الأحد، 29 يناير 2012

مسألة في فقه الأمر بالمعروف عند الشيعة الإمامية وأحداث البحرين

 
نـــص الســــــــــؤال

السلام عليكم ورحمة الله، لي صديق شيعي يرى أن المسيرات وأعمال الشغب جائزة وأن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن الخروج على الحاكم إذا كان عندكم محرما فهو عندنا جائز، فهل كلامه صحيح؟

الجـــــــــــــــــواب

بسم الله الرحمن الرحيم

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته ..

جمهور أهل السنة والجماعة منعوا الخروج على سلاطين الإسلام، وإن جاروا، لما ينتجه الخروج من مفاسد عظيمة جدا، وأوجبوا نصحهم وأمرهم ونهيهم بما تقتضيه الشريعة الإسلامية من الحكمة والرفق واللين، قال تعالى: (فقولا له قولا لينا) وقد طالعت بعض مراجع فقه الإمامية فرأيت المسألة مبحوثة لديهم في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من كتب الروايات وكتب الفقه، فوجدت مذهبهم في أقواه وأظهره وأشهره موافقا لمعتمد مذاهب الجمهور، وإن اختلفت وتفاوتت أسباب المنع، وسأعرض لك مختصرا يفي بالغرض إن شاء الله تعالى.  

الروايات توجب الأمر بالمعروف بشروط منها الأمن من الضرر:

فإذا نظرنا في الآثار المروية لديهم في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجدنا الإمامية يوردون أخبارا كثيرة منها هذان الخبران عن الإمام الصادق :

ففي وسائل الشيعة للحر العاملي 16/127 ـ128 :

((ـ قال أبو عبد الله عليه السلام: إنما يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر مؤمن فيتعظ، أو جاهل فيتعلم، فأما صاحب سوط أو سيف فلا.

ـ عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي: يا مفضل من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر عليها)) اهـ.

فقه هذين الخبرين:

فالخبر الأول يقرر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتوقع أن يستفيد منه المؤمن لتقواه، والجاهل ليتعلم، ففي هذه الحالة ينبغي أمرهما ونهيهما، وأما من يتوقع ضرره عند أمره أو نهيه كما هو حال السلطان الجائر الذي لا يعرف إلا السيف والسوط فلا ينبغي التعرض له حينئذ، لما في التعرض له من الأذى المتوقع.
والخبر الثاني يقرر أن من يتعرض لمن شأنه الإضرار كسلاطين الجور فإنه لا أجر له، بل إنه لن يوفق للصبر على البلاء إذا نزل به من هذا السلطان، وهذه العبارة الأخيرة ظاهرة في حرمة التعرض حينئذ.
وهذا كله محمول على من تعرض للسلطان بطريقة يتوقع ضررها، وأما من استعمل ما تقتضيه الشريعة من الرفق واللين والحكمة فوصل إليه الضرر فهذا لا شك أنه مثاب ومأجور لأن الضرر لم يكن متوقعا ولا مظنونا، ولأنه لم يترتب على مخالفة أو شدة من الآمر.

والظاهر من كلام جمهور فقهاء الإمامية أنهم جعلوا هذين الخبرين وما في حكمهما، وأخبار التقية عندهم، كالحاكمة بالتخصيص والتقييد لباقي أخبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كلام بعض فقهاء الإمامية في المسألة:

ونجد أن هذا الفهم للأخبار قد انتقلت خلاصته إلى كتب الفقه الإمامي، فيقول أبو القاسم نجم الدين الحلي المشهور عند الإمامية بالمحقق في كتابه الشهير "شرائع الإسلام" 1/259 في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
((ولو افتقر إلى الجراح أو القتل، هل يجب؟ قيل: نعم، وقيل: لا، إلا بإذن الإمام، وهو الأظهر)) اهـ.

تراه هنا يذكر خلافا في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المؤدي إلى ضرر من جرح أو قتل، فيذكر أن من الإمامية من أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو أدى إلى جرح أو قتل الآمر بالمعروف أو جرح وقتل المأمور على سبيل الدفاع عن النفس وصاحب هذا القول هو الشريف المرتضى كما سيأتي، ولكن المحقق الحلي يعود فيقول بأن الأظهر هو منع هذا النوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يشير بذلك إلى قول جمهور الطائفة.

ويقول الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي الإمامي الشهير عندهم بالعلامة في كتابه "منتهى المطلب في تحقيق المذهب"  2/993 متحدثا عن الشرط الرابع من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
((الرابع: أن لا يكون في الإنكار مفسدة على الآمر ولا على أحد من المؤمنين بطلبه، فلو ظن توجه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط الوجوب لقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" ولما رواه الشيخ عن مفضل بن يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي يا مفضل من تعرض لسلطان جائر فأصابه بليه لم يؤجر عليها ولم يرزق الصبر عليها ..))

ثم قال متحدثا عن توقع حدوث الضرر للمأمور:

((مسألة: ولو افتقر إلى الجراح والقتل قال السيد المرتضى رحمه الله يجوز ذلك بغير إذن الإمام، وقال الشيخ رحمه الله: ظاهر من مذهب شيوخنا الإمامية أن هذا الجنس من الإنكار لا يكون إلا للأئمة أو لمن يأذن له الإمام فيه ..)) اهـ.

وكلام ابن المطهر هنا مشتمل على نقل الجواز عن المرتضى، ومشتمل على نقل المنع عن شيخ المذهب الإمامي الطوسي مقررا أن ظاهر مذهب الإمامية المنع من هذا النوع وأنه لا يكون إلا للأئمة أو بإذنهم، ومعنى هذا أن هذا النوع لا يجوز في زمن الغيبة عندهم، وكلام الطوسي هذا المعزو إلى ظاهر المذهب هو الذي عبر عنه نجم الدين الحلي سابقا بالأظهر.

فإن قال قائل فهذا مسقط للوجوب وليس مسقطا للاستحباب أو الجواز، فقد أجاب عن هذا الطوسي بقوله في كتابه "الاقتصاد" ص 148:

((فأما إذا خاف على نفسه أو ماله أو كان فيه مفسدة له أو لغيره فهو قبيح، لأن المفسدة قبيحة.
وفي الناس من قال: مع الخوف على النفس إنما يسقط الوجوب ولا يخرج عن الحسن إذا كان فيه إعزازا للدين. وهذا غير صحيح، لما قلناه من أنه مفسدة.
والخوف على المال يسقط أيضا الوجوب والحسن، لما قلناه من كونه مفسدة، وفي الناس من قال هو مندوب إليه، وقد بينا فساده.
وجملته أنه متى غلب على ظنه أن إنكاره يؤدي إلى وقوع قبيح لولاه لم يقع فإنه يقبح لأنه مفسدة، سواء كان ما يقع عنده من القبيح صغيرا أو كبيرا، من قتل نفس أو قطع عضو أو أخذ مال كثير أو يسير، فإن الكل مفسدة.)) اهـ.

نلاحظ في كلام الطوسي هذا مناقشة لرأي الشريف المرتضى المجوز لهذا النوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتخطئة له ببيان ما في هذا النوع من المفسدة.

ولهذا قال زين الدين الجبعي المشهور عندهم بالشهيد الثاني في شرحه على اللمعة الدمشقية 2/415 ما نصه:
((والأمن من الضرر) على المباشر، أو على بعض المؤمنين نفسا، أو مالا، أو عرضا فبدونه يحرم أيضا على الأقوى)) اهـ.

هنا يحكم زين الدين على هذا النوع بالتحريم على الأقوى، وقد عبر عنه بعض الإمامية بالأشهر، كما عبروا عنه بالظاهر والأظهر، وهو الذي دل عليه معظم السلوك التاريخي لهذه الطائفة.

لكن في الأعصار المتأخرة اشتدت حركة الاجتهاد لدى الشيعة وصار كثير منهم يخرج عن مشهور المذهب أو راجحه، كما حصل عند أهل السنة والجماعة تماما، واستعمل هؤلاء المجتهدون علم مصطلح الحديث المعروف لدى أهل السنة فطبقوه على أحاديثهم جرحا وتعديلا فضعفوا كثيرا من الرويات فتخلصوا منها، كما استعملوا قواعد أصول الفقه المعروف لدى أهل السنة فناقشوا كثيرا من الأخبار حتى خرجوا بها عن مشهور المذهب، ومن خلال هذه الحركة ظهر رأي اجتهادي جديد قلب مشهور المذهب الإمامي وظاهره فصاروا يفتون لعامة الشيعة بجواز ذلك النوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المؤدي إلى الضرر في النفس والأموال والمتعدي إلى الآخرين، وجوزوا لهم الخروج على السلاطين مع ما في هذا من الخطر العظيم والتغرير بالأنفس والأموال، فإن أردت أيها السائل ما هو مذهب الإمامية في هذه المسألة فقد عرفت أن الأقوى والأظهر عندهم تحريم هذا النوع وبهذا يتفق مذهب الإمامية مع مذهب جمهور أهل السنة والجماعة.

وعليه فإن الخروج على السلاطين لا شك أنه يؤدي غالبا إلى تلف الأنفس والأموال والبلاد وعموم الخراب، وكذا أعمال الشغب من تكسير أو إشعال حرائق أو سد الطرقات كل هذه مفاسد محضة لا يظهر أنها تساهم بشكل ما في إحقاق حق أو إنكار منكر، وكذلك المسيرات التي لا ترخيص لها لا تخلو غالبا من مواجهات مع رجال الأمن وتنتهي بإتلاف الممتلكات أو الجراحات والاختناقات وربما القتل، وأكثر الناس تنظر إليها على أنها أعمال تخريب، فلو فرضنا مجرد فرض أن هذه الأعمال أمر بالمعروف ونهي عن المنكر لما كانت جائزة أيضا على الأقوى والأظهر عندهم لأنها يتوقع منها وبسببها وقوع الأضرار المتنوعة التي بنى الفقهاء عليها المنع.
ويبقى الكلام على وسائل الاعتراض السلمية المرخصة التي لا يتوقع حدوث ضرر بسببها كالمسيرات أو التجمعات المرخصة فهذه لا يظهر أنها مشمولة بالمنع إذا خلت من أي استفزاز للسلطان، هذا وفقا للمذهب الإمامي فيما بدا لي والله تعالى أعلم.

السبت، 21 يناير 2012

تعليقات وردود على مقال رد السنة والشيعة

الهوامش البديعة
على "رد السنة والشيعة"

كتب إلي أحد إخواننا المشايخ بالملاحظات التالية أذكرها مختصرة ثم أجيب عليها:



"والعرف مقدم على اجتهاد المجتهد"

كلام مجمل لا يتضح معناه، ولا يتبين تعلقه بمسألتنا، فإن أردتم أن العرف يحدد البغاة من المحاربين فغلط قطعا، لأن البغي له حدوده وتعريفه الذي لا يغيره عرف ولا غيره، وإن أردتم معنى آخر غير هذا فلا بد من بيانه.

"لم تفرق بين التأويل السائغ والتأويل المعاند والذي قال عنه الخليل صاحب المختصر : "وضمن المعاندين النفس والمال".

نص كلام الإمام أبي المودة خليل بن إسحق المالكي في مختصره هكذا: (وضمن المعاندُ النفس والمال) وقد قال خليل قبل هذا: (ولم يضمن متأول أتلف نفسا أو مالا) والمعاند من لا تأويل له أصلا لا سائغ ولا غير سائغ، قال في "منح الجليل" شارحا للمعاند: (( المعاند ) أي المجترئ على البغي بلا تأويل) اهـ. فزال الاعتراض، لأنه خارج عن البحث فمسألتنا فيها تأويل بلا شك.
والتأويل الباطل الذي لا يسوغ مثلوه بتأويل المرتدين، فلا مدخل له في مسألتنا، لأن التأويل في مسألتنا ظاهر وسائغ، وهو دعوى المظالم المتنوعة المجمع على وجودها، ولا شك أن خروج أهل الجمل وصفين كان ثأرا لأمير المؤمنين عثمان الشهيد رضي الله عنه المقتول ظلما، فكيف بمجموعة من المظالم المتنوعة المتفق على وجودها، والتي منها تعطيل بعض أحكام الشريعة؟ وقد ذكر في "الإقناع" من كتب السادة الشافعية مثالا لتأويل سائغ ولكنه فاسد فسادا غير مقطوع به قال:
(كتأويل الخارجين من أهل الجمل وصفين على علي رضي الله تعالى عنه بأنه يعرف قتلة عثمان رضي الله تعالى عنه ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم) اهـ. وهذا شبيه بتأويل كثير من معارضة البحرين الزاعمين أن المتنفذين يتسترون على مرتكبي المخالفات والجرائم، فهذا إن كان فاسدا ففساده غير مقطوع به، وهذا معنى التأويل السائغ.
ولو فرضنا أن تأويلهم غير سائغ فقد قال الإمام السرخسي الحنفي في المبسوط : (فأما بعدما صارت لهم منعة فقد انقطع ولاية الإلزام بالدليل حسا فيعتبر تأويلهم ـ وإن كان باطلا ـ في إسقاط الضمان عنهم كتأويل أهل الحرب بعدما أسلموا ) اهـ. فتمعن في هذا.
وفاتكم ـ وأنتم تنقلون كلام خليل المالكي ـ في مسألة المعاند فاتكم أن العناد مؤثر في حال الخروج على إمام عادل، وأما غيره كحال أكثر سلاطين الزمان فقد قالوا بأن : (الخارج على غير العدل كالمتأول) اهـ. وسترى مثل هذا عند عبد القادر عودة الذي استشهدت به 2/700، 703.

"أنك لم تفرق بين القراءة السياسية والقراءة الشرعية والحكم على الشيء فرع عن تصوره"

هذه التفرقة بين قراءة سياسية وقراءة شرعية ما الدليل على مشروعيتها أصلا؟ ومن قال بأن كلام الفقهاء بمعزل عن تقييم الوضع وفهم الواقع؟ بل أهل السياسة هم غالبا من يقيمون الوضع بعيدا عن أحكام الشريعة الإسلامية، ثم إن أهل السياسة أيضا يختلفون في قراءاتهم وتقييمهم، وولاة الأمر في البحرين أليسوا من أهل السياسة؟ فما بال سياستهم تخالف سياستكم؟
وما نقلتموه عن عبد القادر عودة ـ وهو رجل فقه وقانون متأخر رحمه الله أعدمه جمال عبد الناصر ـ  فهو خارج عن مسألتنا أصلا، والأساس أن تستشهدوا بما قاله في كتاب البغي من كتابه "التشريع الجنائي" كما أن القراءة الواقعية تقول بأن المعارضة في البحرين لا يمكنهم تغيير أحكام الشريعة، ذلك أن أحكام الشريعة غير معمول بها تماما باعتراف المجتمع الذي ينادي بتطبيقها ليل نهار، فالقوانين التي لدينا هي قوانين وضعية في الأغلب، ومخالفة لكثير من أحكام الشريعة الإسلامية، فما ذكره عبد القادر غير متصور هنا، كما أن الدولة الأجنبية في عرف الفقهاء مصطلح لا وجود له وإنما يعبرون بأهل الحرب، وهي بلاد الكفار، فإذا رجعت إلى عبد القادر عودة فستراه أفرد فصلا في استعانة البغاة بأهل الحرب، وأحكام ذلك فانقل من هناك إن شئت ما يعكر على ما ذكرناه إن وجدته.

"أنك لم تحدد ان تلك الجرائم من القتل والجراح والاتلاف هل حصل في ساحة القتال أم خارجه، وهل هناك ساحة قتال اصلا" إلخ ما ذكره من الحوادث المعينة.

لم أتحدث عن قتيل أو جريح أو إتلاف بعينه، وإنما تحدثت عن المواجهات التي جرت أثناء الأحداث على العموم، وأما التحقيق في كل واقعة وحادثة لنتبين علاقتها بالأحداث من عدمها ودوافعها فهذا ليس من شأني لأني لست قاضيا، ولو كنت قاضيا فلا بد أن أبحث عن هذه التفاصيل، لأفرز ما كان منها متعلقا بالأحداث مما لا علاقة له بها. فهذه المسائل المعينة ليست من اختصاص البحث.

"ياشيخ انت تنفي عنهم سرقة الاموال وقد أرادوا سرقة البلاد باكمله"

هذا كلام خطابي عاطفي جدا، خال من اصطلاح الفقهاء، ونحن إذا تحدثنا بعواطف وغيرة "سعد" خالفنا الشرع فالله ورسوله أغير منا جميعا، دعنا معا نقدم للناس بحثا علميا يستفيدون منه، فما هو المقصود بـ"سرقة البلاد" ؟؟ هل تعني الاستيلاء على الحكم؟ إذن فهي من مقاصد أهل البغي فلا جديد، أم تعني شيئا آخر ! فلا بد من بيانه ما هو.

"وقتل رجال الامن خيانة وخارج ساحة المواجهة ماهي عقوبتها"

لو أنك أعدت قراءة كلامي لوجدتني ذكرت قول الجمهور فيه:
(بشرط وقوع هذه الخسائر أثناء الاشتباكات، وأما قبلها أو بعدها فمضمونة)اهـ.
ومع هذا وبما أنك سألت فالصحيح عند الحنابلة أنه لا يلزم الضمان كما في الشرح الكبير قال:
((وهل يتحتم قتل الباغي إذا قتل أحدا من أهل العدل في غير المعركة؟ فيه وجهان [أحدهما] يتحتم لانه قتل بإشهار السلاح والسعي في الأرض بالفساد فأشبه قطاع الطريق [والثاني] لا يتحتم وهو الصحيح لقول علي رضي الله عنه إن شئت أعفو وإن شئت استقدت)) اهـ.
قاله رضي الله عنه في شأن قاتله عبد الرحمن بن ملجم، فقوله (إن شئت) دليل على أن القصاص ليس حتما، ويؤيده أن عليا لم يقتص من ابن جرموز قاتل الزبير رضي الله عنه خارج ساحة المعركة، فعلى هذا القول فالعبرة بأن تكون المواجهة متعلقة بالأحداث.

"هناك عدة تساؤلات لم تجب عليها وعدة مفاهيم لم تحددها ومعايير أطلقتها من القلة والكثرة وسفلة الناس ومحترميهم"

وهل أنا بصدد تأليف كتاب؟ إنما هو مقال لتوضيح بعض الأمور على سبيل الإجمال، وما ذكرناه كان كافيا لتفهيم الناس المتعصبين للقصاص أن أحكام الشريعة الإسلامية ليست على ما يشتهون ويرغبون،  ومن أراد الزيادة والاستفصال في شيء بعينه فليسأل نجبه، ثم ما قيمة السؤال عن القلة والكثرة هنا إذا كان البغاة قد بلغوا ألوفا؟ فإن القلة مثل العشرة عند الفقهاء لا حاجة إلى طرحها في بحثنا لأننا أمام ألوف من البغاة فاحتمال القلة المؤثر في الحكم غير مطروح بمرة فلا حاجة إلى الكلام على العدد أصلا، وكذلك لا حاجة إلى الكلام على الفروق الشكلية بين أهل الحرابة وأهل البغي فإنما ذكرناها استطرادا ولا أهمية لها في أصل المسألة.

"(والجريمة جريمة)"

إن أردت بهذه العبارة التسوية بين الجرائم في الأحكام الشرعية ـ لا الوضعية ـ فغير صحيح، فبعض الجرائم تختلف أحكامها عن بعض، فأنت تعلم تأثير البنوة والدين والحرية والعمدية وغيرها في تغيير الأحكام فكذلك البغي مؤثر وكذلك الردة..

"علماً بأن الحنفية يرون فيمن كانت له شوكة ومنعة من البغاة: وجوب محاربتهم وقتل أسيرهم وتذفيف جريحهم الي غير ذلك . ينظر فتح القدير ٦/٩٩"

هذا غلط على صاحب الفتح، لأنه كسائر الحنفية قيدوا ذلك بالمسلحين الذين ينوون الالتحاق بجيش مسلح في مكان آخر، وقد تعرضت لهذا في بحثي لو راجعته وبينت أنه مخصوص أولا بمن يحمل السلاح ويقاتل به، ومخصوص ثانيا بمن له طائفة مسلحة يأوي إليها ليعيد القتال، وهو في نهاية الأمر متروك لاجتهاد الحاكم يقدر الأمر لا بالتشهي وهوى النفس كما نصوا عليه، وهذا كله غير مطروح في واقعنا لأنها مواجهات غير مسلحة غالبا ولا هناك فئة مسلحة، فالواقع يقول ما قاله صاحب العناية شرح الهداية وغيره:
((وإذا بلغه أنهم يشترون السلاح ويتأهبون للقتال ينبغي أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك ويحدثوا توبة دفعا للشر بقدر الإمكان )) اهـ.
ومثله ما قاله الزيلعي الحنفي ـ وقد سبق في البحث ـ قال:
((ولو أمكن دفع شرهم بالحبس بعد ما تأهبوا فعل ذلك، ولا نقاتلهم لأنه أمكن دفع شرهم بأهون منه))اهـ.

فإن كان كذلك واندفع شره بالحبس وكسر جماعته وتفرقهم فأي مصلحة في قتله؟؟

"وأخيراً قال ابن تيمية:ومن اعتقد من المنتسبين إلى العلم أو غيره أن قتال هؤلاء بمنزلة قتال البغاة الخارجين على الإمام بتأويل سائغ فهو غالط جاهل بحقيقة شريعة الإسلام " مجموع الفتاوى ج٢٨ /ص ٤٨٦"

كلام ابن تيمية في هذه الفتوى شديد جدا، فهو يتكلم على الرافضة ويقيسهم على الخوارج لاشتراكهم في تكفير الصحابة، ولعله كان متأثرا بأحد القولين في مذهب السادة الحنابلة، ولكنه ينفي تكفير الخوارج والرافضة في منهاج السنة بكل وضوح قائلا:

((والنبي صلى الله عليه و سلم لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمته ولم يقل إنهم يخلدون في النار فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج، وأصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم على بن أبي طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء وخرجوا عن الطاعة والجماعة قال لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقكم من الفيء ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع نحو نصفهم ثم قاتل الباقي وغلبهم ومع هذا لم يسب لهم ذرية ولا غنم لهم مالا ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين كمسيلمة الكذاب وأمثاله، تلك كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة ولم ينكر أحد على علي ذلك فعلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام)) اهـ.

وهذا القول منه موافق لمذهب الجمهور، قال ابن الهمام في شرح فتح القدير:

((وحكمهم عند جمهور الفقهاء وجمهور أهل الحديث حكم البغاة، وعند مالك يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا دفعا لفسادهم لا لكفرهم، وذهب بعض أهل الحديث إلى أنهم مرتدون لهم حكم المرتدين .. قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم. وهذا يقتضي نقل إجماع الفقهاء، وذكر في المحيط أن بعض الفقهاء لا يكفر أحدا من أهل البدع وبعضهم يكفرون بعض أهل البدع وهو من خالف ببدعته دليلا قطعيا ونسبه إلى أكثر أهل السنة، والنقل الأول أثبت نعم يقع في كلام أهل المذاهب تكفير كثير ولكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون بل من غيرهم، ولا عبرة بغير الفقهاء، والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا، وابن المنذر أعرف بنقل مذاهب المجتهدين)) اهـ.
ويقول ابن قيم المدرسة الجوزية:
((الفاسق باعتقاده إذا كان متحفظا في دينه فإن شهادته مقبولة، وإن حكمنا بفسقه كأهل البدع والأهواء الذين لا نكفرهم كالرافضة والخوارج والمعتزلة ونحوهم هذا منصوص الأئمة)) اهـ.
وإذا لم يكونوا كفارا فحكمهم في القتال حكم البغاة بلا شك.

لكن إذا سلمنا تنزلا أن هؤلاء الخوارج والرافضة مرتدون فليس حكمهم القصاص الذي يطالب به من يطالب الآن، بل حكمهم قبل القصاص الاستتابة، لا بد أن تطلب منهم التوبة، فإن تابوا فالشريعة الإسلامية تسقط عنهم الضمان أيضا، فيقال للواحد منهم: تب عن كذا وكذا ـ من موجبات الكفر ـ فإن تاب فلا ضمان عليه، وإليك قول ابن تيمية نفسه في هذا:

(( أما إذا كان المأمور المنهي مستحلا لأذى الآمر كالرافضي وغيره الذي يسب الصحابة ويكفرهم فإذا تاب من هذا الاعتقاد وصار يحبهم لم يبق لهم قبله حق، بل دخل حقهم في حق الله تعالى، ولهذا كان أصح قولي العلماء أن أهل البغي لا يضمنون ما أتلفوه على أهل العدل وكذلك المرتد )) من مختصر فتاواه.

فعلى هذا لا ضمان أيضا في حالة ما إذا قيل له تب من هذا فتاب.

لكن في هذه الحالة ما وجه تخصيص المسجونين والمطالبة بإعدامهم دون غيرهم مع أن هذا الحكم لا يختص بهم والمفروض أنهم كلهم في القضية سواء لاشتراكهم في عين المعتقد؟ وما وجه تخصيص هذا الوقت دون ما مضى من الأوقات؟ هذا كله على قول القائلين بالردة، وهذا كله على فرض أن جمهور المعارضة معتقدون لتلك العقائد الموجبة للتكفير أي عند القائلين بالتكفير.

فالخلاصة أن المعارضة إن كانوا مسلمين في نظركم ـ كما هو قول الجمهور ـ فقد عرفت حكم المسلمين إذا بغوا، وإن كانوا كفارا مرتدين ـ على قول بعض أهل الحديث وعلى فرض اعتقادهم للمكفرات ـ فالواجب المطالبة باستتابتهم أولا جميعا ـ لا بعضهم ـ فمن تاب فلا ضمان عليه أيضا.

هذا والله أعلم، وأشكر لكم اهتمامكم والتفاتكم إلى ما كتبه هذا الفقير إلى الله تعالى، والله الموفق للصواب.

السبت، 14 يناير 2012

رد السنة والشيعة إلى سماحة أحكام الشريعة

رد السنة والشيعة
إلى سماحة أحكام الشريعة

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله على آلائه، وأشكره على نعمائه، وأصلي وأسلم على خير خلقه وخاتم أنبيائه سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..

وبعد ..

فقد اطلعت منذ أيام قليلة على كلام لبعض الشيوخ زعموا فيه أن المشاغبين (البغاة) ممن يسمون بالمعارضة تنطبق عليهم آية الحرابة وهي قوله تعالى : ((إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) صدق الله العظيم.

وهذا كلام فيه تمهيد لقتل هؤلاء المشاغبين (البغاة) وقد سمعنا هذا الكلام من قبل يردده بعض العوام وضعفاء الرأي الذين لا يُعرفون بطلب العلم، فأما أن يصدر ممن عرف بطلب العلم، مع النشر في الصحف والمجلات، فهذه معضلة تؤدي إلى خلط المفاهيم، والعجيب أن يصدر ذلك من عالم شيعي في حق أهل مذهبه ! ثم إن الأمر ازداد سوءا باقتناع كثير من العوام بكلامهم حتى تطاول كثير منهم على الحاكم لأنهم يحسبونه أبطل القصاص الذي ظنوه حكم الشريعة، ووجدوا منه اللين والعفو، فصارت الفتنة من جهتين جهة أهل البغي وجهة أهل الطاعة، ومنذ حصلت الفتنة في البحرين إلى الآن لم يظهر كلام منشور موافق لأحكام الشريعة فيما أعلم، فوجب البيان لئلا تلتبس أحكام الشريعة الإسلامية على الناس، وتختلط عليهم الأمور، فمن شأن التباس هذه المسألة على الناس الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية واستباحة الدماء والأموال والأعراض والتطاول على السلطان بلا حق ولا بينة من كتاب ولا سنة، واستمرار العداوة والقطيعة بين المسلمين، وهذا لا يحل ولا يجوز بحال، والله الموفق للخير والصواب.

آية الحرابة لا مدخل لها في مسألتنا:

اعلم أن أئمة التفسير ذكروا لنزول هذه الآية أربعة أسباب، كلها في قوم من أهل الكتاب أو المرتدين عن الإسلام، وكلها تذكر أنهم قطعوا الطريق لسرقة المال وأخذ الغنائم، وأجمع أهل الفقه أن هذه الآية تدل على حد (الحرابة) لا حد (البغي)، وأجمعوا على أن المحاربين قوم يريدون المال والمتاع، فيترصدون الناس في الطرقات ويكونون غالبا خارج المدن حيث لا نصير ولا مغيث، فيغيرون على الناس ويسلبون أموالهم، وربما قتلوا من قاومهم من الناس، وربما قتلوهم دون مقاومة منهم استهتارا بالدماء، فهؤلاء لصوص وقطاع طرق غايتهم المال، وليس لديهم مطالب، ولا قضية لهم مع السلطان.

والذين خرجوا في البحرين عن طاعة السلطان لم يكونوا يطلبون الأموال وإزهاق الأرواح من أجل المال، بل كانوا يمرون بالبيوت والسيارات والمتاجر فيجاوزونها آمنة، ففارقوا بهذا أهل الحرابة، وكانوا حشدا كثيرا وآلافا من الناس، ففارقوا بهذا أهل الحرابة الذين لا يبلغون في العادة عشر معشار هذا العدد، كما أن سدهم لبعض الطرق لم يكن بقصد سلب المال وإزهاق الأرواح، وإنما قصدوا معاندة السلطان وإضعاف الحكومة والمحاربة الاقتصادية والإعلامية، وليس هذا مراد أهل الحرابة ففارقوهم من هذا الوجه أيضا.
وإذا تأملت أمرهم وجدتهم أصنافا شتى فمنهم المعلمون والأطباء وأرباب الزراعة والصيد والصناعات والحرف، وذو الدين والفاسق والمرأة المحتشمة والمتبرجة والعجوز والشاب والأطفال .. لا يجمعهم إلا دعواهم المظالم ومعاندة السلطان، ففارقوا أهل الحرابة الذين هم في العادة من سفلة الناس، فعلى هذا لا يتصور من فقيه أو مفت أن يزعم أن هؤلاء محاربون يصدق عليهم حد الحرابة ممن حارب الله ورسوله من الكفار والمرتدين من اللصوص وقطاع الطرق للمال والغنيمة والذين حكم الله فيهم بالقتل والصلب والتقطيع ..  

المتجمهرون (بغاة) وليسوا (محاربين) :

أطبقت كلمة الفقهاء أن البغاة هم طائفة من المسلمين خرجت على الحاكم بتأويل، واشترط بعضهم القوة والمغالبة بالكثرة أو السلاح، واشترط بعضهم أن تكون لهم قيادة مطاعة.
هذا خلاصة كلام الفقهاء، وهو تعريف منطبق على من يسمون بالمعارضة في البحرين، فهم (طائفة من المسلمين)، وقد اجتمعوا فيما عرف بدوار اللؤلؤة يتحدثون عن مطالب معطلة ومظالم وحقوق مهدرة، وهذا التعليل منهم لعصيانهم هو ما يسميه الفقهاء (التأويل) فيقال: (لهم تأويل) وبعد مقتل نفر منهم نادوا بخلع الحاكم، وهذا مطلب سياسي يفسره الفقهاء بالخروج على الحاكم، وقد بلغ عددهم آلافا فصاروا أصحاب (شوكة ومنعة) ولهم قادة يرجعون إليهم ويأتمرون بأمرهم فهكذا اجتمعت الشروط التي قررها جمهور الفقهاء في البغاة، فإذا تقرر ذلك فلنعرج على أهم الأحكام المتعلقة بالبغاة:

أهم الأحكام الشرعية المتعلقة بالبغاة


من أين أخذ الفقهاء هذه الأحكام؟

اعلم أن جملة هذه الأحكام مأخوذة من أدلة الكتاب والسنة وعمل الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم في موقعة الجمل وصفين وحروراء، ومعظم فقه هذه المسألة مأخوذ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

هل يجب على الحاكم دعوتهم إلى الحوار؟

يجب على الحاكم ـ خصوصا في هذا الزمان الذي فشت فيه المظالم ـ أن يدعوهم ليكشف شبهتهم، لأنهم ربما كانوا أصحاب حق وكان هو الظالم دونهم، فإن ذكروا مظالم أزالها وجوبا، فإن أصروا بعد أن أجابهم وطالبوه بما لا يشرع لهم حل له دفعهم، والقول بعدم وجوب دعوتهم خاص بأئمة العدل.

هل يقاتلون إن أمكن دفعهم دون قتال؟

اتفق الفقهاء أن المقصود الأول هو صدهم عن بغيهم وتفريقهم وليس قتلهم، فإذا لم يحملوا السلاح أصلا فلا يشرع قتلهم لأنهم حينئذ يندفعون بأهون من القتل.
قال الإمام فخر الدين الزيلعي الحنفي : ((ولو أمكن دفع شرهم بالحبس بعد ما تأهبوا فعل ذلك، ولا نقاتلهم لأنه أمكن دفع شرهم بأهون منه)) اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي : ((طريقها طريق دفع الصائل، والمقصود ردهم إلى الطاعة، ودفع شرهم، لا النفي والقتل، فإذا أمكن الأسر لا يقتل، وإذا أمكن الإثخان لا يذفف .. )) اهـ.

هل يبدؤهم إن حملوا السلاح؟

وإن حملوا السلاح جاز له قتالهم، لكن لا يبدؤهم هو، إلا أن يخاف من مفاجأتهم والعجز عن صدهم.

إذا وقع القتال فكيف يكون؟

إذا وقع القتال فقد ذكر الأئمة أحد عشر فرقا بين قتال الكفار وقتال البغاة من المسلمين وهي:
·       أن يقصد بقتالهم ردعهم لا قتلهم.
·       أن يكف عن مدبرهم.
·       أن لا يجهز على جريحهم.
·       أن لا يقتل أسراهم.
·       أن لا تغنم أموالهم.
·       أن لا تسبى ذراريهم.
·       أن لا يستعان على قتالهم بمشرك.
·       أن لا يتركوا بمال بل مجانا.
·       أن لا تستعمل الأسلحة الثقيلة .
·       أن لا تحرق عليهم المساكن.
·       أن لا يقطع شجرهم.
وما ورد في بعض كتب الفقه الحنفي من الإجهاز واتباع المدبر فالمقصود بذلك المسلح الذي يخشى من خطره وله جماعة مسلحة يتقوى بهم إذا ترك، بحيث يظن أن في تركه تسببا في مزيد من القتل، وأما من لا يخاف منهم ممن لا يحمل السلاح وليس له فئة فقد وقع الاتفاق على عدم قتلهم.

ما حكم القتلى والأموال المتلفة من الجانبين؟

اتفق الجمهور على أنه إذا انكشفت المواجهات عن قتلى وجرحى وإتلاف أموال بسبب الاشتباكات فالحكم أنه لا قصاص ولا ضمان في الدماء والجراحات والأموال، فالدماء مهدرة، والجراحات والأموال غير مضمونة من الجانبين، بشرط وقوع هذه الخسائر أثناء الاشتباكات، وأما قبلها أو بعدها فمضمونة.
قال الإمام أبو محمد ابن شاس المالكي : ((وما أتلفوه في الفتنة فلا ضمان فيه من نفس ولا مال، هذا إن كانوا خرجوا على تأويل)) وقال : ((إن كان خروجهم بتأويل فلا قصاص عليهم)) اهـ.
وقال الإمام عبد الله بن محمود الموصلي الحنفي : ((وما أصاب كل واحد من الفريقين من الآخر من دم أو جراحة أو استهلاك مال فهو موضوع لا دية فيه ولا ضمان ولا قصاص ، وما كان قائما في يد كل واحد من الفريقين للآخر فهو لصاحبه..)) اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي: ((وأما في حال القتال، فما يتلفه العادل على الباغي لا يضمنه، وما يتلفه الباغي على العادل من نفس أو مال هل يضمنه ؟ قولان، أظهرهما: لا)) اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي : ((وليس على أهل البغي أيضا ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس ولا مال .. لأن تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلا يشرع)) اهـ.

ما حكم المقبوض عليهم منهم؟

قال ابن شاس : ((وإذا أصيب منهم أسير فلا يقتل، بل يؤدب ويحبس حتى يتوب))اهـ.
وقال ابن قدامة : ((وأما أسيرهم فإن دخل في الطاعة خلي سبيله، وإن أبى ذلك وكان رجلا جلدا من أهل القتال حبس ما دامت الحرب قائمة، فإذا انقضت الحرب خلي سبيله، وشرط عليه أن لا يعود إلى القتال، وإن لم يكن الأسير من أهل القتال كالنساء والصبيان والشيوخ الفانين خلي سبيلهم ولم يحبسوا في أحد الوجهين ..)) اهـ.
وقال النووي : ((ولا يطلق الأسير قبل انقضاء الحرب إلا أن يبايع الإمام، ويرجع إلى الطاعة باختياره، ولو انقضت الحرب وجموعهم باقية لم يطلق إلا أن يبايع، وإن بذلوا الطاعة أو تفرقت جموعهم أطلق .. فأما إذا أسر نساؤهم وأطفالهم، فيحبسون إلى انقضاء القتال ثم يطلقون)) اهـ.
وكان أمير المؤمنين علي يستحلفهم ألا يعينوا عليه فإن حلفوا أطلقهم.

فهذه جملة الأحكام التي يحتاج إليها الناظر في أحداث البحرين.

وبناء على هذه الأحكام الماضية نقول:

إن أحداث البحرين إذا ما قورنت بحركات البغي التاريخية نجدها أهون بكثير وأقل خطرا وأسهل أثرا، بل قد تكون مثالية مع بعض المقارنات، فالمعارضة لم تحمل السلاح، وإن وجد شيء من ذلك فهو قليل نادر والنادر لا حكم له، كما أن الشرطة لم تستعمل السلاح الفاتك في ردهم وتفريقهم إلا قليلا نادرا وهذا لا حكم له كذلك، فلا شك أن استعمال الماء والدخان ونحو ذلك من الوسائل الحديثة لتفريق الحشود يعد متعينا دون السلاح لما شرحناه لك، ومع هذا لم تخل الأحداث من مخالفات شرعية نتطرق فيما يلي إلى أبرزها ليحذر المسلم مما يخالف الشريعة:

أولها : اعتقاد كثير من الناس ودعواهم أن المعارضة ينطبق عليهم حد الحرابة الموجب لقتلهم وصلبهم !! وهذا تصور له خطورته البالغة كما لا يخفى، وقد بينا فساد ذلك، وأن أحداث البحرين مندرجة تحت أحكام البغاة لا الحرابة.

ثانيها : مطالبة كثير من الناس من الجانبين بالقصاص والضمان، وهذا مخالف لقانون الشريعة وقد بينا أن الدماء والأموال والجراحات الحاصلة أثناء المواجهات مهدرة، ولو رأى طرف من الأطراف دفع شيء أو تعويض أحد احتياطا لدينه أو ترضية فهو حسن لا واجب شرعا.

ثالثها : قتل المسجونين تعذيبا غير مناسب لقانون الشريعة الإسلامية والمتعدي في هذه الحالة مستحق للعقوبة التعزيرية من الحاكم لقيام الشبهة، كما أن الواجب في هذه الأحداث الاقتصار على التأديب النافع في تيسير الصلح وليس تعقيدة.

رابعها : هدم المساجد المرخصة ليس له معنى معقول، فإما أن يكون لفاعله عذر مقبول شرعا أو شبهة وإلا فهو مرتد يجب أن يتوب مما جناه، لأنه لا يتصور عادة حصول مثل هذا الفعل الشنيع من مسلم.

خامسها : تكسير السيارات المدنية أو الحكومية أو الأملاك الخاصة والعامة وتخريبها وإتلافها وسلب ما فيها ونهبه مخالف لأحكام الشريعة لأن أموال المسلمين معصومة ولا غنائم في حروب البغي أصلا، وعلى من أخذ شيئا أن يعيده إلى صاحبه من الطرفين، لأن عدم الضمان مخصوص بالتلفيات الحاصلة أثناء المواجهة وليس قبل ذلك أو بعده.

سادسها : ظلم الناس بالغيبة والنميمة والبهتان وشهادة الزور والقذف وقطع الأرزاق وسائر أنواع الإضرار كل ذلك لا يجوز، حتى ولو كان هذا الشخص باغيا ما دام أنه صار مأمون الجانب وعاد إلى الطاعة والجماعة ولو مكرها، هذا كله لو فرضناه ظالما في مطالبه، وإلا فلو كان مظلوما فلا بد من إرجاع المظالم وإعطاء كل ذي حق حقه.  

هذه جملة من الأحكام الإسلامية أردت بيانها ليعلم المسلم الحريص على دينه الموقف الذي يجب عليه، ولئلا يتعدى أحكام الشريعة إلى أقوال باطلة وآراء عاطلة أو قوانين فاسدة، وليعلم أن سماحة الإسلام فيها غنى عن القوانين الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، ولو أن المسلمين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر بالأساليب الصحيحة، لما جرى ما جرى، ولو مشوا على أحكام الشريعة لكانوا في غنى عن اللجوء إلى لجان خارجية وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان، والواجب الآن السعي الحثيث في الصلح والإصلاح والتآخي ورأب الصدع، والعودة إلى أحكام الشريعة الإسلامية في كل مجالات الحياة. 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الثلاثاء، 10 يناير 2012

الإجابة على أخبار الخليج

الإجابة على أسئلة أخبار الخليج
الشيخ عبد الرؤوف مبارك جمعة .. تحية طيبة وبعد.

س1/ هناك اتهام بأن شيوخ الدين لم يكن لهم دور مؤثر فى توعية الناس أثناء الأحداث الأخيرة التي مرت بمملكة البحرين، فما ردكم على هذا الاتهام؟

المشايخ بأطيافهم تصدروا الأحداث كلها من بدايتها وإلى هذه الساعة، لا ينكر ذلك متابع للأحداث، فكلٌّ مارس التوعية المؤثرة في أتباعه، وتأثيرها واضح غير منكور، كانوا جميعا يمارسون الخطابة في أتباعهم ويرون أنهم يقومون بدورهم في توعيتهم، يشاركهم في ذلك أولو الأمر والحل والعقد عبر القنوات الرسمية، ويتبعهم على ذلك أرباب الفكر والقلم وغيرهم، فالتوعية قد تمت على أتم وجه في تصور كل طرف، وصارت الناس واعية لبعضها تماما، ولكن ما يجب بحثه هو: هل التوعية الصحيحة هي توعية الطرف الأول أم الثاني أم الثالث؟؟

بالنسبة لي فإني أرى التوعية المثلى هي التوعية الموافقة لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تمام الموافقة، والذي لاحظته أن كل طرف من الأطراف أخذ بشيء من هذه التوعية الصحيحة وترك أشياء منها، فما يؤسف له أن التوعية المثلى لم تتمحض ولم تكتمل لدى أحد الأطراف، قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..) صدق الله العظيم.


س2/ ما هى خططكم التوعوية فى الفترة القادمة مع تصاعد أعمال العنف؟

لا علم لي بوجود خطة عامة للمشايخ، ولم يعلن عن شيء كهذا بعد حسب علمي، وما يتسرب عبر المنابر الإعلامية حتى الآن من كل الأطراف فاقد للتوازن في أغلبه مع الأسف الشديد، ونتمنى أن نسمع أو نقرأ خطابا متوازنا على مستوى رفيع، وخطة إصلاحية متوازنة تعالج كلا من أعمال العنف وأسبابها قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) صدق الله العظيم.

أما عني خاصة فقد خضت تجربة ميدانية استثنائية ومتوازنة تهدف إلى التوعية ونزع فتيل التوتر إبان الأحداث في مارس، كان ذلك في مجمع السلمانية الطبي، وكادت هذه التجربة لتكلل بالنجاح لولا تسارع الأحداث وفقدان المعونة والمساعدة، ولعلي أتحدث عن هذه التجربة الفريدة في حياتي في وقت لاحق إن شاء الله تعالى، وبالرغم من أننا ندفع الآن ثمن إخلاصنا وحسن نيتنا ونتجرع الظلم من إحدى الوزارات إلا أننا لن ندخر وسعا في بث المفاهيم الصحيحة والمتوازنة عبر منابر الإعلام الحرة بإذن الله تعالى القائل: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) صدق الله العظيم.

س3/ توجد آراء تؤكد ضرورة إصدار فتوى تحرم التخريب لأنه ضد الدين، فما رأيكم فى هذه الأقوال وهل بالفعل التخريب محرم دينيا؟

سيكون لهذه الفتاوى أثر كبير، ووقع حسن على مجتمعنا المسلم الملتزم شريطة أن تصدر من علماء معتدلين وأن تكون هذه الفتاوى منصفة، قائمة بالقسط، لا ميل فيها، قال سبحانه وتعالى : (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) صدق الله العظيم، والتخريب والإفساد محرم شرعا، لكن التخريب الذي تأباه الشريعة الإسلامية السمحة والذي نعاني منه في مجتمعنا له وجوه متعددة وصور كثيرة لا تقف عند حرق إطار أو سد شارع، بل التخريب يتجاوز ذلك إلى أنواع كثيرة أخطر من رمية حجر، فالتمييز تخريب، والواسطة تخريب، وبث الفتنة تخريب، وهدم المساجد المرخصة تخريب وجرم عظيم، والخروج على ولي الأمر خراب وفتنة، فصور التخريب كثيرة، وإذا لم تراع الفتاوى هذه الموازنة على الأقل في أقرب صور التخريب فلن يكون لها أي أثر يذكر، والله تعالى أعلم.

قصيدة "دع ذكر مارية"

هذه القصيدة نظمتها في الثناء على الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر شيخ الإسلام  الشيخ أحمد الطيب حفظه الله، وذلك بعد ما شاع وذاع عنه من علم وفهم وزهد وورع، وبعد أن أمسك بزمام الأزهر الشريف، فقام بإصلاحات كبيرة أهمها قرار إرجاع تدريس المذاهب الأربعة في المعاهد الأزهرية، ونصرته الظاهرة لعقيدة جمهور الأمة الإسلامية الملقبة بالعقيدة الأشعرية نسبة إلى الإمام شيخ السنة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى.





شرفني بإلقاء هذه القصيدة في الجامع الأزهر ـ ودون علم مني ـ فضيلة الشيخ العلامة المسند أسامة السيد الأزهري حفظه الله تعالى.



شرح بعض المفردات:

الزرنب : نبات طيب الرائحة.
الزرغب : الكثير.
الهبهب : الجمل الخفيف.
الربرب : قطيع بقر الوحش.
العيهب : الضعيف.
المعثلب : غير المحكم.
ثهلان والأخشب : جبلان معروفان.
الغيهب : الظلمة.
عنقاء مغرب : مخلوق نادر.
الصل : ثعبان قاتل.

الاثنين، 9 يناير 2012

ملاحظات لأخبار الخليج

ملاحظات على كلمتي في أخبار الخليج

أرسلت إلي جريدة أخبار الخليج ـ مشكورة ـ ثلاثة أسئلة أجبت عليها ونشرت الجواب على حسابي وهذا هو جوابي:




واليوم نُشِرت الإجابة على هذه الأسئلة في قسم التحقيقات يتلوها آراء مشايخ آخرين، وهذا رابط تحقيقات الأخبار


ولي ملاحظات على ما تم نشره في الجريدة
مع الاحترام والتقدير والشكر


الأولى
أن الناشرين جزاهم الله خيرا قدموا لكلامي بالعبارة التالية:
((يتطرق الشيخ عبدالرؤوف مبارك جمعة إلى اتهام رجال الدين بعدم وجود دور مؤثر لهم في توعية الناس أثناء الأحداث الأخيرة التي مرت بمملكة البحرين، ))


وإنما ورد هذا الاتهام حقيقة في سؤالهم الموجه إلي وهذا هو سؤالهم


س1/ هناك اتهام بأن شيوخ الدين لم يكن لهم دور مؤثر فى توعية الناس أثناء الأحداث الأخيرة التي مرت بمملكة البحرين، فما ردكم على هذا الاتهام؟


فتحويل هذا السؤال الوارد منهم هم إلى كلام يقال على لساني ليس بجيد، والذي في كلامي خلاف هذا كما يتضح للقارئ.


الثانية


سقطت كلمة لم تتمحض من العبارة التالية
فما يؤسف له أن التوعية المثلى لم تتمحض ولم تكتمل لدى أحد الأطراف.


الثالثة


تم تعديل عبارتي
ونتجرع الظلم من إحدى الوزارات
إلى
ونتجرع الظلم من جهات بعينها


كما أن العنونة المختارة في كبد الصفحة جاءت كهذا


ما يتسرب عبر المنابر الإعلامية فاقد للتوازن


وتمام العبارة في كلامي بقيودها هكذا


وما يتسرب عبر المنابر الإعلامية حتى الآن من كل الأطراف فاقد للتوازن في أغلبه


الرابعة


جاء في عنوان التحقيق على لسان شيوخ من الطائفتين أن المعارضة مدانة شرعا


وأنا لم أبين رأيي في أحداث البحرين لأن الأسئلة كلها لم تكن عن تقييم الأحداث من الناحية الشرعية في البحرين


وسأتكلم عن هذا ردا على بعض تصريحات المشايخ في مقال قريب موضحا الرأي الشرعي فيما جرى من أحداث في البحرين.


عبدالرؤوف مبارك
8/1/2012