الجمعة، 30 مارس 2012

صحيح الانتصار لفاتح الأمصار

صحيح الانتصار لفاتح الأمصار
فاروق الأمة وأمير المؤمنين أبو حفص عمر ابن الخطاب رضي الله عنه

نحمد الله على كل حال، ونعوذ بالله من الزيغ والضلال، ونصلي ونسلم على مولانا ونبينا محمد سيد الرجال، وعلى منابع العلوم والأنوار من الآل، وعلى أصحابه ذوي الاتباع لشرعته والامتثال، لا سيما فاروق الإسلام، وأمير المؤمنين، أبو حفص عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ..

ثم أما بعد ..

وردني هذا السؤال بنصه وفصه :

شيخنا الفاضل .. لقد ثارت مؤخرا قضية المعلمة الشيعية التي أجبرت الطفل عمر على تقبيل رجليها .. فما رأيكم في هذه القضية؟

الجواب :

الذي شاع وانتشر عبر وسائل الاتصال ـ والعهدة على الراوي ـ أن معلمة شيعية تخلع حذاءها وتجبر طفلا اسمه عمر على تقبيل قدمها بغضا منها لأمير المؤمنين إذ كان الطفل سَمِيَه، وأن هذه دعوى والد الطفل المذكور، ثم لقيت دعواه هذه تأييدا حتى صارت حديث المجالس، وحديث المجالس يضطر الجهات المعنية في نهاية المطاف أن توقع عقوبة بالمعلمة .. مع أن المعلمة منكرة لصورة الدعوى التي شاعت ومقرة بأنها لم تمنع الأطفال من استقبالها كما يستقبلون أمهاتهم وخالاتهم لا شيء سوى ذلك .. فعوقبت على هذا الذي أقرت به، لا على أصل الدعوى، ثم إن ذلك لم يرض المدعي ومن والاه، فما زالوا يغلون في المطالبة بالعقوبة ويبالغون حتى جعلوا القضية محنة تظهر السني الغيور ممن سواه، ويميزون بها الخبيث من الطيب ! وظهر فيها تهديد ووعيد تمخض ـ كما قيل ـ عن فصل المعلمة ! هذا الذي سمعناه في القضية ..

وانقسم الناس قسمين: قسم يزعم أنه ينتصر للمعلمة فيكذب الدعوى كما هو حال أكثر الشيعة، وقسم يزعم أنه ينتصر لأمير المؤمنين فيصدق الدعوى ويدعو كل سني غيور إلى إظهار موقفه كما هو حال جمع من أهل السنة .. هذا هو الحال حتى الآن.

وأنت أيها السائل الكريم تسألني عن أمر لم أحط بتفاصيله ولا أعلم حقيقته إلا كما يعلمها سائر الناس من الصحف ومواقع التواصل، فإن أردت رأيي بناء على هذا المقدار المعلوم لدي فدونك والله أعلم :

أما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فمقامه في سويداء قلوب أهل السنة والجماعة أمر معلوم بالضرورة، مفروغ منه، لا يجهله جاهل فضلا عن عالم، واعتقاد تعظيمه وتبجيله وتقديمه بعد الصديق منصوص في عقائد أهل السنة قاطبة .. لا يجادل في هذا إلا من سفه نفسه .. وهكذا هو الحال إلى يوم القيامة، لا تردد فيه ولا تراجع، ولا جدال ولا تدافع .. قضاء مبرم، وقدر محتم .. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ..

ومن ثبت تطاوله على مقامه العظيم بأي صورة من الصور، فحقه العقاب الأليم، والتعزير المقعد المقيم .. هذا أمر مفروغ منه.

إلا أن ما جرى على بساط الواقع وأرض الحقيقة ـ بناء على منشور الصحف ومواقع التواصل ـ لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله ولا أمهات المؤمنين وسائر أهل بيته، ولا أصحابه، ولا يرضاه أمير المؤمنين عمر، ولا يرضاه التابعون بإحسان، ولا يرضاه أئمة الدين من أهل الفقه والعلم.. ولا نرضاه نحن، ولا نقبله وننهى عنه أشد النهي ونحذر منه المسلمين..  

لأن الله تعالى قال وقوله الحق : (ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فنهانا عن ظلم الآخر ولو كان عدوا لنا ..
وقال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فأمر سبحانه بالتثبت في الأخبار والأنباء، وأوجب التحري فيها قبل إذاعتها..
وقال تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) فأوجب علينا حسن الظن عند سماع التهم لا سوء الظن، كما أوجب الشهادة ووصف من رمى الناس دون شهادة بالكاذب ..

والآيات في هذا المعنى كثيرة.

وقد ثبت وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ ، وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ)

وقد ذكروا لتحديث ابن عباس بهذا سببا، وهو أن ابن أبي مليكة كان قاضيا على الطائف في إمارة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فأحضروا عنده جاريتين، وإحداهما مطعونة بمخراز في كفها والدماء تسيل منها، وتدعي على الجارية الأخرى أنها طعنتها في كفها، ولما لم يكن هناك بينة ودليل واضح سوى دعوى المطعونة فقد تعين أن تحلف الأخرى المتهمة، فإن حلفت برئت، ولكن القاضي ابن أبي مليكة أحب أن يسأل حبر الأمة عبد الله بن عباس فكتب إليه بالقضية فرد عليه ابن عباس بهذا الحديث النبوي وطلب منه أن يذكر الجارية المتهمة بالله وأن يتلو عليها قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) قبل أن تحلف كاذبة، ففعل ابن أبي مليكة ما أشار به ابن عباس، فخافت الجارية من الله تعالى واعترفت ولم تحلف.

وقد أطبق أهل العلم والفقه أن البينة لا بد منها وأن الدعاوى لا تسمع دون بينة، هذه شريعة الإسلام، شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قضاء أمير المؤمنين عمر ودينه الذي عاش ومات عليه، وهو قضاء أهل الإسلام قاطبة .. فمن زعم أنه منتصر لأمير المؤمنين عمر فبأحكام الشريعة ولها فلينتصر وإلا فإنه لا يكون قد انتصر لعمر وإن زعم أنه منتصر له، ألا ترى أن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم إنما تكون بإحياء سنته وتثبيت دعوته، فكذلك تكون نصرة عمر ببث المساواة والعدل الذي عرف به ونشر الأمن والضرب على يد الظالمين .. فمن فعل ذلك فقد انتصر لعمر، وأما من خالف هذا المنهج وخالف الشريعة ومشى على (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) بمعناها الجاهلي، فهذا لم ينصر عمر بل نصر أبا جهل وأمية بن خلف وأضرابهم من صناديد قريش وأزلام الجاهلية الأولى.

فإذا قيل الآن أن معلمة أجبرت طفلا اسمه عمر على تقبيل قدمها إهانة لاسم سيدنا عمر بن الخطاب فهذه دعوى ولا بد لها من بينة، فهل سمع الناس الذين خاضوا في هذه القضية أن المدعين قد جاؤوا ببينة مقبولة شرعا؟؟؟؟؟

إنا إلى الآن لم نسمع بها، ولم نعلم ما هي هذه البينة، هل شاهد ذلك رجلان عدلان؟؟ هل أقرت المرأة واعترفت بهذا الفعل والقصد؟
أما الذي نشر وأذيع فليس فيه أنها أقرت بما اتهموها به، وليس فيه شهادة شهود عدول تقبل شهادتهم، فكيف جرى كل ذلك وألحقت بها تلك العقوبات دون بينة تذكر؟؟؟ وكيف سكت أهل العلم والناس عن ذلك كله ورضوا به؟ ومن هو القاضي الذي قضى بكل هذا؟؟ في أي مذهب هذا القضاء وأي دين؟؟ وكيف ساغ لمن يدعون اتباع السنة والجماعة، والغيرة على الشريعة والمطالبة بها أن يخالفوا الشريعة؟؟ بل كيف ساغ لمن يخالف الشريعة أن يخالفها بدعوى الغيرة على سيدنا عمر الذي عاش ومات من أجل سيادة هذه الشريعة؟ ومنذ متى والغيرة على الدين والسنة والشريعة والصحابة تقتضي مخالفة الدين والسنة والشريعة وهدي الصحابة؟

فإن قيل بأن الأطفال شهدوا بهذا !
فنقول بأننا لم نسمع فيما نشر أن الأطفال شهدوا أو أجمعوا واتفقوا على أنها كانت تخلع حذاءها ثم تأمره بتقبيل قدمها ! لم يذكر فيما نشر شيء من ذلك.

ثم هب أن الأطفال شهدوا بذلك ففي أي مذهب أو شريعة قبول شهادة الأطفال وهم عرضة للخيال؟! ألم يعلم هؤلاء أن إطباق الفقهاء وأهل العلم على رد شهادة الصبيان؟ ومن قبلها لم يقبلها إلا في حدود معلومة وشروط منصوصة؟ وإليك جملة من نصوص الأئمة حتى يتضح لك الأمر:

مذهب السادة الحنفية:

أما السادة الحنفية فقد ذكروا من شروط من تقبل شهادته شرط البلوغ، ففي بدائع الصنائع من كتبهم ما نصه:
((ومنها البلوغ فلا تقبل شهادة الصبي العاقل لأنه لا يقدر على الأداء إلا بالتحفظ، والتحفظ بالتذكر، والتذكر بالتفكر، ولا يوجد من الصبي عادة، ولأن الشهادة فيها معنى الولاية والصبي مولى عليه، ولأنه لو كان له شهادة للزمته الإجابة عند الدعوة للآية الكريمة وهو قوله تعالى { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } أي دعوا للأداء فلا يلزمه إجماعا)) اهـ.

مذهب السادة الشافعية :

وأما السادة الشافعية فمذهبهم رد شهادة الغلمان مطلقا استدلالا بقوله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) فلا بد من الرجولة، وعبارة الإمام الحبر الشافعي في الأم صريحة واضحة إذ قال:

((وإذا شهد الغلام قبل أن يبلغ، والعبد قبل أن يعتق، والكافر قبل أن يسلم، لرجل بشهادة فليس للقاضي أن يجيزها ولا عليه أن يسمعها وسماعها منه تكلف)) اهـ. وهذا هو مذهبهم.

مذهب السادة الحنابلة :

أما الحنابلة ففي الإنصاف من كتبهم مايلي في شروط الشاهد:

((أحدها البلوغ فلا تقبل شهادة الصبيان، هذا المذهب مطلقا وعليه جماهير الأصحاب ..)) اهـ. فهذا هو المعتمد والمعتد به عندهم.

مذهب أئمتنا السادة المالكية :

وأما مذهب أئمتنا السادة المالكية فالأصل عندنا أن الصبيان لا تقبل شهادتهم، قال في بلغة السالك من كتبنا :

((اعلم أن شهادة الصبيان الأصل فيها عدم الجواز في كل شيء لعدم العدالة والضبط فيهم، إلا أن أئمتنا جوزوها في شيء خاص للضرورة بشروط ..)) اهـ ثم ذكر الشروط وأنا ألخصها وأوضحها هنا:

يشترط في شهادة الغلمان الشروط التالية:

الأول : أن تكون على بعضهم ، لا على كبير. (وقضيتنا على كبير)
الثاني : أن يكون في جرح وقتل فقط لا في مال ولا في غيره .. (وقضيتنا في غير الجراح والقتل)
والثالث : أن يكون الشاهد مسلما ذكرا حرا.
الرابع : أن يكونوا اثنين فأكثر.
الخامس : ألا يشتهر الشاهد منهم بكذب.
السادس : أن يكون مميزا.
السابع : ألا يكون عدوا للمشهود عليه.
الثامن : ألا يكون قريبا للمشهود له.
التاسع : أن لا يختلفوا في شهادتهم. (وهذا لم نعرف تفاصيله بعد هل اختلفوا أم اتفقوا)
العاشر : أن لا يتفرقوا بعد اجتماعهم، لأنهم إذا تفرقوا أمكن تلقينهم. (وفي قضيتنا لا نعرف التفاصيل)
الحادي عشر : أن لا يحضر بينهم شخص كبير بعد الحادثة وقبل سماع شهادتهم لأنه يمكنه حينها أن يلقنهم. (وفي قضيتنا لم نعرف التفاصيل)

فإذا توفرت هذه الشروط كلها فلا يقتل بها المتهم بالقتل بل يدفع الدية فقط.

وبالنظر في هذه الشروط نجد أن بعضها غير متوفر في قضيتنا.

وعليه فالمذاهب الأربعة السنية متفقة على بطلان هذا النوع من الشهادة، ومذهب الشيعة الإمامية قريب من مذهب المالكية في هذه المسألة.

قال الإمام ابن الهمام الحنفي في شرح فتح القدير :

((ولا تقبل شهادة الصبي عندنا وهو قول مالك والشافعي وأحمد وعامة العلماء وعن مالك تقبل في الجراح إذا كانوا مجتمعين لأمر مباح قبل أن يتفرقوا)) اهـ.

فإذا كان الأمر كذلك عند أهل العلم والفقه فعلى أي شيء بنى المدعون دعواهم وأصدروا أحكامهم يا ترى؟؟؟ أيجوز في دين الله تعالى أن يحكم بمجرد دعوى المدعي؟ أو شهادة أطفال؟ هل تكون نصرة أمير المؤمنين عمر بمخالفة أحكام الشريعة على هذا النحو؟؟ اللهم إن عمر لا يرضيه هذا، ولو كان حيا له سلطان لأنضج ظهور قوم بالدرة مما يخالفون شرع الله تعالى.

إذا ذكر أمير المؤمنين عمر ذكر العدل والمساواة والشورى والأخذ على أيدي الظالمين، وإنصاف الناس حتى من نفسه، وذكر الزهد والورع، فمن أراد الانتصار لعمر فليعمل على نصرة العدل والمساواة والإنصاف وليأخذ على يد الظالمين، ولا يسرق أموال الناس .. إذا أردنا الانتصار لعمر في قضية المعلمة مع الطفل فلنحضر قاضيا مسلما فقيها عدلا فيحكم في القضية بحكم الشرع فيأمر المدعي بالبينة، فإذا لم يأت بالبينة قيل للمرأة احلفي بالله أنك لم تفعلي كذا وكذا فإن حلفت قيل لها اذهبي بسلام، هكذا يكون الانتصار لله ولرسوله ولعمر .. وأما أن نرهج الدنيا ونملأها ضجيجا ـ بلا بينة ـ ثم لا نزال نرهب هذه الجهة وتلك إلى أن يقوموا بعقاب المرأة دون حجة وإنما بدعوى مجردة أو شهادة من لا تقبل شهادته فههنا وفي هذا الحال وحينئذ لا نكون قد انتصرنا لأمير المؤمنين عمر إمام العدل بل نكون قد خذلناه وانتصرنا لإبليس وأعوانه وانتصرنا لنعرات الجاهلية ..

أكاد أشعر أن مذهبا جديدا يفرض نفسه على الناس، هو مذهب الأقلام والأفلام والإعلام والرأي العام وبناء عليه تصدر الأحكام !

إذا كان لأهل السياسة رغبة جامحة في مواصلة الحرب الإعلامية وحرب التهم والفتن فيما بينهم فلا يقحموا الدين والصحابة في القضية، ولا يظلموا الناس، لينحوا عنهم الدين وليتركوا أصحاب رسول الله ثم ليحتربوا بينهم كما يشاؤون .. ومن أظرف شيء أن المسألة عندنا تعرف بالطفل عمر وفي مصر بالطفل المصري !

يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ** وإن لقيت معديا فعدنان.

فقولك أيها السائل الكريم : (المعلمة الشيعية التي أجبرت الطفل عمر على تقبيل رجليها) صوابه أن تقول : المعلمة الشيعية التي (قيل عنها) أو (التي اتهمت) بكذا وكذا .. فتأتي بالأمر على أنه تهمة لا على أنه حق وحقيقة، فافهم هذا وتمسك به ..

إنا ننصح إخواننا أهل الدين والالتزام ـ وأنت منهم إن شاء الله تعالى أيها السائل الفاضل ـ ننصح أهل الدين الذين تسرعوا بإشاعة هذا الأمر وإذاعته ثم بالتعصب فيه إلى أن تم فصل هذه المرأة وأذيتها بأنواع الأذية أن يراجعوا أنفسهم في هذه المسألة، فإما أن يبينوا للناس ما هي البينة والحجة التي بنوا عليها هذا التصرف لننظر فيها ونتبين مدى صلوحها، وإما أن يعلموا أنهم قد أتوا بابا من أبواب الكبائر واجتمعوا وتعاونوا على العدوان لا على التقوى فأضروا بإنسان على غير هدى الشريعة، وسيسألون عن هذا يوم القيامة.

وعليهم أن يقتدوا بعمر لما رجع للحق إذ لاح له، ولله در شاعر النيل حافظ إبراهيم إذ يقول في هذا:

و فتية ولعوا بالراح فانتبذوا **** لهم مكانا و جدوا في تعاطيها
ظهرت حائطهم لما علمت بهم **** و الليل معتكر الأرجاء ساجيها
حتى تبينتهم و الخمر قد أخذت **** تعلو ذؤابة ساقيها و حاسيها
سفهت آراءهم فيها فما لبثوا **** أن أوسعوك على ما جئت تسفيها
و رمت تفقيههم في دينهم فإذا ** بالشرب قد برعوا الفاروق تفقيها
قالوا مكانك قد جئنا بواحدة ** و جئتـنا بثـلاث لا تباليـها
فأت البيوت من الأبواب يا عمر ** فقد يُزنُّ من الحيطان آتيها
و استأذن الناس أن تغشى بيوتهم ** و لا تلم بدار أو تحييها
و لا تجسس فهذي الآي قد نزلت ** بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها
فعدت عنهم و قد أكبرت حجتهم ** لما رأيت كتاب الله يمليها
و ما أنفت و إن كانوا على حرج ** من أن يحجك بالآيات عاصيها

فلا تأنفوا من الحجة كما لم يأنف منها أبو حفص رضوان الله عليه فإن كانت المرأة قد اتهمت بواحدة فقد أتيتم بثلاث وزيادة ..

ونختم بما أنشدنيه الشيخ الأديب النحوي أبو محمد يوسف بن علي بن الحسن بن أحمد بن الفرج الشامي التلمنيني الشافعي يمدح المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم أتى على ذكر أمير المؤمنين عمر فقال:

وإذا به لما اهتدى بمحمد ** يحنو على يتم الصغار وينجد
ويعس بالليل المدينة باحثا ** عن بائس أو جائع لا يرقد
لما رأى تلك العجوز وحولها ** أطفالها وعلى الحجارة توقد
حمل الدقيق لها وأقبل مسرعا ** متلطفا لصغارها يتودد
وشرى ظلامتها ولم يك ظالما ** بوثيقة تنجي إذا جاء الغد
دين الهدى أعطاه إنسانية ** فوق العقول منالها مستبعد
وتمازج البأس العريق مع الندى ** وسقته مرحمة فطاب المورد
لما أتى القبطي يشكو عنده ** ضرب ابن عمرو بالتقى يستنجد
قال اضرب ابن الأكرمين مؤنبا ** يا عمرو إن الحر لا يستعبد
بالله يا أبناء دين المصطفى ** هذا الهدى فتمسكوا وتقيدوا
عودوا إلى دين النبي محمد ** فالعود أولى والتمسك أحمد
إن رمتموا عزا هنا وكرامة ** وتجارة بعد الفنا لا تنفد
هو حبل دين الله فاعتصموا به ** وتمسكوا فعساكموا أن ترشدوا
وعليه صلوا كلما ذكر اسمه ** واستكثروا من حبه وتزودوا

انتهى

السبت، 24 مارس 2012

الساعات الأخيرة في مجمع السلمانية (7)


الحلقة السادسة والأخيرة


يوم الأربعاء 16 مارس

ذكرت فيما مضى أننا خرجنا من مجمع السلمانية ليلة 16 مارس، وذكرت ما شاهدته ليلتها، وأنني لم أشاهد أي قطعة سلاح حربي من نوع الرشاشات والمسدسات وإنما يحملون الأخشاب والقضبان الحديدية ونحوها .. وكان أكثر أولئك الشباب الذين يحرسون البوابات في أعمار طلاب الثانوية أو بداية سني الجامعة، ويبدو على ملابسهم السذاجة وعدم التكلف، بعيدين من الميوعة أو البذاءة، وتلمس فيهم الشهامة والمروءة وروح النجدة، وقد جعلوا همتهم فيما يعتقدونه صوابا ويرونه حسنا، ولا مطمع في إقناعهم بترك ما هم عليه وبعدم جدواه في تلك الظروف، ولم يكونوا يتعرضون لأحد بأذى، وقد رأيت عددا من الأجانب من باكستانيين وهنديين ـ منهم أصحاب لحى كبيرة ـ يمرون بهم فلا يتعرضون لهم بأذى، فهمتهم منصرفة كليا إلى الحذر من رجال الأمن أو عيونهم ولا أرب لهم في غيرهم .. هؤلاء الشباب هم آخر عهدي بالسلمانية تلك الليلة، وكان عددهم قليلا في الجملة ولم أر غيرهم، أعني أن ذلك النوع من الشباب كان مألوفا بالنسبة لي طيلة ترددي على السلمانية، أقول هذا لصلته بما سيأتي بعد قليل.  

أخوف ما نخافه :

بالرغم من أن مداهمة السلمانية باتت وشيكة وشبه مؤكدة لانتشار خبرها، إلا أنني كنت أتمنى ألا يكون ذلك صوابا، وأتوقع على ضعف أمل أن يكون ذلك الخبر من باب التخويف والتحذير فقط، ولو صح الخبر فمع هذا التأخر في الوقت لا أظنهم يأتون في هذه الساعات التي يرتاح فيها المرضى، فالمرجح أنهم يأتون في الصباح، ولكن أخوف شيء في المسألة ـ إذا جاء الأمن ـ هو صدق الإشاعة القائلة بأن المعارضة تختزن السلاح الحربي في السلمانية !! لأن هذه الإشاعة لو صدقت وأن ثم ذخائر وقنابل وأسلحة مخبأة لوقت المواجهة فإن السلمانية ستشهد حربا طاحنة لا ندري كيف ستنتهي وهل ستكتب النجاة لمن في السلمانية من المرضى أم لا ؟ فلك أن تتصور انفجار قنبلة أو حتى زجاجة مولوتوف في أحد أروقة المستشفى نتيجة الملاحقات والاشتباكات وما يستتبع ذلك من تطورات !! ولهذا كنا نتمنى وندعو الله على الدوام أن تكون الإشاعة كاذبة خصوصا أننا إلى تلك الساعات المتأخرة من الليل لم نر في أيدي الشباب غير ما ذكرنا.

وصبحهم رجال الأمن :



إلى الصباح كنت على تواصل مع الأسرة بضرورة موافاتي بأي جديد وأي تحرك غير طبيعي في المجمع، ولما جاء رجال مكافحة الشغب وتواجهوا مع الشباب المتمركز عند البوابات رموهم بمسيلات الدموع فعرف كل من في المجمع أن المواجهات قد بدأت، وهنا اتصل بي الأهل وأخبروني أنهم يسمعون صوت طلقات ـ كانت تلك مسيلات الدموع ـ وانسحب الشباب إلى داخل المجمع، وبقي رجال الشغب عند البوابات يحيطون بها لتأمين الشارع المحيط بالمجمع، ثم جاءت الدبابات والجيش وصار يحيط بالمجمع وتتمركز المدرعات عند المداخل.

وزير الصحة يصل إلى المستشفى :

وفي هذه الأثناء وصل وزير الصحة نزار البحارنة إلى السلمانية لمحاولة إقناع المتجمهرين هناك بالخروج من المجمع سلميا تفاديا للمصادمات، ويبدو أن الوزير نجح في إقناع بعض الشباب بذلك، وأن الشباب تلقوا وعدا بضمان خروجهم بأمان وسلامة إن هم خرجوا، ولكن يبدو أن بعضهم كان غير واثق بهذا الوعد وصمم على البقاء في المجمع أو الفرار بطريقته الخاصة، ودليل ذلك أن بعض الشباب شوهدوا يركضون في أروقة المجمع في صورة من يلوذ بالفرار.

وصولي إلى المجمع من جهة مركز الجوهرة :

بينما كان الوزير لا يزال يحاول مع الشباب بالداخل كنت قد اقتربت من السلمانية نافذا من العدلية، بحيث صرت أشاهد مركز الأميرة الجوهرة، وألاحظ السيارات التي تسبقني وهي تصل إلى منعطف السلمانية ـ إذ تنعطف يسارا ـ ثم تكر راجعة بسرعة، ويبدو من بعيد بعض رجال مكافحة الشغب وهم يشيرون لكل سيارة بالعودة فتدور السيارات وتعود أدراجها، بل يشيرون لكل شخص راجل يقترب فيأمرونه بالابتعاد والعودة، وهذا تسجيل عثرت عليه وهو يوضح الشارع الذي كانت السيارات تنعطف عنده ولا يسمح لها بالمرور فيه إذ كانت قوات الجيش ومدرعاته منتشرة فيه :



يقف في هذا الشارع باص أو اثنين مثل هذا :



وعدد من المدرعات مثل هذه:



والجنود فوق المدرعات وفي الشارع يتمترسون، كما توجد سيارات رباعية الدفع تابعة لقوة الدفاع.

تصرف عاطفي غير محسوب العواقب :

عندما وصلت إلى الإشارة التي عند مركز الجوهرة وانعطفت يمينا بحيث صار مركز الجوهرة على يساري تقدمت شيئا فشيئا، وكان رجال الشغب يتوقعون مني كما فعل غيري أن أنعطف راجعا إذا وصلت إلى المنعطف وشاهدت قوات الجيش والمدرعات، ولكنني لم أتراجع ولم أعد بل واصلت السير يسارا بالسيارة ببطء باتجاه الجنود، ولما لاحظني الجنود صاروا يشيرون إلي بحزم لأتراجع، ولكنني تقدمت فجلس مجموعة منهم في وضع إطلاق النار وصاروا يصيحون علي بالتوقف فتوقفت وفتحت باب السيارة ببطء فصاروا يصيحون علي ألا أفتح الباب، فأخرجت كلتا يدي من فرجة الباب قبل فتحه كاملا ليروا أني مجرد من أي سلاح، ثم دفعت الباب بكتفي ونهضت واقفا خارج السيارة وتقدمت نحوهم فصاحوا علي بالتوقف وهم يتراجعون إلى الوراء فوقفت، وقد عم الاضطراب في الجنود والتفتوا كلهم نحوي حتى أن بعضهم مشى ليكون خلف الباص وبعضهم مشى ليكون خلف المدرعة ـ كانوا يخشون أن تكون عملية انتحارية أو شيئا من هذا القبيل ـ
ثم صاح بي أحدهم : ماذا تريد؟؟
فقلت له : إن أسرتي بالداخل ولن أتراجع حتى أتحدث إليكم.
فقال لي : قف مكانك ولا تتحرك.

حوار مباشر مع قائد المجموعة :

أخبروا قائدهم ـ وكان في سيارة رباعية الدفع ـ فنزل من السيارة رجل ضخم في بزة تشبه هذه الصورة مع اختلاف يسير :

    

فاتجه نحوي بكل حذر حاملا سلاحه في صورة مهابة ـ يصحبه جندي آخر عن يمينه متأخر عنه قليلا ـ لا يبدو منهما غير موضع العينين، ثم جرى بيني وبينه هذا الحوار بمعناه :

قال لي : ماذا تريد؟ (اللهجة بحرينية)
قلت له : هل تنوون الاحتراب معهم في المجمع الآن حال وجود الأسر والمرضى ؟!!! (اطمئنان متبادل)

قال لي : نحن لدينا أمر بإنهاء المسألة فإذا لم يخرجوا فسوف نقتحم عليهم !

قلت له : لكن هذا الاقتحام في حال كان لديهم أسلحة ـ كما يقال ولا أراه صحيحا ـ أو استعملوا المولوتوف قد يؤدي إلى دمار المجمع وأذية الناس!

فتكلم صاحبه الذي عن يمينه قائلا : أنتم ما أتى بكم إلى السلمانية في هذه الظروف؟ (اللهجة محرقية ظريفة)
قلت له : هل يوجد عاقل يجلب المشاكل لنفسه؟ كان الوضع مقبولا ولم نكن نتوقع أن الأمر سيتطور إلى هذا الحد، كما أن هذا السؤال يجب أن يوجه إلى الحكومة التي اضطرتنا إلى هذا الحال.
فأجاب : ألم يفتحوا مستشفى الملك حمد؟
فقلت له : فتحوها متأخرة ولا نعلم إذا كانت مجهزة أو غير مجهزة.

ثم قلت للقائد : دعني أدخل لأخرج الأسرة قبل حدوث أي شيء.

قال : لا يمكنني أن أدعك تدخل الآن لأن الوضع الآن غير آمن أبدا.

قلت له : لقد كنت أدخل في الأيام الماضية وصرت مألوفا لديهم وأنا واثق من أنني سأدخل وأخرج بسلام، كما أن أكثرهم من الصبيان والشباب الصغار وليس لديهم إلا الأخشاب والقضبان فلا يستدعي الأمر كل هذا.

قال لي : لا، إن الذين هم في المجمع الآن غير من رأيتهم بالأمس، إنهم أناس مختلفون تماما !!!! (أقلقتني هذه الكلمة منه وإن لم أقتنع بها) فسكت.

ثم قال لي : في أسوأ الأحوال لن يصل الأذى إلى الطابق الثالث فضلا عن الرابع، والوزير الآن بالداخل يتفاهم معهم ليخرجوا بالطيب وقل إن شاء الله يخرجون باللين والتفاهم.

وقال : نحن حتى الآن لم نتدخل وإن شاء الله لا نتدخل، وصدقني يا شيخ إن هؤلاء الذين بالداخل برغم كل ما فعلوه وما قالوه إلا أننا حريصون ألا يصاب أحد منهم بأقل شيء من الأذى قدر المستطاع، وعلى كل حال أنا أطمئنك أننا نتصرف على أساس أن من يرقدون في المجمع هم إخواننا وأخواتنا، وتوقعاتنا أن المشكلة تنتهي خلال ساعتين ويخرجون. (الكلام يبعث الطمأنينة)

ثم طلب مني الانتظار قليلا فانتظرت في السيارة فتكلم بالهاتف ثم جاءني فجلس عند نافذة السيارة في لطف شديد وتواضع وأعاد علي بعض ما قاله عن الوضع ومحاولة الوزير ثم طلب مني أن أعود إليه بعد نحو ساعة وزودني برقم هاتفه الخاص.

عندها تراجعت إلى الوراء بقرب مسجد الإمام أحمد بن حنبل، بحيث أراقب الوضع.

أمضيت مجمل الوقت في التحدث إلى الأسرة حول شؤون مختلفة لرفع المعنويات وبث روح التفاؤل، وكان الاتصال ينقطع في بعض الأحيان ..

موقف مريح من جندي ظريف :

وبعد أقل من ساعة استعجلت الفرج وتحركت بالسيارة إلى حيث الجنود وانعطفت كما فعلت سابقا، لم يكن القائد موجودا، لكن كان صاحبه المذكور سابقا واقفا هناك، فلما رآني قال لي : ها الشيخ؟ فقلت له : ما صار شيء ؟؟
فقال : عاد الشيخ عطونا وكت خل انتفاهم وياهم ! (ثم وضع إحدى يديه على الأخرى متكتفا كما يفعل التلاميذ) وهز كتفيه ورأسه قائلا : تبي نقتحم عليهم؟ ها؟ تبي نقتحم عليهم؟؟ إذا تبي نقتحم عليهم قول !!!!! (أضحكني وكنت مهموما) فقلت له : بالعكس تماما، بل هذه الروح الإنسانية والتؤدة واللين في معالجة الأمر هو ما نحتاجه بالضبط وخذوا كل الوقت في هذا الاتجاه الصحيح .. وانصرفت عائدا إلى حيث كنت عند مسجد الإمام أحمد بن حنبل.

[شكر وتقدير] :

أجدني هنا مضطرا للاعتراف بأن هذه القوة بقائدها هذا ومن معه أثبتوا لي بما لا يدع مجالا للشك أنهم شرفاء ونبلاء وأنهم يحتاطون للدماء إلى أقصى حد ممكن فلهم مني كل تحية.

سحابة سوداء تنبعث من المجمع :

بعد مدة انبعثت سحابة سوداء ضخمة من المجمع لا أدري سببها، ولكن الدخان المنبعث غطى المجمع شيئا فشيئا وتسلل عبر أجهزة التكييف إلى داخل المجمع مما حدا بالمسؤولين إلى إغلاق المكيفات ونقل الأطفال إلى الغرف الخاصة .. وبالتواصل مع قائد الجنود أكد لنا أن ذلك لن يتكرر وأن الهواء الآن يبعد السحابة عن المجمع وأن بوادر انفراج تبدو .. وهذه صورة السحابة والتي التقطتها في الساعة 10.58 دقيقة ضحى:



الاتصال بالصددي :

لاحت لي فكرة الاتصال بعلي حسن الصددي والذي كان رئيس اللجنة التنظيمية للتأكد من الوضع وإسداء النصيحة الضرورية، فاتصلت به وجرى بيننا بعد السلام ما معناه :



قلت له: أرجو أن تكونوا وجميع من في المجمع بخير؟
فقال: نعم الكل بخير.
فقلت له : يا علي ربما لا ترى ما أراه الآن وأنا خارج المجمع، هناك مصفحات وجنود مدججون بالسلاح، فإياكم والمغامرة بأنفسكم.
فقال: يا أستاذ نحن مسالمون تماما ونجلس على الأرض وليس لدينا أي نية للمقاومة أو فعل أي شيء غير ما يأمروننا به.
فقلت له : هل معنى هذا أن كل شيء انتهى وأنه لا توجد مواجهات؟
فقال : نعم كل شيء هادئ وساكن تماما.
ثم تحدثنا في شيء لا حاجة إلى ذكره هنا، ويبدو من خلال كلامي مع الصددي أنهم تحاجزوا فقط ولم يختلطوا برجال الأمن بعد وإلا ما تمكن الصددي من الرد على الهاتف.

بعض الشباب يخرجون بسياراتهم من المجمع :

شاهدت بعض السيارات التي كانت في الموقف تخرج من المجمع وحدثني بعض من كان هناك ذلك الوقت أنهم شاهدوا سيارات مدنية تخرج مسرعة من المجمع، لكن يبدو أن البعض الآخر قرر الفرار بطريقته وبعضهم قرر البقاء في المجمع.

وقد علمنا فيما بعد أن وزير الصحة استقال احتجاجا على إصرار رجال الأمن على اقتحام مبنى المجمع ودخوله.

الإذن بالدخول على مسؤوليتي :

بعد صلاة الظهر أجريت مكالمة مع القائد المذكور فطلب مني الحضور، فلما وصلت إليه جاء إلي وكلمني قائلا ما معناه :
نحن لا نعرف كيف هي الأوضاع الآن بالداخل تماما، رجال الأمن يسيطرون على المبنى من الخارج، وأما بالداخل فلا ندري ما هي الأوضاع، فإذا كنت مصرا على الدخول فذلك يكون على مسؤوليتك الشخصية !
قبلت ذلك، فقام بالتحدث عبر الهاتف إلى أحدهم يخبرهم ببياناتي الشخصية ومواصفات معينة عني وعن السيارة ثم طلب مني التقدم ببطء (وبدا لي من خلال هذه الإجراءات أنني أول من يدخل السلمانية من المدنيين بعد هذه الأحداث) فتقدمت بسيارتي في الشارع المذكور أتخطى الحواجز والمدرعات، وأنا أشاهد السيارات المدنية على جوانب الطريق تم تفتيشها وفتحها بحيث ألحق ذلك أضرارا واضحة بزجاج السيارات وبعض الأبواب، وقد شاهدت إحداها وكأن مدرعة مشت على عجلتها الأمامية ..
   
أشاروا إلي بالدخول من البوابة (6) وبمجرد عبور سور البوابة وإذا بي كأني في صحراء، هدوء شديد، وصمت عجيب، فتقدمت إلى أن وقفت بالسيارة قرب بوابة طوارئ الولادة ونزلنا .. وكان هناك شرطي فأرشدنا إلى السير للدخول من البوابة الرئيسية للطوارئ جهة اليمين ..

عند بوابة الطوارئ :





لما وصلت إلى البوابة شاهدت أعدادا من رجال الأمن في الساحة المقابلة لبوابة الطوارئ، منهم الواقف ومنهم الجالس ومعهم مجموعة من الكلاب، وكانت بقايا الأدخنة منتشرة تملأ المكان ويتطاير في الهواء سخام أسود، وقد تم تفكيك كل الخيام وتسويتها بالأرض وقد عمت الفوضى المواقف لكثرة المخلفات .. وعندما اقتربت من البوابة كانت مفتوحة ومن الداخل يجلس يمينا ويسارا مجموعات من الأطباء والممرضين رجالا ونساء، ألقيت عليهم التحية، وقد شعرت بنظراتهم الغريبة نحوي وهم يشاهدون شخصا يدخل ويلقي التحية وكأن شيئا لم يكن، وواصلت طريقي في هدوء تام وفي الطريق كنت أنظر يمينا ويسارا وعلى اليمين شاهدت غرفة واسعة يتمدد فيها مجموعة من الشباب على الأسرة ! وكانوا ينظرون إلي فلما نظرت إليهم امتلأ قلبي هما وحزنا عليهم وتمنيت لهم السلامة، إنهم نفس الشباب ونفس الملابس وليس كما ظن القائد أنهم كائنات مختلفة وجديدة وخطرة !! ثم وصلت إلى المصعد ثم إلى الطابق الرابع في هدوء تام، ولم ألاحظ في خط سيري كله من يحمل سلاحا أو يتحفز لمكروه، بل كانت المستشفى كأنها خالية منهم، وهو يؤكد ما توقعته، فلما دخلت قسم الولادة أخذتني الأنظار، وطلبت من المكتب الأوراق الخاصة بنا للخروج فورا، فلما سمعني بعض الشباب ـ وكانوا مع عائلاتهم ـ واطمأنوا إلى أنني مدني جاؤوني يتحدثون إلي يسألونني كيف دخلت وكيف سأخرج ويذكرون لي ما حدث لهم وكانوا في غاية الخوف والقلق، وكنت أتمنى لو استطعت أن أخرجهم معي ولكن ما باليد حيلة، وكل ما أمكنني قوله تسلية لهم أنني شاهدت مجموعة من الشباب يخرجون ـ سمحوا لهم ـ فإن شاء الله يحصل فرج وتنتهي الأمور على خير، ثم أخذت الأمتعة والمستلزمات ومشينا مع الأهل تساعدنا إحدى الممرضات.
وهنا أذكر أن مجلة مرآة البحرين الألكترونية كانت نشرت مذكرة حول أحداث السلمانية بقلم أحدهم، وقد ذكر الكاتب أنه شاهد عائلة جيء بهم على أساس أنهم رهائن !! فإن كان هذا الكاتب يقصدنا فقد أشكل عليه الأمر وتوهم ما لا حقيقة له، ولم نشاهد ذلك الوقت أي كاميرات تصوير، ولم نلاحظ الإشارة إلينا من قريب أو بعيد في أي وسيلة إعلامية على أننا رهائن ولو شاهدت شيئا من ذلك لرددته وأنكرته في وقته، فلعل الكاتب يقصد غيرنا ممن دخل بعدنا، والله أعلم.

حملنا أمتعتنا وما نحتاج إليه، ومعنا الطفل تحمله ممرضة تساعدنا، وخرجنا من السلمانية حسب إرشاد رجال الأمن من البوابة (5) وتجاوزنا المدرعات، وعندها اتصلت بالقائد أشكره إذ يسر الأمر ولم يعسره، وأشهد هنا أنني لم ألاحظ وجودا لما يسمى بدرع الجزيرة في تلك القوات، بل كانوا مواطنين بحرينيين أصليين أو من أصول عربية، وما راج من أن درع الجزيرة كان مشاركا فغير صحيح من خلال مشاهدتي، وهكذا أخذنا طريقنا إلى البيت والحمد لله رب العالمين.



الخاتمة

يقول تعالى : ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10))) سورة الحجرات.

هذه الآية الكريمة والتي قبلها تحدثت عن القتال بين المسلمين، والذي كان أكثره بسبب الخروج على الحكام ونقض بيعتهم وطاعتهم، وقد تعرض علماء التفسير لهذه الحالة في كتبهم، كما بوب علماء الفقه الإسلامي لهذه الحالة في كتب الفقه بابا خاصا سموه بباب (البغي) وبينوا الأحكام الإسلامية المتعلقة به، وما حدث في البحرين في فبراير ومارس من سنة 2011م هو من هذا الباب، والأحكام الإسلامية في هذه المسألة في غاية العدالة والإنصاف والرحمة للجانبين المحتربين من المسلمين، وقد اعتبر الفقه الإسلامي هذه الحالة بحالة فتنة يجب على المسلمين العودة منها إلى رشدهم والمصالحة ثانية وإزالة أسباب الفتنة من جذورها .. وقد شرحنا جملة من أحكام هذه المسألة في مدونتنا بعنوان (رد السنة والشيعة إلى سماحة أحكام الشريعة) وعلى من تابع حلقاتنا أن يقرأ هذا المقال بعد الفراغ من هذه الخاتمة.

وبالرغم من أن الفبركات الإعلامية تم استعمالها في الحروب الإسلامية إلا أنه وبعد الحرب لم يحاسب أحد على ذلك، إن الفقه الإسلامي يرفع الحرج عن المخادعة في الحرب بناء على اعتقاد كل طرف أنه على الحق وأنه يشرع له المشي على قاعدة (الحرب خدعة) وهي قاعدة مسلمة سياسيا قبل الإسلام، كما هي مسلمة في الفقه الإسلامي السني والشيعي ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

إلا أنه وللأسف الشديد تختلف أحكام هذه المسائل في القوانين الوضعية المعمول بها في كثير من الدول والممالك الإسلامية اليوم اختلافا جذريا عنها في الشريعة الإسلامية فتتسم في الوضعية منها بالشدة والعنف والتناقض وبث روح الانتقام، بحيث إذا انتصر الثائرون نسبوا إخوانهم إلى الخيانة وفتكوا بهم بنصوص القوانين الوضعية، وإذا انتصر الطرف الآخر نسب الثائرين عليه إلى الخيانة وفتك بهم بناء على النصوص الوضعية .. وهذا ما انجر إليه أكثر الناس في البحرين .. وتركوا أحكام الشريعة وراء ظهورهم.

إن هذه الحالة تكررت كثيرا في التاريخ وكان لها صدى واسع في التاريخ الإسلامي، وما حرب الجمل وصفين وحروراء إلا أمثلة لهذه الحركات والحالة، إلا أن حالة البحرين تعتبر مثالية إذا ما قورنت بتلك التي ذهب ضحيتها آلاف من المسلمين .. فليس علينا أن نلوم أنفسنا لظهور مثل هذه الحالة في البحرين فلسنا خيرا من جيل الصحابة الذي مضى .. ولكن جيل الصحابة عالج المسألة إسلاميا فلم يصف أي طرف منهم الآخر بالخيانة أو العمالة أو الكفر أو غير ذلك، وكان أكبر وصف أنهم "إخواننا بغوا علينا" ومن أعدل الأوصاف قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم، ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكنا رأينا أنا على الحق، ورأوا أنهم على الحق" ..

إن كثيرا ممن واجهتهم من أفراد المعارضة أو الأطباء أو رجال الأمن كانوا نبلاء وفيهم رحمة وإنسانية ونجدة ومروءة وشهامة، وأكثر الأخطاء والتجاوزات تقع من أناس قلة ضعيفة الأخلاق رقيقة التدين، ولكن تبقى المشكلة في التعميم على الناس ورميهم كلهم بصفة السيء منهم وهذا ليس من العدل والإنصاف في شيء.

إن المعارضة في البحرين كانت بحسب الاصطلاح الفقهي حركة بغي سلمية غالبا بمعنى أنها لم تحمل السلاح الحربي المعروف، ولم تصل الحالة عندنا إلى ما كان في حرب الجمل وصفين .. وإن إقحام السلمانية في نشاطاتهم السياسية كانت خطوة فاشلة وغير محسوبة، وقد أتت بنتائج سيئة للمعارضة، وبقية الأحكام تؤخذ من مقالنا سابق الذكر (رد السنة والشيعة ..) ..

وفي ختام هذه الخاتمة أجدني مضطرا لاحترام شخصيات كثيرة لكني أخص هنا بعضها فأبعث التحية لأطباء وطبيبات السلمانية الشرفاء الذين لم يميزوا في العلاج بين هذا ولا ذاك ولم تمنعهم السياسة من أداء واجبهم ولم يتعرضوا لمريض بسوء من قول أو فعل فأهدي لهم التحية مجددا، وأخص من بينهم قسم الولادة بكل إجلال وإكبار واحترام، وبالرغم من اختلافي مع المعارضة فكريا وسياسيا وتخطئتي لهم في كثير مما أتوه لكنني أسجل هنا احترامي لمثل علي حسن الصددي إنسانا نبيلا ومسالما، وأشهد أنه كان يبذل ما في وسعه للحفاظ على السلم ولجم طيش الشباب، كما أهدي التحية والسلام لقائد القوة المكلفة بالسيطرة على السلمانية ولصاحبه الظريف ولكل من كان على مثل أخلاقهم النبيلة وشهامتهم وأستبعد كل الاستبعاد أن يكون مثلهم يرتكب ما ينسب إليهم من الإهانة والتعذيب وأتصور أن ذلك يكون ـ إن حدث ـ من غيرهم لا منهم، ولو جاز لي اختيار من يستحق التكريم في مثل تلك الأحداث لاخترت هذا القائد المتواضع والواقف عند حدود الله.

هذا وليس كل ما عرفته قلته، بل قد تركنا بعض التفاصيل التي لا حاجة إليها، وأصحابها يعرفون ذلك، كما أن ما كتبته قد يحتاج إلى تصحيح لأني أكتب مرتجلا فقد أكون قدمت أو أخرت ولي عودة للتصحيح إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهت الحلقات.



السبت، 17 مارس 2012

الساعات الأخيرة في مجمع السلمانية (6)


الحلقة الخامسة


يوم الثلاثاء 15 مارس

يوم الثلاثاء وما أدراك ما يوم الثلاثاء ! يوم تتكشف فيه الحقائق وتظهر، ويبدو فيه ما كان استتر، والحمد لله على ما قضى وقدر، وما شاء فيه وأراد وأمر ..

أما صباح هذا اليوم فهو أكثر هدوءا، وأشد صفاء، دخلت فيه إلى المجمع كما أدخل كل يوم، ووقفت كما أقف عادة، وتجولت فيه قليلا فلم أر ما يستدعي العساكر والدساكر، ولكن الناس انقطعت عن المجمع لهول ما تصغي إليه وبشاعة ما تسمع.

زيارة السلمانية مع بعض الزملاء :

وقبيل العصر جمعني الزمان ببعض الإخوان فسألوني عن أحوالي، فلما ذكرت لهم انشغالي وترددي إلى السلمانية عجبوا واستغربوا وسألوني كيف أصل إليه وهو محتل؟ وأهل السنة فيه تخطف وتعقل؟! فأجبتهم بالنفي لكثير مما يشاع ويذاع، وسألتهم الصحبة إلى المجمع، ليعاينوا بأنفسهم، فما راء كمن سمعا، فذهبوا معي إليه ـ وأعانوا على حمل بعض الأمتعة والطعام لنهديه لعاملات الجناح بمناسبة سلامة الأهل والمولود ـ فدخلنا وخرجنا ولا إشكال ولا تعرض أحد لنا بمقال .. اللهم إلا ساعة خرجنا من المجمع إلى الشارع عند بوابة (6) فإذا بشاب يقود سيارته أقرع الرأس والأخلاق، يمر بنا ملتفتا إلينا، فلما رأى هيأتنا ـ أي أننا من أهل السنة والجماعة ـ نظر إلينا نظرة الحماقة والرقاعة، قائلا بزمارة سيارته: (تن تن تتن) !! أراد بذلك أن يغيظنا، وهذا من جملة الاستفزاز الذي لا يليق بدعاة الحرية والعدالة .. فنظر بعضنا إلى بعض فقلت لهم : هل ترون هذا المقدار من الأذى خارج المجمع يساوي ما تسمعون عن داخله؟ قالوا : اللهم لا .
وإلا فلم نر في المجمع ذلك الوقت شيئا يعكر الخاطر أو يكدر البال، ولم يظهر أن ثم تجمعا أو حشدا أيضا في ناحية الطوارئ.

نعم كان الهدوء والقرار ولكنه الذي يليه الإعصار ..

 كلمتي بالأمس تختفي اليوم :

وفي الصباح وعند الظهر وقبيل العصر حاولت أن أجد أثرا للكلمة، ولكن لا أثر أبدا ! وهذا عجيب، فقد كنت أظن أنهم أحرص الناس على نشرها لما ذكرنا فيها من هدوء المجمع وبطلان كثير مما يشاع عنه، بل إني أقطع أن كثيرا من الأطباء والعاملين كانوا يبادلونني الشعور نفسه أي أنهم يرغبون أشد الرغبة في توضيح صورة السلمانية الحقيقية قبل أن تقع الفأس في الرأس، وقد كان النشر ميسورا بطرق كثيرة لا تخفى على طلاب المدارس فضلا عن لجان منظمة إعلاميا !! لا يقال بأن كتمانها هو من باب الحماية لنا والخوف علينا لأنهم كانوا ينشرون كلمات كثيرة وكانوا يصورون ويسجلون، ولو أرادوا كتمان ذلك لما سجلوا وصوروا أصلا، ولكني لم أعرف بعد السبب الحقيقي لامتناعهم من نشرها إلا ما سبق أن ذكرته ظنا وتخمينا، وقلت لعل عارضا منعهم من نشرها الآن وينوون ذلك في الساعات المقبلة، وكان الرأي أن أسألهم لاحقا عن الكلمة ولكن الأحداث التي جدَّت أنستنا ما كان قبلها، وسبحان من لا يضل ولا ينسى.

 أخطر إشاعتين في تقديري :

أخطر شيء راج كثيرا ذلك اليوم هو الأسلحة المخبأة، والرهائن المعتقلون .. فمن السهل جدا أن ندرك صدق أو كذب الكلام على التفتيش والفرز والتمييز الظاهر لأننا كنا سنرى ذلك لو كان موجودا فهو عند الأبواب والمداخل، ولكن التأكد من عدم وجود أسلحة مخبأة أو عدم وجود رهائن أبدا في المجمع كله لا يمكن إلا بتفتيش كل ركن وزاوية من المجمع الضخم ! وهذا صعب وعسر جدا .. فبقي لدينا قلق شديد من احتمال صدق هذه الإشاعة، لا سيما مع وجود الشباب الطائش والمندفع الذي تصعب السيطرة عليه، وكنا نرجو على الدوام أن تكون هذه الإشاعة من جنس ما سبقها مما نفاه الوزير والنائب وما نفيناه نحن أيضا ..

الراصد وطبول الحرب :

بحلول المساء وقبل أن أتهيأ للذهاب للسلمانية كرة أخرى كنت أتتبع الأخبار، وإذا ببرنامج الراصد قد تخصص الليلة في شؤون السلمانية ! وبمجرد أن بدأ البرنامج وشرع الحاضرون والمتصلون بالكلام لمست نبرة التصعيد الجديدة !! حاولت الاتصال بهم لكن دون جدوى ! فلم يزل يتفاقم الأمر حتى وصل البرنامج إلى الحديث عن الرهائن والأسرى ثم اتصلت امرأة تستصرخ الملك (لإنقاذ أهل السنة في مستشفى السلمانية ) !!! وتزعم أنهم سيقتلون الممرضات السنة ! وتلاها رجل ينادي (وامعتصماه)!!!:



فأحسست كأن طبول الحرب تقرع على رأسي وتنفخ أبواقها في أذني، وضاقت علي الدنيا بما رحبت فلم أستطع أن أضبط نفسي فنهضت مسرعا وركبت سيارتي منطلقا إلى السلمانية التي تركتها هادئة قبل نحو ساعتين ..

خرج الأمر من أيدينا :

لما أيست من التقاط خط تلفزيون البحرين هذه المرة خطرت لي فكرة الاستعانة بشخصين يمكنهما التحدث إلى أي مسؤول كبير في الدولة، فاتصلت بأولهما وشرحت له الوضع فتعجب وتحير ثم كان جوابه أن قال: (ماذا أقول لك؟) ولم يقل شيئا !
وأما الآخر فشرحت له الوضع وذكرت له حاجتي إلى واحد من شيئين فقط:
إما أن يتحدث نفسه إلى مسؤول الإعلام طالبا منه تخفيف الوطأة على السلمانية وأن يتبين الأمر جيدا قبل أن يهلكنا هناك.
وإما أن يفسح لي المجال ويمكنني من الخط لأتحدث نفسي إلى برنامج الراصد فورا.
ولكن كان جوابه (لقد خرج الأمر من أيدينا) لا نستطيع أن نفعل شيئا الآن، فقد دخل درع الجزيرة واستلم زمام الأمور !
وهكذا قطعت جهيزة قول كل خطيب، وكان علي أن أتوجه إلى قسم الطوارئ فورا للتأكد من مسألة الرهائن.
ولو أنني تمكنت من التواصل مع تلفزيون البحرين لعرضت عليهم أن أكون مراسلا لهم تلك الليلة على الهواء مباشرة وأن أدخل إلى أي مكان شاؤوا للتأكد من مسألة الرهائن هذه وغيرها مما يمكن أن يساهم في طمأنة الناس، ولكن مشيئة الله غالبة.

خطاب وهتافات في السلمانية :

وصلت إلى المجمع هذه المرة نافذا من العدلية، ودخلت من جهة مركز الأميرة الجوهرة ولأول مرة أفاجأ بشباب في أيديهم الهراوات والعصي يقفون هناك قبالة الموقف الكبير! لم أسألهم عن سبب وجودهم ولكن يبدو أن ثم خطابا يلقى عند الطوارئ وهتافات وهم كانوا يوجهون من يقصد هذا التجمهر إلى الوقوف في الموقف الكبير المقابل لمركز الجوهرة ..

ويظهر أن من يخطب فيهم هذه المرة لم يكن يفكر مثل المقداد، لأن المقداد كان يرشدهم إلى الهدوء والسكون ويأمرهم بالذهاب إلى الدوار وترك السلمانية، وأما هؤلاء فكانوا يرددون هتافات بصوت عال بين الحين والآخر مستمرين في برنامجهم داخل السلمانية !

إلى قسم الطوارئ :

لم أتوجه إلى قسم الطوارئ الرئيسي حيث التجمهر، بل سلكت طريقا آخر يوصلني إلى طريقي المعتاد ودخلت إلى قسم الطوارئ من بوابة الولادة، واقتحمت المكان على الطاقم هناك وأنا في غاية الأسف والانزعاج، فاجتمع بعضهم حولي مبادرين بالقول: هل سمعت ما يقولونه عنا يا أستاذ؟ أنحن نحتجز رهائن ونريد قتلهم؟! قلت لهم فما قولكم أنتم؟ قالوا : كل هذا كذب وافتراء علينا ونحن لا نفعل ذلك وهذه السلمانية مفتوحة لمن شاء أن يرى ويشاهد !! قلت لهم: فلماذا لا تتصلون بهم لتبينوا لهم ذلك؟ قالوا : لا يسمحون لنا بذلك.

صعدت إلى قسم الولادة وأنا محتار في أمري من أصدق ومن أكذب! وبالرغم من أن الأخبار لا تصل إلى الأسرة عبر التلفاز إلا أن بعض ضعفاء العقول من المتصلين كانوا ينقلون إلى المرضى بداخل السلمانية ما يسمعونه في الإعلام ! بحيث انتشر القلق والتشوش، ولهذا أمرت الأهل بعدم الرد على أي اتصال إلا أن يكون مني شخصيا.

وزير الصحة يتصل بتلفزيون البحرين :

علمت فيما بعد أن وزير الصحة كان اتصل على برنامج الراصد وأوضح الأمور ووضع النقاط على الحروف واستبشر الحاضرون والناس خيرا بكلامه ولكن يبدو أن الوقت قد فات وهذه كلمته:



الإمساك بمصورين في الطوارئ :

خرجت مجددا لإحضار الطعام الضروري، لم يكن هذا اليوم كسائر الأيام بل يبدو أن شيئا ما يحدث لا ندري ما هو، وبينما كنت خارج المستشفى تسلل خبر إلى الناس بداخله أن المتجمهرين أمسكوا ببعض رجال الأمن !! وهذه إن صحت فهي مصيبة تضاف إلى الوضع المتفاقم أصلا ..

التواصل مع اللجنة التنظيمية:

اتصلت بعلي حسن الصددي لأعرف منه حقيقة ما يدور، وجرى بيني وبينه الحوار التالي بمعناه :



سألته عما يجري وعن حقيقة الرهائن، فأنكر ذلك وذكر أنهم يمسكون فقط برجلين كانا يصوران دون تصريح، لأن كل مصور عندهم معروف لديهم أنه يصور لهذه القناة أو تلك الجريدة أو المجلة، وهذان الرجلان لا ينتميان إلى أي شيء من ذلك، وما عندهم من الصور يدل على أنهما يعملان لحساب الأمن !
فقلت له : على فرض أنهما من رجال الأمن ـ وهما ينكران ذلك ـ فما المشكلة في أنهما يصوران مادمتم لا ترتكبون خطأ من وجهة نظركم؟ فأجاب بأننا وإن كنا لا نفعل الخطأ لكننا لا نعرف كيف سينظر الطرف الآخر إلى هذه الصور وكيف يمكن أن يستغلها ضدنا، ولهذا فهي تشكل خطرا علينا.
قلت له: إن أردت نصيحتي فلا بد من ترك الرجلين حتى لا يتفاقم الأمر أكثر فأكثر فما يقال الآن كاف جدا. فأجاب بأنهم لا ينوون بهم شرا أبدا، ولكن المتجمهرين خصوصا الشباب المندفع ثائرون عليهم ويريدون الفتك بهم ويتهددونهم بالقتل ولهذا لا نستطيع الآن تركهم أمام الأعين لأن هذا سيؤدي حتما إلى هلاكهم أو ضررهم.
قلت له: هذا صحيح فحمايتهم ضرورية ولكن لا بد من الإسراع بتركهم حتى لا تستغل هذه المسألة، ولهذا أقترح عليك وبأسرع وقت أن تقوم بإصعادهم إلى قسم الولادة ليبتعدوا عن بؤرة التوتر وأنا أتكفل بالباقي.

وقد وفى الرجل، فعندما عدت إلى السلمانية وصعدت إلى الطابق الرابع كان ينتظرني معهما، فتركهما معي وذهب، وكانا خائفين أشد الخوف ولا يصدقان أنهما أفلتا من قبضة الموت!

في البداية جلست معهما لطمأنتهما ولأزيل الرعب عنهما وعرفت منهما بعض التفاصيل، ثم قمت بالخروج مع أحدهما من جهة ومع الآخر من جهة أخرى ولم يتعرض لهما أحد، ولكن ياللأسف فقد صارحني أحدهما أنه قام خلسة وهو محبوس في الخيمة بالاتصال بالأمن وطلب نجدتهم وأنه يوشك أن يقتل !!! ولكن رجال الأمن أخبروه بأنهم لا يقدرون الآن حالا على الدخول للسلمانية وأن هذا يحتاج بعض الوقت وأن عليه أن يسايرهم، ولهذا رجوت الأخ المصور هذا أن يتوجه فور خروجه من السلمانية إلى رجال الأمن ليخبرهم بأن المسألة تم حلها وديا وأنه يمكن حل باقي المشاكل كذلك، وقد وعدني الرجل بأن يذهب فورا إلى الأمن لإحاطتهم بالأمر، وقد تأكد لي عبر التواصل بالهاتف أنهما قد خرجا بسلام وأن المصور قد أبلغ رجال الأمن بأنه تم تسوية المسألة.

قلت في نفسي حينها : لو كان هؤلاء المنظمون ينوون شرا من اعتقال وارتهان لأحد لما تركوا هذين الرجلين، أو لكان أقل شيء أن يصيبهما ما أصاب الطالب خالد السردي في جامعة البحرين، ولكني لا أجد تفسيرا لهذا التصرف من الصددي ومن معه إلا أن أكثر الحوادث المؤسفة هي تلك التي يأخذ الزمام فيها مجموعة من الصبيان أو الشباب الطائش دون العقلاء والناضجين من الرجال.

خبر المداهمة يتأكد :

بعد وقت قليل شاع الخبر في كل أرجاء البحرين بأن مداهمة السلمانية وشيكة، خلال ساعات قادمة، وجاءتنا اتصالات من بعض الأقارب بضرورة مغادرة السلمانية، بل طار الخبر إلى لندن فجاءني اتصال من أخي محمد وهو في شيفيلد بضرورة مغادرة السلمانية فورا !!

أذكر حينها أنني اتصلت بالمستشفى العسكري وطلبت منهم إرسال سيارة إسعاف لنقل الأهل، ولكنهم اعتذروا عن ذلك ! وكان اعتذارهم منطقيا في ظل تلك الظروف.

وباستشارة الطبيبة حول إمكانية الخروج الليلة حذرتنا من ذلك وأن الخروج الآن خطر صحيا وليس قبل يوم غد !!

عزاؤنا الوحيد في تلك الأوقات الصعبة التوكل على الله، وأننا لسنا وحدنا بل معنا العديد من العوائل والمرضى الذين ينتظرون المستقبل المجهول ..

عند أسوار السلمانية :

في هذه الأثناء وفي حدود الساعة التاسعة ليلا كانت لي خرجة سريعة لبعض الحاجات ولتقريب السيارة من موقف بوابة (6) فلاحظت أن الأنوار أطفئت في السلمانية عند قسم الطوارئ، واندفع كثير من الشباب المتجمهر إلى سياراتهم يخرجون عائدين إلي بيوتهم أو متجهين إلى الدوار، وبقيت منهم أعداد توزعت على البوابات يحملون الهراوات والأخشاب، وقد شاهدت حينها بعض تلك الأدوات كالمناشير والمناجل وبعض السيوف وقضبان الحديد المستعملة في البناء، في زواية من زوايا بوابة (6) من خارج السور، كما توجد بعض الزجاجات المغطاة بقطع القماش أو الخيش، والمسماة بالملوتوف مسندة إلى الجدار الخارجي للسلمانية وبعضها كان على الأرصفة الخارجية عند الموقف الكبير، ولم أشاهد تلك الليلة أي قطعة سلاح حربي كالبنادق والمسدسات والرشاشات في يد أحد مطلقا، وكنت قلت في نفسي إن كان ثم شيء من ذلك فسيخرج هذه الليلة أو غدا ..
وأظن أنه في هذه الليلة تم سد بعض البوابات بالشاحنات التي تحمل سيارات الإسعاف، كما شرعوا في وضع المتاريس في الطرقات هي عبارة عن حاويات القمامة وبعض الحواجز المعدنية وغيرها .. وعندما سألت بعض هؤلاء الشباب عن سبب هذه الاستعدادات أجابوني بأن (بلطجية النظام) سيهاجمون السلمانية الليلة !!
من خلال محاولتي لاستيعاب ما يدور حولي ترجح لدي أن سبب حراستهم للأبواب كان وجود أعداد من أصحابهم جرحى يرقدون في السلمانية وهم بهذا التصرف ينوون حمايتهم من دخول رجال الأمن للقبض عليهم، والظاهر أنهم كانوا يتوقعون دوريات قليلة يمكن صدها، أو كانوا يعلمون أن مآلهم الفرار لكن الفرار المبكر ليس من المروءة، والله أعلم.

أما خارج أسوار السلمانية فقد عم الظلام والهدوء القاتل إلا من الرياح الذارية للتراب والغبار، وخلت الشوارع المحيطة بالسلمانية وامتد هذا الهدوء والخلو إلى حدود العدلية، وأغلقت المحلات والمتاجر ولا تكاد ترى شيئا منها مفتوحا إلا القليل جدا بقرب شارع الفاتح.

صراع القلب والعقل في جلسة عائلية :

عدت لأتجاوز المتاريس وأصل إلى بوابة (6) داخلا السلمانية، وبعد أن حملق الشباب في ألفوا المنظر فأوسعوا لي لأدخل، وفي الأعلى في غرفتنا الخاصة كان علي أن أختار أحد أمرين الآن:

إما أن أبقى هذه الليلة الصعبة مع أسرتي ـ وهو حكم القلب وقضاؤه ـ وإما أن أخرج تاركا أسرتي في السلمانية ـ وهو حكم العقل ـ عائدا إلى البيت، أما الخيار الأول فهو ما تميل إليه النفس السوية والفطرة الطبيعية، ولكن العقل لا يرى البقاء لأن الأمن إذا دهم السلمانية فسيكون كل من هو داخل أسوار السلمانية من الرجال غير المرضى والأطباء محل شك وريبة ولن يقبل له قول أو يسمع له رأي، وأما لو خرجت فيمكنني من الخارج أن أتصرف، وإذا تحدثت إلى رجال الأمن قادما من الخارج فلعل الأمر يكون أكثر قبولا لديهم هكذا يقول العقل، وهو ما ترجح بإجماع الأسرة، وبعد أن تقدم الليل بسواده واستسلم كل ناعس إلى رقاده وبعد أن بقي على بزوغ الفجر أقل الليل نهضت أنا ووالدتي لنعود إلى البيت بعد تأمين الاتصالات والهواتف اللازمة للتواصل مع باقي الأهل أولا بأول عندما يجد أي جديد .. خرجت من السلمانية والمرارة تملأني والحزن يلفني والله تعالى خير حافظا وهو أرحم الراحمين. (تابع الحلقة السادسة والأخيرة)