الجمعة، 14 فبراير 2014

وعود الملك عبد العزيز بن سعود ونجاة المدارس الإسلامية في الأحساء والحجاز

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المتصف بالقِدَم والبقاء، والصلاة والسلام على خاتم الرسل وإمام الأنبياء، وعلى آله المطهرين وصحابته الأكرمين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..

وبعد ..

لا أحد ممن له مساس بالمعارف يجهل اسم المدرسة الصَّوْلَتِيَّة في مكة المكرمة، أقدم مدارس الحجاز الأهلية، عُمُرُها 145 سنة، والتي أنفقت في إنشائها المرأة الهندية الثرية المحسنة "صولت النساء" سنة 1290هـ رحمها الله تعالى، وأشرف عليها العلامة الكبير رحمة الله بن خليل الهندي الكيرانوي الحنفي النقشبندي مؤلف الكتاب العظيم "إظهار الحق" في الرد على النصارى رحمه الله تعالى، والناس يتحدثون أن الملك عبد العزيز آل سعود زارها ووصفها بأنها "أزهر بلادي" ولا يزال يديرها حفيد الشيخ رحمة الله الهندي إلى اليوم، وقد انتقلت المدرسة إلى مبناها الجديد قريبا بعد أن دخل المبنى القديم في التوسعة الجديدة للحرم.

مبنى المدرسة الصولتية القديم

المبنى الجديد للمدرسة الصولتية

كذلك هناك عشرات المدارس في الأحساء، ففي منطقة "المُـبَـرَّز" وحدها نحو عشر مدارس للمالكية مثل :

مدرسة آل عفالق، ومدرسة آل موسى، ومدرسة آل غنام، ومدرسة ابن كثير، ومدرسة الرميص الجحاحفة، ومدرسة السكار، ومدرسة سعدون بن سيف السعدون، ومدرسة الجبري، ومدرسة الحاج بكر المعروفة بمدرسة السيد الزواوي، ومدرسة آل خليفة حكام البحرين ..


وفي منطقة "الهفوف":
مدرسة النعاثل، ومدرسة الشهارنة، ومدرسة الشريفة، ومدرسة الحبيشية، ومدرسة السويق، ومدرسة الجعفر، ومدرسة الصالحية .. [انظر كتاب نبذة مختصرة عن المذهب المالكي للعلامة عبد الحميد آل الشيخ مبارك]

وكتب إلي الأستاذ البحاثة حسن الحسين الأحسائي المالكي قائلا : "لكل مذهب مدارس نشطة وأخرى مهملة، فمثلا من المدارس النشطة للحنفية : المدرسة الشلهوبية، والمدرسة الجديدة، ورباط آل أبي بكر [ أقول : وهذا الرباط كان مقصد كل طالبي العلم من أهل البحرين في القرنين الماضيين ]

وللشافعية من المدارس النشطة : مدرسة العثمان، ومدرسة العبد اللطيف، وبانيها محسن من أهل البحرين مالكي المذهب من أسرة آل الفاضل العريقة المشهورة، أوقفها على آل عبد اللطيف الشافعية، ونَصَّ على أن المذهب المالكي يلي المذهب الشافعي في التدريس .." انتهى مضمون ما كتب به إليَّ الأستاذ الحسين.

مدرسة آل عبد اللطيف الشافعي


رباط الشيخ عبد الله الملا الحنفي الشهير

وكل هذه المدارس لا تزال في يد أهلها، إما أصلحوا من شأنها وأقاموها فجعلوها ناشطة، وإما هم بسبيل إحيائها وترميمها إذا توفرت لهم المكنة والقدرة .. وهذه المدارس محصورة في إقليمين : (الحجاز) و (الأحساء) ..

وبينما كنت مشغولا بمقالي : 
(رحلة في تاريخ القِيَم ، من استقالة القحفازي إلى استقالة الذمم)

كنت أتعجب من بقاء المدرسة الركنية وكثير من الأوقاف في بلاد الشام وغيرها والتي عُمِّرَ بعضها 800 سنة وأتعجب من اندثار مدارسنا الوقفية المالكية في مملكة البحرين التي لا يصل عمر أكثرها إلى 150 سنة !! ثم ثار في ذهني تساؤل آخر، كيف اندثرت مدارسنا الوقفية كلها في البحرين وإلى جوارنا في الأحساء عشرات المدارس الوقفية ـ بعضها لمحسنين من أهل البحرين ـ لا تزال باقية ؟؟!!!  

إنه استفهام مُلِحّ مُزْعِج .. كيف نجت مدارس الحجاز والأحساء من يد الهدم والتدمير والتخريب أو الاستحواذ والاستيلاء في أتون معارك وحروب دينية دامية عنيفة، وتعاقب دول، في حين لم تسلم مدرسة واحدة من يد الإهمال والتفريط في مملكة البحرين كمدرسة ابن خاطر وابن مطر والزياني وابن مهزع وغيرها من المدارس والمنشآت الوقفية المالكية والشافعية في ظل الأمن والأمان ورغد العيش ؟؟!!
وكيف بقي علماء مدارس الأحساء والحجاز من شتى المذاهب مدرسين في الحرم وقضاة في المحاكم الشرعية مع أنهم باقون على مذاهبهم الاعتقادية والفقهية والسلوكية لم يتغير فيهم شيء ؟؟!!

إجابة هذا السؤال الكبير تحتاج منا إلى سرد سريع لشيء من تاريخ المملكة السعودية، ثم نتوقف عند حدث تاريخي مهم غفل عنه كثير من المؤرخين والباحثين يفسر لنا سر بقاء هذه المدارس، بل وسر توقف تلك الحروب العنيفة التي سالت فيها دماء المسلمين بحجة نشر الإسلام من جديد !!

فالقارئ لتاريخ الدولة السعودية يعلم بأنها مرت بثلاث مراحل :


المرحلة الأولى : بدأت سنة ( 1157هـ) واتسمت بالتشكيك في إسلام المسلمين، فالشدة والعنف، فالتوسع الدموي، الذي انتهى بالسيطرة على الحجاز لمدة قصيرة، وكانت تستقي تعاليمها من فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1206هـ فَجَرَّت عليها عداوة العالم الإسلامي كله، وانتهى الأمر بالقضاء عليها في مهدها سنة (1233هـ) على يد إبراهيم باشا بن محمد علي باشا بأمر الدولة العلية العثمانية، وأُعدِم قائدها السياسي في اصطنبول ونفي زعماؤها الدينيون إلى مصر.

نص من تاريخ نجد لابن غنام يعكس نهج هذه المرحلة


المرحلة الثانية : بدأت سنة (1240هـ) وكانت أعقل من سابقتها وأكثر اعتدالا، ولكن الخلاف دب بين الإخوة وأبناء العمومة، حتى شك بعضهم في إسلام بعض، ففشلت الدولة وقضت سنة (1309هـ).

أما المرحلة الثالثة : فقد بدأت تظهر ملامحها من سنة (1319هـ) عندما تمكن عبد العزيز آل سعود من فرض سيطرته على الرياض، ثم ضم الحجاز والأحساء وإعلان المملكة العربية السعودية سنة (1351هـ).



في الوسط مبارك الصباح والملك عبد العزيز على يمينه
وهي أقدم صورة له فيما يقال

فتلك المدارس إذا لم تكن دخلت تحت سيطرة الدولة السعودية الأولى أو الثانية بشكل كامل بسبب ضعف السيطرة أو الحذر الشديد من ردة فعل الدولة العثمانية فلا شك أنها دخلت تحت سلطة الدولة السعودية الثالثة، دولة الملك عبد العزيز آل سعود، فكيف لم تنلها يد العبث والتخريب؟؟

لقد ورث الملك عبد العزيز عبئا ثقيلا وتجارب كثيرة من الماضي البعيد والقريب، ولم يشأ أن يتكرر ما حدث في الماضي من استعداء العالم الإسلامي كله بسبب تصرفات البدو الذين يقودهم، وبالرغم من التقدم الحذر ناحية الحجاز فهاهو يتورط مع بعض قواده كسلطان بن بجاد وخالد بن لؤي بطلا مذبحة الطائف، التي طار خبرها شرقا وغربا، وذَكَّرَت العالم بما مضى، وكأن البدو يعيدون سيرتها الأولى؟!

سلطان بن بجاد بطل مذبحة الطائف

مقال الأستاذ حافظ الشيخ في أخبار الخليج مذكرا بمذبحة الطائف

لقد وجد الشريف علي بن الحسين المتحصن في مدينة جدة الفرصة سانحة ليذكر الناس بما فعله البدو قديما وحديثا وبما يمكن أن يفعلوه في حال دخولهم مكة والمدينة، وأن أتباع عبد العزيز ينوون تدمير قبور الصحابة وهدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم ..
ونهض العالم الإسلامي ثانية على قدم وساق وبلغت القلوب الحناجر، وتكاد أن تتكرر نهاية الدولة الأولى إذا ما قرر المسلمون في العالم ما قرروه أول مرة .. ولكن من ينوب عن المسلمين بعد أن تضعضعت الدولة العثمانية ووهنت قواها وانفرط عقد الخلافة الجامعة؟

اتجهت الأنظار ناحية مصر، مهد الأزهر الشريف، وصدر الدول العربية، ومركز قيادة الأمة الإسلامية، وعلى الفور شكل الملك فؤاد الأول ملك مصر بعثة مكونة من الشيخ محمد بن مصطفى المراغي ـ شيخ الأزهر فيما بعد ـ ومحمد المسيري بك رئيس مكتب الحج بوزارة الداخلية المصرية، وعبد الوهاب طلعت بك من رجال القصر الملكي.

الإمام محمد بن مصطفى المراغي

وانطلقت البعثة إلى جدة حيث التقت بالملك الشريف علي بن الحسين فاستمعت إلى مخاوفه، ثم انطلقوا للقاء الملك عبد العزيز آل سعود والذي قابلهم بالترحاب والتكريم .
قال الإمام محمد الأحمدي الظواهري شيخ الجامع الأزهر في مذكراته (السياسة والأزهر) ما نصه :
(( .. فصرح عبد العزيز لهم بأنه لا ينوي أن يغير شيئا ما في مكة أو في المدينة مما تعود الحجاج عليه فيما مضى، وستكون للحجاج حريتهم المذهبية كاملة كما كانت من قبل، وسيطوفون بالكعبة ويرمون الجمرات لا على طريقة الوهابيين بل كلٌّ على المذهب الذي ارتآه لنفسه أو الذي درج عليه، ولن تهدم قباب الصحابة، ولن تنـزع شواهد القبور، وإذا صاح رجل بقول "يارسول الله" فلن يجد أحدا يمنعه أو يؤاخذه، ولن تمتد إليه يد معتد أبدا.
وأما البقعة المباركة التي ولد فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانت أول ما مس جسمه الشريف من هذا العالم فستبقى مسورة كما كانت وسيبقى لها احترامها وإجلالها.
والحرية الشخصية للأفراد لن يتعرض لها أحد، فكل من يريد أن يشرب الدخان فله أن يفعل ذلك، وكل من تزيى بزي غير زي العرب فله أن يفعل ما يريد، وكل شخص طليق أن يذهب من جدة إلى مكة وإلى المدينة كيفما شاء بدون ضريبة أو جزية تفرض عليه ..
هذا هو بعض ما قاله ابن السعود لبعثة الملك فؤاد تطمينا منه لها وللعالم الإسلامي، وتدحيضا لأراجيف المرجفين وادعاءاتهم كما قال.
ثم إن عبد العزيز أقسم بوالله وتالله ـ وهذه هي دائما ألفاظ قسمه ـ أنه سينفذ كل ما قاله بالصدق والأمانة، وأنه لن يحيد عن وعده أبدا ..)) اهـ.


وبعد وعد الملك عبد العزيز هذا للبعثة المصرية هجم البدو على آثار الصحابة القديمة فخربوا وكسروا ونزعوا شواهد القبور التاريخية، ولم يبالوا بوعود عبد العزيز، بل منعوه هو نفسه من استعمال الهاتف وقطعوا عنه سلك الاتصال ظنا منهم أن الهاتف والكهرباء والمراكب الحديثة ووسائل الاتصال والراديو كلها رجس من عمل الشيطان تجب محاربته ..

وإذن فإن عبد العزيز الآن بين أمرين لا ثالث لهما :

إما أن يخلف وعوده ويحنث في قسمه ليكتشف العالم الإسلامي أنه قد خُدع خديعة نكراء ـ وليس هذا من طبع الرجل العربي الصميم ابن الصحراء ـ وإما أن يفي بها ومن ثم يتأهب لمواجهة عنيفة ومصادمة مع مكون أصيل في جيشه كما حدث مع سيدنا علي بن أبي طالب والخوارج ..

لقد تيسر للملك عبد العزيز أن يلتقي بكثير من قادة العالم الإسلامي أهل الحكمة والسياسة والتدبير، ويجتمع بعدد من رجال العلم والفتيا والفكر في العالم الإسلامي، وأن يطلع على ما لم يطلع عليه سلفه، فأدرك أن العالم العربي من حوله مسلمون لا مشركون ولا كفار، وأدرك أن حضاراتهم وأبنيتهم وقباب قبورهم لم تؤثر في إيمانهم وحبهم لله ولرسوله وللإسلام، وأدرك أن الاستمرار في السلب والنهب وإسالة الدماء تحت مسمى الجهاد والقضاء على الشرك مجرد استمرار في العبث والاستهتار بالدماء والحرمات، وأنه عمل آثم بكل المقاييس، كما أدرك أن الحضارة ووسائل التطور والراحة ليست رجسا ولا سحرا ولا شيطنة، وأدرك أن المذاهب الإسلامية المعتبرة هي مذاهب سلفية أكثر أصالة من مذهب أمثال سلطان بن بجاد وخالد بن لؤي أبطال المذابح.


الملك عبد العزيز في معية الملك فاروق في صحن
الجامع الأزهر الشريف لأداء صلاة الجمعة


الملك عبد العزيز في معية الحاكم الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة


ومن خلال هذا الإدراك العميق والمتجذر في النفس مضى عبد العزيز في إنفاذ عهوده صادقا، فاعتصم بالمذهب الحنبلي، وفرض احترام المذاهب الإسلامية المعتبرة، فارتاح الناس، وسلمت القبة النبوية من الهدم فلم تصل إليها الأيادي الآثمة، ونجت المدارس الإسلامية الوقفية من تخريب البدو، كما أمن الناس في الحج وسائر الطرقات، ووجدت وسائل الاتصال والحداثة طريقها إلى الحجاز ..

ولكن ابن بجاد وابن حثلين والدويش وغيرهم من أعمدة جيش ابن سعود لم يرق لهم كل هذا الكفر الذي يرتكبه عبد العزيز ـ في تصورهم ـ حيث يتكلم في الهاتف ويركب السيارة، ويحول بينهم وبين الهدم والتخريب والغنائم والسبي، ويعطل جهاد الكفار المشركين .. فلا بد إذن من الخروج عليه ومواصلة الجهاد لفتح العراق والشام ومصر وهدايتهم إلى الإسلام !! 

حاول الملك عبد العزيز أن يتلطف برؤوس الثورة ضده كل التطلف، وبذل جهده لحثهم على التعقل والطاعة ولزوم الجماعة، وأتبع العفو بعفو، ولكن مساعيه في إقناعهم وردهم بالمعروف باءت كلها بالفشل، وتجمع رؤوس الثورة ضده تحت مسمى "إخوان من طاع الله" ويمكنك معرفة المزيد عنهم هنا :

 وإذن فلا مناص من سل الحسام وردع الأشرار اللئام.

واجه الملك عبد العزيز حركة الثورة ضده وتمكن منهم واحدا واحدا حتى انكسرت شوكتهم.


فيصل الدويش في الوسط وعن يمينه ابن حثلين وعن يساره ابن صاهود
معتقلين على ظهر سفينة بريطانية

لقد استطاع عبد العزيز أن يقترب بالدعوة النجدية اقترابا بينا من سواد الأمة الإسلامية عن طريق الاعتصام بالمذهب الحنبلي وتقدير واحترام المذاهب الأربعة، والاعتراف بمواطن الخلاف، وإليه يعود الفضل في بناء الدولة السعودية الحديثة المتطورة.

إن من أكبر التحديات التي تواجهها الدولة السعودية الحديثة بقايا الفكر الدموي المتعصب الذي يتربص بهذه الدولة الدوائر .. ليفتحها من جديد ويدخلها في الإسلام هي وباقي الدول الإسلامية !!!

إن فكر أبطال الحرب والمذابح من شجعان العرب كابن بجاد وابن حثلين وأمثالهم لا يزال باقيا وإلى هؤلاء في واقع الأمر ينتهي النسب الفكري لبعض الفرق العنيفة اليوم .. ومن يسعون إلى العبث والتخريب والإخلال بالأمن وهدم المذاهب والمدارس الإسلامية والقضاء عليها اليوم إنما ينتمون إلى فكر إخوان من طاع الله ولا ينتمون إلى دولة الملك عبد العزيز آل سعود الحديثة العصرية المعتدلة، نسأل الله تعالى أن ينجي المسلمين من شرهم.

وهكذا نجت المدارس الإسلامية العريقة في الحجاز والأحساء، والحمد لله رب العالمين.

اقرأ كذلك مقال :

بين الملك عبد العزيز آل سعود وشيخ الإسلام محمد الأحمدي الظواهري في المؤتمر الإسلامي الأول بمكة المكرمة.

اضغط هنا





هناك تعليق واحد: