الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

مسألة في صلاة الكسوف والمذاهب والوقف



السؤال : .. قبل كسوف الشمس عصر الأحد 29 ذي الحجة 1434هـ قرأت توجيها وإرشادا أن نصلي الكسوف وأن نجهر بالقراءة فيها، وما أعلمه أن الشافعية لا يجهرون بالقراءة في صلاة الكسوف، فما هو الصحيح؟ علما بأني إمام مسجد .. من مساجد البحرين، شافعي المذهب، والمسجد الذي أصلي فيه إماما لم تزل الصلاة فيه على المذهب الشافعي أبا عن جد.

الجواب :

بسم الله الرحمن الرحيم

ههنا ثلاث مسائل لا بد من تبيينها:

المسألة الأولى :

ـ أن مذهب الشافعية ـ والذي هو مذهبك أيها السائل ـ هو ندب الإسرار في صلاة كسوف الشمس، وهو الصحيح عند الحنفية والمشهور عند المالكية ورواية عن أحمد.

ـ وذهب الحنابلة في المعتمد وبعض الحنفية وبعض المالكية إلى الجهر في صلاة الكسوف.

وعليه فلا تتضرر الصلاة بالجهر أو الإسرار والصلاة صحيحة.

المسألة الثانية :

لكن هذا الكسوف المذكور في السؤال قد وقع بعد صلاة العصر في الساعة الرابعة عندنا في البحرين، وعليه ينبغي معرفة ما يلي :

ـ المالكية يؤقتون صلاة الكسوف كصلاة العيد، فلا تنعقد بعد الزوال أي بعد دخول وقت الظهر، وعليه فلا تصح صلاة الكسوف هذه لأنها وقعت عصرا.

ـ الحنابلة يحرمون ويبطلون النوافل ـ ومنها الكسوف ـ في أوقات النهي والتي منها بعد العصر إلى الغروب، فمن صلى الكسوف الذي وقع عصرا لم تصح صلاته.

ـ الحنفية يكرهون تحريما النوافل ـ ومنها الكسوف ـ في أوقات النهي، ومن أوقات النهي عندهم بعد العصر إلى الغروب، فمن صلى الكسوف الذي وقع في الرابعة عصرا فقد أتى محرما.

ـ الشافعية يرون جواز النوافل ذوات الأسباب ـ ومنها الكسوف ـ في أوقات النهي.

وعليه فإن صلاة الكسوف لا تصلى في هذا الوقت الذي هو من أوقات الكراهة إلا على مذهب الشافعية ـ الذي هو مذهبك أيها السائل ـ فلا حرج عليك في فعلها، وقد عرفت أيضا أن مذهب الشافعية استحباب الإسرار بالقراءة.

المسألة الثالثة :

وأما التوجيه والإرشاد الذي طلب منكم الجهر في صلاة الكسوف فلا أراه متفقا مع المعتمد في مذهب من المذاهب الأربعة، لأن من يصليها من المذاهب بعد العصر وهم الشافعية يسرون بها ندبا، ومن يجهر بها وهم الحنابلة لا يصححون صلاتها بعد العصر ! فهذا الإرشاد والتوجيه غلط، ويزداد الأمر خطورة لو كان هذا الإرشاد والتوجيه متعمدا وصادرا من نظارة وإدارة الوقف، وحينئذ نكون أمام ظاهرة غير شرعية متعلقة بمسائل الأوقاف والأحباس التي صار أكلها واللعب بها مصيبة عمت بها البلوى من أزمان، وابتلي المسلمون بجهلها أو بالتساهل فيها أو التعدي عليها، مع أنها باب من أبواب الكبائر .. وفيما يلي توضيح لهذه المسألة.

فقد قرر أهل العلم باتفاق المذاهب الأربعة أن الأوقاف ـ مساجد أو مدارس أو غيرها ـ يجب فيها اتباع ما شرطه الواقف وعينه واختاره، مادام في حدود المشروع، وأنه لا بد من التزام ما جرى عليه العمل في الوقف في حياة الواقف، أو الزمن القديم، وعلى هذا عمل الأمة الإسلامية في القرون الخالية من عهد الصحابة إلى أن أهملت الشريعة في العصور المتأخرة، فلم تزل المساجد والمدارس والكتب .. وغيرها توقف ويشترط فيها شروط كأن تكون لأبناء هذا المذهب أو ذاك من المذاهب الأربعة أو أن تكون الغلة والمنفعة لفلان أو أن يقدم فلان على فلان أو أن يكون لفلان هذا المقدار ولفلان ذاك المقدار، وهذا شيء اشتهر في الأعصار حتى صار مخالفه مخالفا للإجماع:

قال العلامة الفقيه أبو بكر الدمياطي الشافعي المتوفى سنة 1310هـ في كتابه (إعانة الطالبين) 4/233 :
((ومن خلاف الإجماع : ما خالف شرط الواقف، فمن حَكَمَ بخلافه نُقِض))

وقد كان الحكام والقضاة يراعون ذلك ويتعاهدونه، بحيث يستحق الذم والتعزير والعقوبة من خالف هذه الشروط أو تلاعب بها، والتاريخ مليء بشواهد ذلك.

قال العلامة الفقيه الإمام محيي السنة أبو عبدالله محمد عليش المالكي الأزهري المتوفى سنة 1299هـ في كتابه: (فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك) 2/259 :
((إن وجد كتاب الواقف عمل بما فيه، وإلا عمل بما جرت به العادة في السنين الماضية، ولا يجوز مخالفتها فإنها تقوم مقام كتاب الواقف عند عدمه، ومن أراد مخالفتها والاختصاص فلا يُمَكَّن من ذلك ويجب على ولي الأمر منعه منه وزجره، سواء كان ناظرا أو غيره، ويعزل الناظر الذي أراد ذلك لثبوت خيانته وعدم تصرفه بالمصلحة وفتحه باب الفتنة والهرج والشر ..))اهـ.

وهذا الكلام محل اتفاق بين المذاهب كما أسلفنا.

ولخطر هذه المسألة أدرجها الفقيه ابن حجر الهيتمي المكي الشافعي المتوفى سنة 974هـ في جملة الكبائر في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر) 1/508 فقال :

((الكبيرة الثالثة والثلاثون بعد المائتين : "مخالفة شرط الواقف" وذكري لهذا من الكبائر ظاهر وإن لم يصرحوا به لأن مخالفته يترتب عليها أكل أموال الناس بالباطل وهو كبيرة))اهـ.

وتوضيح ذلك أن الناس يحرمون أنفسهم وأولادهم من التمتع بالأموال والعقارات فيخرجونها لشيء معين تقربا إلى الله ويجعلونها في خدمة المذهب الذي نشؤوا عليه كمدرسة مالكية أو مسجد للحنفية أو إمام على المذهب الشافعي، ثم يموت الواقفون فيأتي إنسان له سلطة فيلعب في أوقافهم ويخالف ما قصدوه وما شرطوه، وربما خص بها أصحابه ! فيخرجها عن مراد أهلها ومقصدهم، فلا شك أنه متورط في أكل أموال الناس بالباطل ومرتكب لكبيرة، وهذا باب خطر قد تقحمه كثير من الناس و ذوو السلطان ونظار الأوقاف منذ سنين بلا تقوى ولا ورع حتى صار اللعب في الأوقاف والتصرف كأنه هو الأصل ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ونظرا لشيوع هذه الكبيرة وانتشارها حتى غلب الظن أنه لا تكاد تسلم أوقاف المسلمين في كثير من البلدان من أنواع التعديات نظرا لذلك بالغ بعض المتأخرين من أهل العلم فذهب إلى تحريم الوقف، لأنهم رأوه مضيعة للمال وإعانة للظلمة :

قال الشيخ العلامة فالح بن محمد الظاهري المدني المتوفى سنة 1328هـ في كتابه (أنجح المساعي) ص221 ـ طبع دار الشريف ـ : ((كل أحد يعرف أن الأوقاف اليوم عرضة للظلمة والنظار عليها، وأنها لا تجري مجراها، ولا تلم بشيء من قصد الواقف أصلا .. ومع هذه الأحوال والقصود فلا أظن مسلما يقول بجوازه اليوم ..)) اهـ مختصرا.

وقد خالفه في هذا آخرون من أهل العلم منهم العلامة محمد زاهد الكوثري الحنفي وكيل المشيخة الإسلامية بالدولة العثمانية المتوفى سنة 1371هـ في مقالاته ص162 ـ طبع دار السلام ـ فقال : ((والواقع أن الاجتراء على الوقف مَرَضٌ متفشٍّ تجب معالجته ببصيرة منقذة لا بالمنع من الوقف كما يرى الشيخ فالح الظاهري في "أنجح المساعي" سدا للذريعة)) اهـ.

فإذا اتضح هذا فإن أغلب مساجد البحرين ومدارسها القديمة التابعة لأهل السنة هي من أوقاف المالكية، وتليها أوقاف الشافعية، والقليل من أوقاف الحنابلة، ولا أعرف من أوقاف الحنفية في البحرين شيئا، وقد جرى عليها من التغيير والتبديل عن مذاهبها التي كانت عليها ما لا يجهله ذو فهم، وحصل فيها من التصرفات ما لا يخفى، فعلى من عُيِّن ناظرا لهذه الأوقاف مراعاة ما ذكرناه وإلا كان مرتكبا لكبيرة أكل أموال الناس بالباطل ..


وأنت أيها السائل إذا عرفت هذا وكنتَ كما ذكرتَ في سؤالك أنك شافعي وأن المسجد الذي تؤم فيه هو من أوقاف الشافعية فلا يحل لك مخالفة ما جرى عليه العمل في هذا المسجد من التزام مذهب الشافعية، فهناك فرق بين من يصلي غير مرتبط بوقف معين فقد يجوز له أن يختار من المذاهب المعتبرة غير متتبع للرخص، ومن هو مرتبط بوقف له شروطه فلا خيار له إلا التزامها، وأنت الآن لا تصلي في بيتك أو لنفسك أو مسجدك الخاص بل إماما في مسجد من أوقاف الشافعية كما ذكرت أنت، فصرتَ مرتبطا به وملتزما ما جرى عليه العمل فيه وجوبا عليك، وهو المذهب الشافعي، لا سيما في المسائل التي يتميز بها المذهب عن غيره، ومنها الإسرار والجهر، فإن الإسرار فيما يسر به والجهر فيما يجهر به من أشهر ما يحصل به التمييز بين مذهب وآخر، وتعتبر من الشعارات الواضحة في المذهب، ولنا كتاب بسطنا فيه هذه المسألة قد ننشره قريبا، هذا ووفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.