السبت، 8 فبراير 2014

رحلة في تاريخ القيم : من استقالة القحفازي إلى استقالة الذمم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه وبعد ..

كان الأمير المملوكي رُكْنُ الدين منكورس الدمشقي بلدا الحنفي مذهبا المتوفى سنة 631هـ رجلا صالحا محبا للصدقات وأعمال البر، محافظا على الطاعات وأنواع الخيرات، ومن أعماله الخيرة بناء مدرستين وقفهما لله تعالى، عرفت كل مدرسة منهما باسم المدرسة الرُّكْنِيَّة نسبة إليه.
تقع المدرسة الأولى منهما في داخل دمشق، لذلك يسمونها الركنية الجُوَّانِية، وقد جعلها للسادة الشافعية، مع أنه حنفي المذهب لما هو معروف بين أهل المذاهب من المودة والألفة.
وتقع الثانية منهما في سفح جبل قاسيون الشهير، ولذلك عرفت باسم الركنية البَرَّانِيَّة، وقد جعل هذه للسادة الحنفية.


سفح جبل قاسيون

وقد اكتمل بناء البرانية الحنفية نحو سنة 625هـ وأَوْقَف عليها أوقافا كثيرة، ولما توفي الأمير سنة 631هـ دفن في تربة مجاورة لصحن المدرسة كان قد أعدها لنفسه رحمه الله تعالى.

واستمر التدريس في الركنية الحنفية ..

وبعد نحو قرن من إنشائها وبالتحديد في سنة 719هـ لما شغرت وظيفة التدريس في الركنية .. وَجَّهَ نائب السلطنة الأمير سيف الدين تنكز وظيفة التدريس في الركنية الحنفية لشيخ مشايخ السادة الحنفية :
الإمام الفقيه الأديب العلامة نجم الدين علي بن داود بن يحيى بن كامل المشهور بالقحفازي وبالزبيري لأن جده الأعلى هو الزبير بن العوام رضي الله عنه ..

فوَلِيَ تدريسها مدة قصيرة، وكان راتب المدرس فيها ضخما بسبب وفرة أوقافها، بحيث يطمع فيه كل طامع، ولكن الإمام نجم الدين لم يلبث أن عزل نفسه بنفسه من منصب تدريس الركنية وتركها !!

سجل المؤرخون هذه الحادثة في كتبهم، وأثبتوا هذه المنقبة للإمام القحفازي الزبيري، ونود أيها القارئ الكريم أن نحيطك علما بها لتقف على أنموذج من نماذج الزهد والورع والتقوى والخوف من الله تعالى والتزام ما شرع وترك ما نهى عنه من سير سلفنا الصالح رحمهم الله :

لماذا ترك الإمام نجم الدين القحفازي الزبيري الفقيه الحنفي وظيفة مرموقة كوظيفة تدريس الركنية الحنفية ذات الراتب الضخم؟ لماذا تركها من نفسه مع أنه عُيِّنَ فيها بأمر الأمير الكبير نائب السلطنة سيف الدين تنكز؟ كيف تجرأ وفعل ذلك وما هو السبب؟

لقد تركها الإمام نجم الدين القحفازي لأنه لما تولاها وباشر التدريس فيها فوجئ وهو يقرأ وثيقة الوقف التي كتبها الأمير الراحل مؤسس المدرسة ركن الدين منكورس، فوجئ وهو يقرؤها أن فيها شرطا غير متوفر فيه !!  
إن الأمير الراحل ركن الدين منكورس الذي بنى المدرسة كان قد شرط في وثيقة الوقف شرطا على المُـدَرِّس في الركنية، ذلكم الشرط هو أن يكون المدرس :

{ساكنا في الجبل، أي بجوار المدرسة نفسها أو فيها !!}

إنه شرط قد يبدو غير ذي أهمية، ولم يكن الإمام نجم الدين القحفازي قادرا على تنفيذ هذا الشرط لظروفه الخاصة ووظائفه الأخرى.
فهو إن بقي مدرسا في الركنية مع سكنه البعيد بقي وهو مخالف لشرط الواقف ! وهو يعلم أن مخالفة شرط الواقف لا تجوز باتفاق .. ولو تركها خسر وظيفة مرموقة عُيِّنَ فيها بأمر أميري، وخسر راتبا عاليا يسيل له اللعاب وتتلهف له النفوس!
كان بإمكان القحفازي أن يبقى فيها مدرسا معتمدا على تولية الأمير سيف الدين تنكز الذي هو ملك الشام ونائب سلطان المسلمين ..
ومعتمدا أيضا على أن الناس لا تعرف الفقه ولا تدري عن مسألة شرط الواقف وتلك الغوامض الفقهية ..
ومعتمدا أيضا على أن الشرط المذكور شرط خفيف وليس بذي أهمية كبيرة ..
كان بإمكانه أن يبقى في هذه الوظيفة، وفي حال بقائه فلن يجسر أحد على الكلام ضده مع هذه الثقة الأميرية، ولكن ليس هذا مسلك سلفنا من أهل العلم والتقوى، فكان من ديانته المتينة وورعه وتقواه بالإضافة إلى فقهه في الدين أنه أعطانا درسا عظيما في الورع والتقوى، فلم يتجاوز شرط الأمير ركن الدين منكورس، لعلمه بخطورة مخالفة شرط الواقف مهما كان خفيفا قليل الشأن، فلما تأكد الإمام أنه غير قادر على تنفيذ هذا الشرط أعلن أنه يعزل نفسه من وظيفة تدريس الركنية ويتخلى عن راتبها الضخم مبينا السبب من أنه غير قادر على تنفيذ شرط الواقف.

وسجل المؤرخون هذه المنقبة في ترجمته :

قال عنه الحافظ ابن حجر في كتابه (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) [4/55 ـ طبعة حيدر آباد] :
((وولي تدريس الركنية سنة 719هـ فباشرها ثم تركها واعتذر بأنه لا يقوم بشرطها ..))اهـ.
وقال أيضا: ((وولي تدريس الركنية بالصالحية ثم تركها لما اطَّلَع على أن شرط واقفها أن يكون المدرس مقيما بالجبل))اهـ.

وقال عنه النعيمي في كتابه (الدارس في تاريخ المدارس) [1/399 ـ طبعة دار الكتب العلمية] :
((ودَرَّسَ بالركنية بالجبل ثم تركها لأنه اطلع على أن من شرط واقفها على المدرس السكن بها))اهـ.

وقال الصفدي في كتابه (أعيان العصر) وابن شاكر الكتبي في كتابه (فوات الوفيات) [3/24 ـ طبعة دار صادر] :
((رُسِمَ له بتدريس الركنية فباشرها مُدَيْدَةً ثم نزل عنها وقال:
"لها شرط لا أقوم به"
ومعلومها في الشهر جملة، تركه تورعاً.))اهـ. أي راتبها كبير فتركه خوفا من الله تعالى.

هكذا كان علماؤنا من السلف الصالح، وقد كان القضاة من العلماء يشرفون على شؤون الأوقاف والأحباس ويراعون مصالحها وشروطها ويتابعون النظار عليها، فكانت الحقوق مرعية والشروط قائمة، فلما احتل الصليبيون العالم الإسلامي في القرن الماضي سعوا في ضرب القضاء الإسلامي وعملوا على سحب صلاحياته شيئا فشيئا حتى لم يبق في أيدي قضاة الشرع إلا باب النكاح والطلاق .. وكان مما جردوهم منه إشرافهم على الأوقاف والأحباس، فأخذت منهم وفوضت إلى من لا يملك مثل علمهم ولا ورعهم، فامتلأت البطون من الحرام وأكلت أموال الناس بالباطل .. وزاد الطين بلة أن وجدوا من أشباه العلماء والشيوخ من يزين لهم ويحلل كل ما يشتهون.

مفاجأة :

هل تعلم أخي القارئ الفاضل أن المدرسة الركنية الحنفية هذه لا زالت موجودة منذ 800 سنة إلى اليوم !!! وهناك العشرات غيرها لا تزال قائمة، وهذه هي المدرسة الركنية فمتع بصرك :









تقرير رائع عن المدرسة الركنية لمن أراد المزيد عنها:

من الجدير بالتنويه والتذكير هنا أن هذه المدرسة العريقة وعشرات الأوقاف الإسلامية غيرها هي لا تزال إلى اليوم بيد أهلها أهل السنة والجماعة بالرغم من تعاقب الدول ذات العقائد والأفكار والسياسات المختلفة كالبعثية وغيرها .. من الأفكار المباينة لمناهج أهل السنة والجماعة .. ولكن لا تزال هذه الأوقاف بيد أهلها وأصحابها، وتتولى الأوقاف شؤونها، وهذا موقع الأوقاف الرسمي :
اضغط هنا

وبعد أيها القارئ المفضال أعود بك من بلاد الشام من حي ركن الدين حيث المدرسة الركنية التي عاشت ثمانية قرون ولا زالت شامخة، أعود بك إلى هنا وما أدراك ما هنا، هنا المدارس تشكو إلى الله تعالى ظلم العباد، مدارس لا تصل أعمار أكثرها إلى 150 سنة وقد أصبحت أثرا بعد عين :

مدرسة محمد بن حسن آل خاطر :


 سكن عمال

مدرسة محمد بن راشد بن هندي المناعي :


 خرابة

مدرسة حسين بن سلمان بن مطر :


 سكن عمال

مدرسة علي بن إبراهيم الزياني :


 موقف سيارات

مدرسة الشيخ حجي بن أحمد الزياني :


 محلات وأستوديو شاليمار !!

مدرسة سعيدة بنت بشر آل جاسم :


 موقف سيارات

 والسلام عليكم ورحمة الله.
  






هناك 8 تعليقات:

  1. لو عرف أصحاب هذه المدارس أنها ستصبح مواقف سيارات واستوديوهات وسكن عمال ما أوقفوها ولتركوها إرثا لأولادهم خيرا لهم.

    ردحذف
  2. راحت الذمم وبقيت العلامات الصفراء تسرح وتمرح في الاوقاف والمساجد

    ردحذف
  3. اللهم حرر أوقاف أهل السنة والجماعة

    ردحذف
  4. مدخل رفيع وتخلص بديع ..
    حفظكم الله ونفع بكم أخي الشيخ عبد الرؤوف وإليكم تُبث الأشواق والحنين إلى مجالسات مصر

    ردحذف
    الردود
    1. مرور كريم عزيز يا مولانا .. وقد كانت أياما جميلة، وحفظكم الله ونفع بكم المسلمين وشكرا لكم على المرور والتعليق اللطيف، رأيت تعليقكم أول الأمر في رسالة بعث بها إلي أحد الإخوة ثم فوجئت به هنا، فشكرا لكم، وشهادتكم محل اعتزاز.

      حذف
  5. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  6. أنا لدي إقتراح ، قد لا يعجب البعض ولكنه على ما يبدو الحل الوحيد ، إذا قام هؤلاء المتنطعون أو المتشددون أو من تسمونهم ذوي العلامات الصفراء بالإستيلاء على إمامة مسجد أو وقف ، أن يجتمع أهل السنة (بالتحديد المالكية والشافعية) وينتزعوا الإمامة بالقوة ، ولو أدى ذلك إلى إشتباك ومشاجرة ومعركة ، فهؤلاء لا يفهمون لغة الأمانة والأخلاق يفهمون فقط لغة القوة ، يرون غيرهم مبتدعة بل حتى كفار ولذلك يريدون نزع هذه الأوقاف والإستيلاء عليها ، إفهموا هذا جيدا

    إذا ثارت فتنة ومشكلة عندئذ ستجد السلطة والأوقاف تتدخل وتعطي كل ذي حق حقه ، لكن الآن لا يعبئون بكم إذا كنتم ستواصلون الشكوى والعويل ، فهم لا يعيرونكم إهتماما ويرونكم ضعفاء غير قادرين فعل أي شيء ، وسيواصلون مشوارهم وستندمون حيث لا ينفع الندم

    آخر العلاج الكي وهذا هو الحل الوحيد أمام الإخوة أهل السنة الكرام في البحرين.

    نسأل الله أن يفرج عنكم ويعينكم ويعيد الأوقاف لأهلها ولمَ أوقفت عليه.

    ردحذف
    الردود
    1. ليس هذا بالحل الصحيح، وإن كان قد وقع بالفعل، ووقفت الناس للإمام الوهابي الذي فرضته الأوقاف الطائفية على مسجد لم يزل للشافعية، والأوقاف بذلك تخدم السياسة بالتفرقة، والحل هو توعية الناس بما لهم وما عليهم بناء على شرح المسألة بالفقه الإسلامي وأحكام الشريعة وعندما يحصل وعي بين الناس بما يتم ارتكابه من أخطاء فإن الناس سيصلحون هذا الخلل دون شك بطرق صحيحة مختلفة.

      حذف