الجمعة، 15 يونيو 2012

المقامة الزينبية


المقامة الزينبية

حطت بنا قافلة السماء، في منارة العلم وكعبة العلماء، حاضنة النيل المجيد، وقاعدة الأزهر التليد.


وكم حللتها مرة بعد مرة، واطَّوَّفت بها تَكِرَّة ـ لكني جعلت هذه الزَّوْرَة للقاء الأصحاب والمعارف، وجني عتيق أخبارهم والطارف، وممن أجمَعْتُ بهم التلاقي، الشيخ (عبد الباسط هاشم) البولاقي، حتى إذا ما اشتمل علينا مجلسه أشرقت علينا شمس طلوعه، وامتلأنا من نمير ينبوعه، وتصرم الوقت في الفوائد، وجميل الفرائد، فلما أحس بي قد ابرَنتَيْتُ للذهاب عند أوانه، ناولني بطاقة عنوانه، فدسستها في الجيب دون تأمل أو انتظار، ورجعت إلى الدار، وبعد رُوبَة من الليل حدَجْتُها ببصر العامد، فإذا اسمه فيها : (عبد الباسط حامد)! ثم إني راجعته في ذلك فحدثني بهذه القصة قائلا :

مذ عقلت وأنا أرتضع الهم، وأتجرع مرارة اليتم، فلا أب يكسو، ولا أم تأسو، ولكنَّ لي أختا تؤويني، وتطعمني وتسقيني، تدفع عني من الأذى، وتميط بعض القذى، وربما أنالتني بعض المعروف سِرّا، لأن لها زوجا يُستعاذ بالله من شره، ويُشرب ماء زمزم لدفع ضره، طبعه يابس حار، كأنما خلق من نار، الحنان من قلبه يائس، والعطف على بابه بائس، يغيظه أني في جواره، ويحنقه اقتياتي من داره، إلا أنه كان كريما بلا سبب، في باب الضرب والأدب !

وكان رحمه الله إذا انهال علي باليمين والناس تسمعه، تجيء أختي فتدفعه، فربما جاوزني إليها، ومال بالكف والقبضة عليها، فتشتعل الدار حزنا وأسى، والعزاء في : لعل وعسى.    

ومع أني ارتويت من الأحزان، وشبعت من الصفع واللكمات الحسان، وتضلعت من الأنين، وأنا ابن ست أو سبع سنين، إلا أن الأشد على نفسي والأمرّ، والأحْمَى والأَحَرّ، ما كان يصل بسببي إلى أختي الحانية، وأمي الثانية، فكانت تَهُون عليَّ بلواي لولاها، ولست أحتمل مزيد أذاها، فحللت عقدة صبري، وأجمعت أمري، على تخفيف ما احْتَمَلَتْ من الأكدار، بترك الدار.

وكنت سمعت بذكر امرأة تطعم الأيتام وتسقيهم، وتكسوهم وتؤويهم، لها قلب عطوف على المساكين، والأرامل والعاجزين، يسمونها السيدة زينب أم هاشم، ويصفونها بكرم حاتم، ويقُصُّون علينا من رقتها، وحنوها ورحمتها، فأحببتها كأمي قبل أن أراها، وعددت نفسي من رعاياها، فجعلت وجهتي إليها، وتعويلي بعد الله تعالى عليها.


فتدفقت أبحث عنها في الشوارع والطرقات، والأزقة الضيقات، أحاذر في الخوف حذر الثعلب، وأقفز في الأمن كالأرنب، وأسأل المارة عن حي السيدة زينب، وبعد طول احتباس ولأي، حللت بطن الحَيّ، وإذا بناء جامع يعلوه الوقار، وتجلله الأنوار، فدلفت إليه من بابه، كأنني من أصحابه، وإذا بشيخ الجامع الوقور قد استوقفني، وكأنه استصغرني، وقال : إلى أين المسير، يأيها الصبي الصغير؟ فقلت له بعبارة مهذبة جيدة : أريد زيارة السيدة، وسمع مني في شأنها كلاما دله على استيعابي، وفضلني به على أترابي، ثم قال : السيدة في تلك الحجرة ـ يشير إليها ـ فاذهب فسلم عليها.

فلما دخلت الحجرة رأيت نسوة متشابهات، ولم أميز السيدة من بين السيدات، فعدت إلى الشيخ قائلا : أين السيدة منهن، فإني لم أعرفها بينهن؟ فتعجب وقال : أوَ تحسب السيدة زينب إحدى هؤلاء النسوة؟ إنما السيدة صاحبة القبر والكسوة، فإنها رضي الله عنها لما ماتت من أزمان، دفنت في هذا المكان !!!

فلما سمعت ذكر الموت والقبر ـ وكنت أظنها من الأحياء ـ انحلت مني رباطة الصبر، والتصقت بالأرض في بكاء ونشيج، وصياح وضجيج، واجتمع الناس يهللون ويسبحون ويُحَوقلون، والشيخ يتلو : "إنك ميت وإنهم ميتون" ثم ألهمني الله تعالى أمرا التقطت به أنفاسي، واسترجعت إحساسي، فقلت لهم ـ وقد أحاطوا بي يبكون ـ : أليست السيدة تكنى أم هاشم، قالوا : بلى ، قلت : فأين ابنها هاشم؟؟ فرجع الناس يهللون ويحوقلون وهم يبكون، وإذا برجل ذو هيبة واحترام، يتقدم من ناحية المقام ـ واتفق أن اسمه هاشم ـ فقال : أنا ابنها هاشم فما مسألتك نلبيها، وما حاجتك نقضيها؟ فقلت له : إن كنت ابنها فأنت وارثها، ومن يقوم مقامها، فقال : وهو كذلك، فقلت : فإن أمك كانت ترعى الأيتام والمساكين، وأنا يتيم مسكين، فعليك أن تؤويني وتطعمني وتسقيني .. قال : فهيا إلي، فإن ذلك واجب علي، فأخذني معه إلى أقاربه في الصعيد، وتكفل بشؤوني وألزمني السير الحميد، فوالدي اسمه حامد وإن كانت الناس بعد تدعوني بهاشم الذي رباني، وكفلني وآواني، وتعلمت بعد القرآن الكريم بقراءاته، وخضت بحر تحريراته، حتى صرت يشار إلي بالبنان، ويقال هذا مقرئ القرآن، فهذا جواب سؤالك، نجانا الله وإياك من المهالك. انتهى كلام الشيخ.

فائدة :

اختلف المؤرخون في السيدة زينب التي في مصر والتي في الشام اختلافا لم يحسم إلى اليوم، والذي نص عليه الشريف النسابة يحيى بن الحسن العقيقي المتوفى سنة 277هـ في كتابه (أخبار الزينبات) أن زينب الكبرى أخت الحسين توفيت بمصر.

كما أفرد شيخنا العارف بالله تعالى السيد الإمام أبو البركات محمد زكي الدين إبراهيم الحسيني الحنفي كتابا سماه (مراقد أهل البيت) حقق فيه أن التي في الشام في قرية راوية هي زينب الصغرى وأن الكبرى هي المدفونة بمصر في مقامها المعروف، والله أعلم.