعِ معناها، ولم أحفظ
مبناها، إلا أني سمعته يرميك بسوء الطوية، وفساد النية !! فانهض إليه الساعة طالبا
الإصلاح، وخاطبا الفلاح، فإن أبا إسحق صوفيُّ البلاد، ومربي العباد، والناس إليه
مائلة، وبقوله قائلة، فاطلب السلامة برضاه، وكن رِدْفَ هواه.
فأخذت القلم والدواة، وكتبت إليه المقامة
المهداة :
((بسم الله المقسط الحكم العدل ..
من أبي حميد المالكي إلى أبي إسحق إبراهيم
الصندلي، الزاهد العابد الصوفي الموصلي، محتسب بلدتنا، ومجدد ملتنا، سلام من الله
عليك ورحمات ..
وبعد ..
فقد بلغني ما اضْطَبَنَتْه (8) نفسُك، واشتملت عليه حَوْباؤُك (9) مما نَجْـنَجَ (10) به أبو فسادة عند مَسِيحَتك (11) وفي
حضرة أخلامك (12) حتى
تركك تغلي كالمِرْجَل (13)، فاعلم الآن ما اختبأ عنك ـ أو نسيته ـ من أمر بَلَدِيِّكَ
وابن خالتك أبي فسادة :
أبو فسادة الموصلي
إن أبا فسادة قد لعب بالأحباس (14) وتعدى شروط الناس، وآجر بعضها بأثمان دَنِيَّة، لعيون أصحابه الموصلية، وأسلم
المدارس للاندثار، حتى عَفَتْ (15) منها الآثار ..
أما المساجد فكأنها بيوت أبيه، يعزل من
شاء ويوليه، مخالفا شروطها ومبدلا ما كانت عليه، ومستعملا فيها من مال من خواصه
إليه، وهذه السنون قد مضت مَلِيَّا (16)، وما ولَّى إلا فساديا أو موصليا ! وقد امتلأت الجوامع
من ألواحه الصفراء، وعلاماته الفسادية، كأن الله لم يهد إلى الحق سواه !! وايم
الله .. لو رام الواقف أو نظاره مثل ما يفعل قاضيكم ـ وهم أهل الحق دونه ـ لسلط
عليهم الأعوان، واستعدى السلطان .. فانظر يا أبا إسحق إلى ابن خالتك الموصلي ما
صنع مما خالف شرعة الإسلام وسنة خير الأنام، حتى كشف الله للناس أمره وأظهر سرَّه،
ونزع ستره، فبدت ـ علانية ـ تلك الفضائح،
وأصبحت مَطْنَـزَةَ (17) الغادي والرائح ..
والعجب يا أبا إسحق أنك أعلم الناس بفساد
أمره، فقد أطلعك الله من بين سائر الناس على خباياه، وعظيم بلاياه، فما بالك
انقلبت على عقبيك؟؟
ألا تذكر يوم وقوفك مذكرا في مسجد بني
كانون وقد جهر أصحابك الزهاد بحديث الملك الكذاب؟؟!!
فهل بلغك عن أحد منا وصفك بالخارجي المارق؟
فتركت من ذموك علانية وانبريت إلينا وقد أحسنا فيك الظن والقول؟! ما أنصفت يا أبا
إسحق.
وأما خوض ابن خالتك في سوء النية، وفساد
الطوية، وتصديقك إياه، فذلك علم غاب عن الأنبياء فمن أين عَلِمَه ابنُ خالتك فَصَدَّقْته؟
قد كان يقال "المريد كالميت بين يدي
مغسله" أفصار الشيخ ميتا بين يدي ابن خالته ؟!
ولا يغرنك امتناع الناس من الشكاية عليه
عندك وعند السلطان، فما منعهم إلا علمهم بأنه ابن خالتك، وأنت رئيس الحِسْبِة وذو
حاشية من الصوفية الأمارة بالمعروف الناهية عن المنكر، فاحتشموا منك، كما علموا ميل
السلطان إليه فخافوه.
فأعرض عن هذا يا إبراهيم .. فقد طفح الكيل
وبلغ السيل الزبى، وسار بجور ابن خالتك الركبان، أما سمعت أبا يوسف الماجن حينما
أنشد :
متى يَسمع السلطانُ شَكْوى المدارسِ
وأوقافها ما بين عافٍ ودَارسِ
يموت عديم القوت بالجوع حسرة
ويشبع بالأوقاف أهل الطيالس
وبعد يا أبا إسحق إن ما عرفناه من صلاحك، وصدق
لهجتك وسلامة صدرك ـ خلا ميلك إلى ابن خالتك ـ قد جرأنا عليك فلا تجد في نفسك
علينا، لا حرمنا الله من بركاتك وعاطر نفحاتك وطاهر أنفاسك، جلَّلَك الله بجلباب العافية،
وزانك بلباس التقوى، (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ، ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) والسلام عليكم ورحمة الله.
اذهب الآن يا فتى بالقرطاس إلى أبي إسحق
الصندلي واهمس في أذنه : يقول لك أبو حميد اقرأ الآية السابعة بعد المائة من سورة
النساء.
ــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ الواتساب.
(2) ـ المقابلة.
(3) ـ الفيسبوك.
(4) ـ تويتر.
(5) ـ مسرعا.
(6) ـ المنشد.
(7) ـ الحوقلة : قول لا حول ولا قوة إلا بالله.
(8) ـ حملته.
(9) ـ نفسك.
(10) ـ تكلم بكلام غير مستقيم.
(11) ـ ما بين الأذن وحاجب العين.
(12) ـ أصحابك.
(13) ـ القِدْر.
(14) ـ الأوقاف.
(15) ـ اختفت.
(16) ـ طويلا.
(17) ـ الطَنـز : السخرية.
(17) ـ الطَنـز : السخرية.
سلمت يداك مولانا .. هههه
ردحذفشكراً مولانا جميل جداً
ردحذفمما ورد في إحدى الحواشي على (المقامة الصَنْدَلِيِّة)
ردحذفإن مما أحدثه القاضي أبو فسادة الموصلي في مساجد بلدة "ما يجري؟" أنه لا يولي إمامتها إلا فسادياً أو موصلياً..
بل زاد في غَيِّه! عندما سأله أحد وجهاء البلدة عن ذلك..
فأجاب بأنه قد اجتهد في الدين على جهل، وابتدع شرطاً لم يشترطه أحدٌ من المسلمين لا قبلُ ولا بعدُ، لا في الشرق ولا في الغرب، فجعل من شروط صحة الإمامة في الصلوات الخمس الجماعيّة، والقيام بالخُطَب الجُمَعِيِّة، أن يكون القائم بتلك الوظيفة ممن لا يحضر المجالس المَولِديّة، التي يُصلى فيها على خير البريّة، عليه الصلاة والسلام.
ما شككنا في هذا أبدا ولا ارتبنا ونعلمه علم اليقين ويجب أن يعلمه الناس.
حذفما شاء الله جميل جدا جدا..
ردحذف