الأربعاء، 29 أكتوبر 2014

سؤال عن هدم مسجد وتعويضه في موضع آخر



نص السؤال :
((ماذا يجب على من هدم مسجدا ليبني مكانه مكتبة، وبنى عوضا عن المسجد الأصلي مسجدا آخر بالقرب منه )) اهـ.

الجواب :

يجب عليه أن يتوب إلى الله تعالى مما جناه، ويجب عليه أن يعيده كما كان.

فقد سئل الإمام أبو محمد ابن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة عمن تعدى على مسجد فهدمه.
فأجاب : 
((يجب عليه أن يعيده كما كان وأحسن)). (المعيار المعرب 7/337).

بل لو تهدم المسجد بنفسه لأثم الناس الذين تركوه يتهدم ووجب أن يعيدوه، فكيف بالهادم؟!

فقد سئل الإمام أبو محمد أيضا عمن تركوا مسجدهم يتهدم هل هم مجبرون على بنائه من أموالهم ؟
فأجاب : 
((أما تركهم إياه مهدوما مع قدرتهم على البناء ولا غرض لهم فيه فهم آثمون)) .. (المعيار المعرب 7/338).

وكما يحرم هدمه يحرم بيعه أو تأجيره أو هبته .. ولو كان فاعل ذلك الباني نفسه، لأنه لما بناه مسجدا وفتحه للناس يصلون فيه خرج عن ملكه وصار وقفا لله تعالى، فلو تصرف فيه بعد ذلك ببيع أو إجارة أو هبة ينقض ذلك كله عليه ويعاد الأمر إلى أول عهده وجوبا، ففي مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل : 
((وأما الذي بنى مسجدا فأكراه فلو أباحه للمسلمين لكان حبسا لا حكم فيه له ، ولا لأحد فيه)) اهـ.

وفي المنح والمواهب وغيرها من كتب السادة المالكية عن الإمام مطرف فيمن بنى مسجدا وصلى فيه نحو السنتين ثم باعه ممن نقضه وبناه بيتا أو تصدق به قال : 
((يفسخ ما فعل ، ويرد إلى ما كان عليه مسجدا ، وهو كالحبس لله تعالى لا يجوز بيعه ولا تحويله ..)) اهـ.

وأما تعويض المسجد في مكان آخر فهذا إنما يجوز للضرورة الواضحة بحكم الحاكم الذي ينظر في المصلحة، وأي مصلحة في هدم مسجد قائم وبناء مكتبة موضعه؟! فكان على هذا الهادم للمسجد إذا أراد بناء مسجد آخر أن يبنيه في مكان آخر دون التعرض للمسجد الأول بشيء، وعليه حتى يتخلص من الإثم العظيم أن يعيد المسجد الأول في موضعه بمثل بنائه أو أحسن، هذا والله تعالى أعلم.



السبت، 20 سبتمبر 2014

أهل السنة في غنى عن الكذب على خصومهم

أهل السنة في غنى عن الكذب على خصومهم





بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه واتبع هداه ..

وبعد ..

فإن أهل السنة والجماعة أغنى الفرق الإسلامية عن الكذب والبهتان ..

فهم أعظم المذاهب الإسلامية وأكثرها انتشارا في العالم الإسلامي منذ قرون طويلة، وهم أعدل المذاهب وأوسطها .. والتاريخ يشهد بما يقضي على كل شك أو ريب أن أئمة الإسلام المصنفين أكثرهم وأعظمهم من أهل السنة والجماعة :

في القراءات والتفسير والتجويد والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والحديث رواية ودراية وجرحا وتعديلا .. وأما الفقه وأصوله فتدوينهم وصناعتهم .. وكذا التاريخ وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم ..

وأما إذا جئنا إلى علم الكلام الذي نيط به الذب عن أصول أهل السنة والجماعة ومجادلة الخصوم بأدلة المنقول والمعقول فالناس فيه عيال على الإمامين أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي وتلاميذهما من بعدهما .. وقد شهد بذلك الموافق والمخالف ..

ففي القرن الرابع الهجري حينما بسط السلطان فناخسرو بن الحسن بن بويه أبو شجاع الديلمي المتوفى سنة 372هـ الملقب بعضد الدولة حينما بسط سلطته على رقعة كبيرة شرقية من أرض الخلافة الإسلامية ـ حتى كان يدعا له مع الخليفة العباسي على المنابر ـ قرب إليه العلماء من كل الطوائف، وكان هو مائلا إلى الاعتزال في الأصول محبا للعلم والأدب، شديد الحرص على المحاضرات العلمية والمطارحات الأدبية، فكان مجلسه يغص برؤساء الفرق عدا أهل السنة والجماعة .. ولما سأل قاضيَه عن سبب خلو مجلسه من منافح ومناظر على مذهب أهل السنة والجماعة هون قاضيه من شأنهم وحط من قدرهم ـ وكان معتزليا ـ ورماهم بالجهل والعامية، فرد عليه السلطان قائلا :

((مُحالٌ أن يخلوَ مذهبٌ طَبَّقَ الأرضَ من ناصر))


فجرى البحث والترتيب بالاتفاق مع الخليفة العباسي أن يبعث إلى مجلس السلطان مناظرا  يذب عن عقائد أهل الحق بالمنقول من الكتاب والسنة وأدلة المعقول، فوقع اختيار الخليفة العباسي ـ بعد مشاورات مع أهل الحل والعقد والعلماء والقضاة ـ على الإمام أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي الأشعري، الذي حضر مجلس عضد الدولة وناظر رؤساء الفرق وتكلم بما بهر العقول حتى نزل السلطان عن كرسية وزحف مقتربا من الإمام الباقلاني استعذابا لكلامه .. فلما انتهت المجالس وظهر الباقلاني على رؤساء الفرق قال السلطان لقاضيه:

((ألم أقل لك : مذهب طَبَّقَ الأرضَ لابد له من ناصر؟))

ولما شاع خبر الإمام الباقلاني وقدرته الفائقة على المناظرة وفرح به الخليفة والناس والعلماء والقضاة صدر أمر من ديوان الخليفة العباسي بتلقيب الإمام الباقلاني رسميا بـسيف السنة ولسان الأمة، وقد جمعت بعض مناظراته في المجالس وطبعت، وأشهرها مناظرته في بلاط قيصر الروم سفيرا للدولة العباسية.




ولم يكن الإمام الباقلاني وحده فارس هذا المضمار، بل كان معه في عصره أئمة آخرون لا يقلون عنه رفعة ومجدا في هذا المقام كالإمام أبي إسحق الإسفراييني الشافعي والإمام أبي بكر ابن فُوْرَك الأصبهاني الشافعي وغيرهما، وقد شهد لهؤلاء الثلاثة الوزير العلامة الأديب إسماعيل بن عباد بن العباس أبو القاسم الطالقاني المشهور بالصاحب ابن عباد المتوفى سنة 385هـ  شهادة حق، على الرغم من أن الوزير كان معتزليا شيعيا، إلا أن إنصافه ومجموع فضائله أرغمته على تجرع كلمة حق مُرَّة سجلها التاريخ لما قيل له : إنك كنت تحط من قدر أهل السنة والجماعة وترميهم بالجهل والعامية، وقد رأيت وسمعت بنفسك مناظرة هؤلاء الثلاثة من أئمة أهل السنة فما تقول فيهم الآن؟ فقال الصاحب ابن عباد بعد أن أطرق وجلله الحياء:

((ابن الباقلاني بَحْرٌ مُغْرِق .. وابن فُوْرك صِلٌّ مُطْرِق .. والإسفراييني نار تحرق))
[الصل المطرق : ثعبان ظريف المنظر ولكنه يقتل في الحال] يقصد بذلك قوتهم في تفنيد شبهات الخصوم، وسطوتهم في المناظرة.

إن مذهبا إسلاميا عالميا كهذا لغني عن الكذب والافتراء على خصومه، فإن لديه من آلات المنقول والمعقول ما يدحض به كل شبهة ويرد به كل باطل، ولكن ـ وياللأسف ـ أصيب مذهب أهل السنة والجماعة في العقود المتأخرة بضعف علمي شديد، ازدادت حدته في النصف الأخير من القرن الرابع عشر الهجري وإلى الآن، ولسنا بصدد شرح أسباب الضعف فإنها لا تخفى على اللبيب، مما أدى إلى فشو الجهل المنتج للكذب.

والحق أن الكذب العلمي لم يكن متعمدا، وإنما هي أخطاء علميه أفرزت نتائج لا تطابق الواقع، فإذا عَرَّفْنَا الكذب بمجرد عدم مطابقة الواقع فلنا أن نسمي تلك الأخطاء العلمية كذبا، وأما بإضافة قيد العمد والقصد فلا تسمى تلك الأخطاء كذبا حينئذ بل هي أغلاط أنتجها الجهل، لأن عامة ما يقع من تلك الأغلاط والأخطاء العلمية لم يكن مقصودا.

مثالان من أمثلة تلك الأكاذيب أو الأغلاط المنتشرة الخطيرة والبشعة :

الأول : الكذب على الشيعة الإمامية الاثني عشرية :

من ذلك زعم بعض الناس من أهل السنة ـ وسمعناهم في المساجد  وغيرها من الطفولة وإلى الآن ـ أن الشيعة إذا ضربوا على ركبهم في الصلاة يقولون : (خان الأمين) أي أن جبريل عليه السلام خان الأمانة فنزل بالرسالة والنبوة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكان الواجب أن ينزل بها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه !!
وهذا كذب على الاثني عشرية، بل هم وأهل السنة يحكمون بكفر الطاعن في عصمة الملائكة عليهم السلام، وهذه المقالة الكفرية إنما هي مقالة الفرقة الغُرَابِيَّة من الفرق المغالية البائدة، ولكن الجهل أدى ببعض الناس في الأدوار الأخيرة إلى قراءة الكتب دون معلم وشيخ ماهر فإذا قرؤوا شيئا عن فرقة من فرق الشيعة القديمة البائدة لم يميزوا بينها وبين الفرقة الاثني عشرية الموجودة اليوم فألبسوا هذه الفرقة ما قالته تلك الأخرى البائدة، وهذا نوع من أنواع الأخبار التي لا تطابق الواقع والتي يجوز أن نسميها كذبا، وإلا فإن الإمامية الاثني عشرية إذا قضوا الصلاة كبروا ثلاث تكبيرات مع رفع اليدين، لكن كثيرا من العوام منهم يأتون بالتكبير في صورة الصفق على الركب فيتوهم من يراهم أنهم يصفقون.

الثاني : الكذب على أصحاب محمد بن عبد الوهاب (الوهابية) :

 فمن أشنع الكذب عليهم أنهم يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم أو لا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم أو يمنعون الصلاة عليه .. وهذا شيء شاع قديما عنهم في المساجد وسمعناه من الطاعنين في السن ينفروننا عنهم، ثم قرأنا كتب الوهابيين فرأينا الصلاة والسلام على النبي بعد اسمه الشريف في كل كتبهم، فعرفنا أن الوهابيين لا يكرهون النبي ولا يمنعون الصلاة عليه، بل هم وأهل السنة يعتقدون كفر من كره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خلاف بينهم وبين أهل السنة في فضل الصلاة على النبي وآله .. وإنما شاع ذلك عنهم لأنهم كانوا يمنعون ما كان شائعا من الصلاة على المنارات قبل الأذان أو بعده ظنا منهم أن ذلك بدعة وزيادة في الأذان، أو يمنعون صيغا من صيغ الصلوات المنتشرة في الأوراد وبعض الأحزاب ظنا منهم أن فيها غلوا .. فألزمهم بعض الناس بأنهم يكرهون النبي وأنهم يمنعون الصلاة عليه .. وهذا ليس بلازم كما لا يخفى.

هذان المثالان خطران لأنهما يؤديان إلى كفر محقق لا شك فيه، فمن طعن في الملائكة أو أحدهم، أو كره الأنبياء أو أحدهم فقد أتى كفرا أكيدا لا شك فيه، وهما تهمتان انتشرتا في وقت من الأوقات، ولهذا ذكرنا هذين المثالين ..

إن أهل السنة في غنى عن هذا المسلك الجاهلي الوخيم، ولا يكون الانتصار على الخصوم أو التنفير من مذهبهم صحيحا بهذه الصورة لأنه يعتمد على الكذب، وإذا اكتشف الناشئة من أهل السنة أنهم لقنوا ـ ولو غلطا ـ ثلة من الأكاذيب على خصومهم لينفروا منهم ضعفت ثقتهم بمذاهبهم وربما أداهم ذلك إلى هجرها إلى غيرها، ومذهب أهل السنة مؤسس على القرآن والحديث والإجماع والعمل والقياس وأدلة العقول، وهو من المتانة بحيث لا يحتاج إلى مثل هذه الأساليب الرخيصة.


وبالرغم من اعترافنا بوقوع هذا الصنيع من أهل السنة إلا أنه وقع من جهال المتأخرين من عوامهم، ولم يكن متعمدا غالبا، ومثل هذا التشنيع لعله وقع من غير أهل السنة أكثر مما وقع من أهل السنة، ومهما يكن فإنه فعل مقبوح مستنكر لا يأتي بخير ولا ينتج إلا خبالا، ولا يليق بأهل المروءات فضلا عن أهل الديانات، وعند أهل الفرق الأخرى من المقالات الثابتة عنهم ما فيه الغنى عن الكذب عليهم أو الافتراء، وبالله التوفيق. 

السبت، 23 أغسطس 2014

لعبة الرابط العجيب الأوقاف و السلاح

لُعْبَةُ الرابط العجيب : (الأَوْقَافُ) و (السِّلاَح)

يلعب الأطفال أحيانا لعبة مسلية تسمى الرابط العجيب، تشحذ الأذهان وتنمى التفكير، يقول الطفل لصاحبه مثلا: (البيضة) و (الشمس) فيقول الآخر : البيضة لا تأتي إلا من الطيور، والطيور لا تعيش إلا على النباتات، والنباتات لا تنمو إلا على ضوء الشمس، وهكذا نصل إلى العلاقة بين البيضة والشمس، إنها علاقة السببية.

هلا جربنا هذه اللعبة مستعملين كلمتي (الأوقاف) و (السلاح) ؟ هل يمكننا أن نوجد رابطا قريبا واضحا بين الأوقاف والسلاح ؟ فلنجرب ذلك :

السلاح يمكن أن يملكه الإنسان ـ في البلاد التي تسمح بامتلاكه ـ وينتفع به في الجهاد المشروع كالدفاع عن وطنه، وكل ما كان كذلك يمكن لمن يملكه أن يجعله صدقة جارية، أي وقفا في سبيل الله، وهنا يأتي دور الجهة المخولة للإشراف على هذا السلاح والتي قد تكون إدارة الأوقاف المدنية أو التابعة للجيش.

وإليكم صورة ثانية : فيمكن أيضا أن يوقف الإنسان عقارا أو أرضا لصالح جيش المسلمين ـ وقد حدث ذلك كثيرا في التاريخ ـ ويشرف على هذه العقارات إدارة الأوقاف المدنية أو تلك التابعة للجيش، ومن ريع هذه العقارات يتم تجهيز الجيش بالسلاح.

أظن أننا نجحنا في إيجاد العلاقة الوطيدة والمشروعة بين الأوقاف والسلاح بصورتين مختلفتين .. ولكنني سأحاول إيجاد العلاقة بصورة ثالثة أيضا بخطوتين اثنتين من باب الإمعان في البيان :


الخطوة الأولى : (الأوقاف تدعو الشيخ عبد الله الغنيمان)



الخطوة الثانية : (الشيخ الغنيمان يدعو إلى شهر السلاح)




وهكذا نكون قد وفقنا للمرة الثالثة في إيجاد العلاقة الوطيدة بين الأوقاف والسلاح، ولكن هذه المرة في صورة لا أظن أنها مشروعة، لأن الظاهر من كلام الغنيمان هنا أن شهر السلاح في وجوه المسلمين الموحدين المسالمين ضمن خطة اضطهاد ديني !! فمتى وكيف وأين يكون شهر السلاح في وجوه المسلمين مشروعا ؟؟ إن الشيخ مصرح بأن هؤلاء الذين ينبغي الاستعداد لاضطهادهم وشهر السلاح في وجوههم هم أكثر العالم الإسلامي من أتباع المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية وحتى الحنابلة !! وصرح في بعض نصوصه بالأزهر الشريف وغيره أيضا كما سيأتي.
ومن نتائج هذا التفكير العنيف الواضح في كلام الشيخ الغنيمان وغيره من شيوخ الدعوة النجدية ما قاله لي واحد من خريجي جامعاتهم مرة قال : (لو كان لي جيش أو لواء لقاتلت الأزهريين) فهذا القائل ربما يكون قد حضر محاضرات الشيخ الغنيمان وهو يتحدث عن شهر السلاح ، ومن آثار ذلك ما نشاهده اليوم من التطرف والوحشية في حق المسلمين الموحدين، إذن فقد صحت العلاقة بين الأوقاف والسلاح.

لكن بما أننا تطرقنا إلى هذا الحديث فليس من العدل أن ندع القارئ مشوشا وقد نشبت كلاليب الاستفهام في رأسه من هول ما يقرأ هنا .. فلا مناص من إزالة هذا الإشكال لئلا ندع مجالا لمستدرك فلا بد أن نوضح التالي :

قد يقال ـ دفاعا عن الشيخ ـ  : إن الشيخ الغنيمان قال هذا الكلام قديما قبل 30 سنة، أي سنة 1405هـ، وكلنا يعلم أن المملكة العربية السعودية خاضت خلال العقود الماضية مصائب تشيب لها الرؤوس، وخرجت من تجارب مُرَّة، فقد ابتليت المملكة بفِرَق وطوائف اتخذت من العنف والشدة والتعصب شعارا لها، كإخوان من طاع الله والقطبيين والقاعدة وما تفرع منها، فكَفّروا حكام المسلمين بل وحكام المملكة السعودية أيضا وتعدوا إلى كبار المسؤولين في الدولة بل وكبار العلماء فيها ـ فسقوهم من كأسهم ـ وكالجامية التي حاربت الدعاة المعاصرين بكل ضراوة، وتفرعت منها الحدادية أتباع محمود الحداد المصري، والتي شنت حملة شعواء على تراث الأمة ولم تفرق بين قديم ومعاصر، وكلامهم من جنس كلام الغنيمان السالف ـ حاشا السلاح ـ وتعدى شرهم إلى حرق كتب أهل السنة كشرحَيْ البخاري ومسلم ـ وإن كان الحداد نفسه يبرأ من فعل الحرق خاصة كما سمعته في شريط مسجل ـ واكتشف كبار علماء المملكة أن التشدد والطرح المتعصب قد انقلب عليهم شرا ووبالا، فبدؤوا في محاولة متواضعة لتصحيح المسار شيئا ما، فصاروا يحذرون من التكفير والغلو ..
وقد كان حدثني أحد الزملاء من الأساتذة السعوديين أن المشايخ في السعودية عقدوا المحاضرات في إثر حادثة حرق شروح كتب السنة لأن مؤلفيها من الأشاعرة ـ مستدركين على أنفسهم ما لقنوه لطلابهم ـ وفي إحدى هذه المحاضرات ( قال الشيخ ابن عثيمين : إن 80% من العالم الإسلامي أشاعرة) قال الأستاذ : فرد عليه الشيخ ابن باز وكان بجواره قائلا : (90% يا شيخ محمد) هذا أو نحوه أوقريبا منه. 

فقد يقال بأن الغنيمان عندما كتب ما كتب كان ذلك قبل ثلاثين سنة والمملكة تشتعل تعصبا، ودخان التكفير في كل مكان، وسخام التبديع يملأ الأجواء تعكيرا، فلم يسع الغنيمان حينئذ إلا السير مع القافلة ومسايرة سوق العرض والطلب .. عندئذ فتش الغنيمان شراح صحيح البخاري فوجد ـ على حد تعبيره ـ أن ((غالب من قام بشرحه، على المذهب الأشعري، ولا سيما الشروح المتداولة اليوم)) !! فألف شرح كتاب التوحيد ذاك الوقت، وفيه قال ما قال عن شهر السلاح.

ولكن بعد ظهور الفتن ورجوع كثير من المشايخ هناك عن نبرة الغلو الشديد إلى الغلو المتوسط رجع معهم الغنيمان فيمن رجع إلى غلو متوسط، ولهذا تراه في كتابه "ثبات العقيدة" الذي ألفه سنة 1412هـ  يقول كلامه السالف دون ذكر السلاح :




  ومن آثار هذا التراجع ما تراه من الفرق في طرحه لمسألة القوانين الوضعية بين ما كان أفتى به سابقا مما يَسْهُلُ فهم التكفير من ثناياه وبين توضيحه الأخير الموافق لكلام جمهور العلماء، ومن آثار ذلك أيضا توقيعه على فتوى كتبها الدكتور عبد العزيز القارئ سنة 1427هـ  يفهم من ظاهرها جواز التعاون مع أهل السنة ـ الأشاعرة ـ في الأمور العامة وأنهم من أهل السنة في الجملة وليسوا من الفرق الضالة :



قد يقال كل هذا الكلام في الدفاع عن الشيخ الغنيمان وأن مرحلة السلاح والعنف وتبديع أهل السنة مرحلة مضت ولا أثر لها الآن فلا يصح الربط بين الأوقاف وشهر السلاح تعويلا على كلام قديم للغنيمان، بدليل شن الغلاة جدا من الجامية والحدادية على الغنيمان هجوما شرسا وصفوه فيه بأوصاف قاسية، وما ذلك إلا لظهور نوع من اللين والتراجع من الغلو الشديد إلى الغلو المتوسط لدى الشيخ الغنيمان حتى وصفه الغلاة جدا بأنه سروري وتكفيري :




وبدليل أن الجامية الحدادية ينقمون الآن على الشيخ مسألة التعاون مع أهل السنة كما نشروه بأنفسهم هذا العام :

فنقول جوابا عن هذا الدفاع :

أولا : الدفاع عن الشيخ بأنه لا يبدع أهل السنة مردود،  لأن الشيخ الغنيمان بعد أن وَقَّعَ على تلك الفتوى التي يُفهم منها أن الأشاعرة من أهل السنة عاد ناكصا مصرحا بأن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة والجماعة، كما تراه في كلامه من موقعه سنة 1431هـ  :

ثانيا : ما يقوله عنه الجامية والحدادية قد ينفيه الشيخ الغنيمان أيضا في أي وقت ببيان توضيحي كما نفى الاعتراف بأهل السنة والجماعة أتباع المذاهب الأربعة في موقعه.

ثالثا : لم نقف على أي تصريح واضح من الشيخ الغنيمان حتى الآن يقر فيه بأن أتباع المذاهب الأربعة في العالم الإسلامي اليوم هم أهل السنة والجماعة، ولم نقف له على أي اعتذار أو تراجع عما كان قاله في كتبه من التحريض على أهل السنة واستعداء طلابه عليهم ولو بشهر السلاح .. كل هذا لم يحصل من الغنيمان، فالدفاع المتقدم لا يلزمنا ولا نقِرُّ به.

النتيجة :

أن العلاقة بين الأوقاف والسلاح في مثالنا الثالث هذا صحيحة أيضا.

الخاتمة :

إننا نعتقد أن دعوة الأوقاف (السنية) للشيخ الغنيمان تجيء ضمن خطط مقاومة عقيدة جمهور الأمة الإسلامية من أتباع المذاهب الأربعة، أو على حد تعبير الغنيمان : (مقاومة هذه التيارات الجارفة، على حسب ما تقتضيه الحال، من مناظرات، أو بالتأليف، وبيان الحق بالبراهين العقلية والنقلية، وقد يصل الأمر أحياناً إلى شهر السلاح).

إن كلمة (أهل السنة) بالنسبة للأوقاف لا تعني أتباع المذاهب الأربعة السنية التي تشكل جمهور الأمة الإسلامية، وتُدَرَّسُ عقائدهم في الأزهر والقرويين والزيتونة وديوبند وغيرها من الجامعات الإسلامية الكبرى الأصيلة، بل أهل السنة عندهم مفهومة بالمعنى الذي يقصده الشيخ الغنيمان كما بيناه والمنحصر في فكر الدعوة النجدية، وأما وصف الأوقاف بالسنية فصحيح باعتبار الواقفين من الأجداد من أهل السنة من المالكية والشافعية الذين بذلوا أموالهم في سبيل الله، فالأموال أموال أهل السنة صحيح، لا بمعنى أن الإدارة الحالية تعترف بصحة عقائدهم أو بعقيدة جمهور الأمة من أتباع المذاهب الأربعة كما تثبته نشاطاتهم المتكررة.




إننا نبعث من خلال مقالنا هذا برسالة إلى كل أب وأم من أهل السنة المالكية أو الشافعية في البحرين مفادها أن عقائد ومذاهب الأمة الإسلامية الأصيلة قد أصبحت عرضة للمقاومة والتحريف والتغيير والتبديل لمصالح طائفية أو سياسية أو مالية أو غيرها .. وأصبح حفظها نقية صافية غير مضمون من خلال المؤسسات الرسمية ـ كالأوقاف ـ فهي إذن دين في أعناقكم، وأمانة تؤدونها سالمة لأولادكم، ذلكم حتى لا تجتاحهم الأفكار الهدامة والتطرف بكل أنواعه وأشكاله، وما بلاد الشام والرافدين ومن قضى من أبنائنا هناك عنكم ببعيد، اللهم إني قد بلغت فاشهد، والسلام عليكم ورحمة الله.


الخميس، 14 أغسطس 2014

التَّحِيَّة لمفتي الدِّيَار المِصْرِيَّة

التَّحِيَّة لمفتي الدِّيَار المِصْرِيَّة



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي رفع منار العلم، وخفض راية الجهل، وأبقى بين ظهراني المسلمين أئمة ذوي رسوخ في العلم وعزائم، يصدعون بالحق لا يخافون لومة لائم .. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول رب العالمين، وإمام المسلمين، القائل : "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وعلى آله سفينة النجاة وحبل العلم الممدود، وأصحابه حصن الدين المنيع المشدود  ..

وبعد ..

فمذ أُعْلِن عن إحالة أوراق مئات من المسلمين في مصر إلى العلامة مفتي الديار المصرية وأنا وَجِل من أن يصادق الشيخ على هذه الإعدامات ..

مفتي الديار المصرية شوقي علام

لقد بذلت كل جهدي لمحاولة التعرف على الحكم الشرعي لهذه المسألة مِنْ قَبْلُ عندما وقعت عندنا في البحرين، فحررتها تحريرا في مقالي :


وبينت فيه أن المطالبة بالإعدام والقتل مصادمة لما هو مقرر في الفقه الإسلامي بمذاهبه المعتبرة، ونقلت النصوص في ذلك، وبينت أن المسألة تُسْتفاد أحكامُها من باب البَغْي من كتب الفقه الإسلامي، لا من باب الحرابة ولا الردة ولا غيرهما، وأن إخراج هذه المسألة من بابها الأصل إلى غيره جنوحٌ عن الصواب وإبعادٌ للنُّجْعة، وأن تطبيق ما يسمى بالخيانة العظمى في هذه المسألة تشديدٌ وقسوةٌ مرجعُه القوانين الوضعية المصادمة للشريعة الإسلامية السمحة.

وعندما وقع مثل ذلك في مصر وثار من ثار على الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وصار في الأسر طالب كثير من الناس بإعدامه ومن معه ! وهذا أيضا جهل بحكم هذه المسألة، لأنه هو الحاكم المَبْغِيُّ عليه المنزوع من سلطانه، فلو دَفَعَ هو من خرج عليه لكان له ذلك بشروطه فكيف يتحول بعد ذلك إلى محكوم بالإعدام؟!



ولو ساغ مثل هذا الخبط من العامة والدهماء فكيف يسوغ ممن آل إليهم الأمر من محبي الشريعة ومناصريها المنادين بتطبيق أحكامها ورافعي شعار الحلول الإسلامية ؟! إن هذا لعجيب.

فلما صار الأمر إلى الإخوان المسلمين واستقر لهم الأمر لم يكن الخروج عليهم جائزا كذلك ـ وإن كانوا بغاة في الأصل لاشتراكهم في نزع الحاكم الأسبق ـ ولكن الناس أعادت الكرة ولم تصبر عليهم، فخرجوا عليهم ونزعوهم من الحكم، فاجتمع في الإخوان وصف البغاة ـ باعتبار ما كان منهم سابقا ـ ووصف المَبْغِيِّ عليهم ـ باعتبار ما آل إليه الأمر ـ فَدُفِعُوا دفعا قُتِل فيه من قتل منهم حتى استقر الأمر الآن لهذا السلطان الجديد.

ووُضِع الإخوان في السجون وحُكِمَ بالقوانين الوضعية على كثير منهم بالإعدام مرة أخرى !

إن هؤلاء في أسوأ أحوالهم ـ حتى أولئك الذين باشروا القتال ـ لا يزيدون عن أن يكونوا بغاة تجري عليهم أحكام باب البغي، وليس فيه إعدام ولا تضمين على تفصيل ذكرناه، وإنما هي فتنة يجب على المسلمين وأدها والإياب منها إلى الصلح والصواب، فمن أين يأتي الإعدام لولا القوانين الوضعية المخالفة للشريعة السماوية؟؟!!

فلما أحيلت أوراق المئات منهم إلى مفتي الديار المصرية كنت وَجِلا من أن يصادق المفتي على قرار الإعدام، لأننا نحن المشتغلين بالعلم نعلم أن هذه المصادقة حينئذ لن تكون إلا نزولا لرأي شاذ أو قانون وضعي ـ وما أكثر مفتي الأقوال الشاذة ـ أو خضوعا لضغوطات سلطوية، وهذا فيه ما فيه مما يمس الشريعة والأزهر والإفتاء، وفكرت في مكاتبة العلامة المفتي ببحث المسألة لشدة وضوحها لديَّ غيرة على أحكام الشريعة أولا وغيرة على الأزهر والإفتاء الشامخ ثانيا، ثم إني عدلت عن ذلك، وقلت : من أنا حتى أكتب إلى مفت وحوله مفتون يحررون المسألة؟ ولئن كان الإفتاء هناك خاضعا لأي ضغوط فما عساه يستفيد مما أكتبه؟ فالله يؤيدهم ويمدهم بالصواب، وصرنا نترقب ما يتمخض عن دار الإفتاء.


ولكن ولله الحمد لم يخيب الإفتاء الشامخ رجاءنا، ورفض الشيخ العلامة المصادقة على هذا الحكم المصادم للشريعة الإسلامية، وكرر رفضه حتى وجدت نفسي مدفوعا إلى تسجيل التحية لمفتي الديار المصرية.


الخميس، 31 يوليو 2014

جبل الدخان في البحرين، أين ذهب دخانه؟؟

(جَبَلُ الدُّخَان ـ في البحرين)

المؤرخون الثلاثة :  محمد بن خليفة النبهاني، وناصر بن مبارك الخيري، ومحمد علي التاجر ذكروا جبل الدخان الظاهر في الصخير من البحرين، ولكنهم لم يذكروا سبب تسميته بهذا الاسم (جبل الدخان).

انقر للتكبير

بينما جاء في الموسوعة العربية العالمية أن جبل الدخان هذا: (استمد هذه التسمية من التكوينات الضبابية التي تجعل الصخور تبدو كأن عليها هالة من الدخان الرمادي المتصاعد من الصحراء) .
وهذا كلام لا حقيقة له، فها هو الجبل يشاهده الناس لا يرون ضبابا ولا دخانا، ولا شيء فيه يمت للدخان بصلة .

ولأن وزارة الثقافة ـ مملكة البحرين ـ غير مقتنعة بهذا السبب فقد قيدته بأيام الرطوبة العالية قائلة: (الهالة الضبابية التي تحيط عادة برأس الجبل في الأيام ذات الرطوبة العالية هي سبب تسمية الجبل بجبل الدخان) .

ولا يخفى أن الأيام ذات الرطوبة العالية قليلة وتكون التشكيلات الضبابية عامة فلا تختص بجبل الدخان.

وجاء في الموسوعة الحرة ـ ويكيبيديا ـ أنه سمي بذلك لأن (فوقه آبار نفط وغاز طبيعي) .

ومن الواضح أن آبار النفظ ليست دخانا، كما أن الغاز الطبيعي لا ينبعث من الجبل مكونا سحابة دخانية ولم يُشَاهد شيء كهذا أبدا حسب علمي.
والمصادر المهتمة بجيولوجيا البحرين والمنطقة تقول بأن التكوين الصخري لجبال المنطقة كلها جيري ترسبي لا بركاني أصلا، فمن أين جاء الدخان إذن؟؟
إن هذا الاضطراب الواضح في تعليل التسمية يشجعني على إظهار رأي عندي لعله لا يقل معقولية وواقعية عن الهالة الضبابية.

جبال أخرى تحمل نفس التسمية والإشكال :

هل نحن أمام مجرد مصادفة عجيبة أن يكون في كل جهة من أطراف الجزيرة العربية الأربعة جبل يحمل اسم "جبل الدخان"، وأن تكون كلها أيضا بلا دخان بحسب بحثي؟ :


جبل الدخان في السعودية ـ اليمن :


وهو الذي تحصن فيه الحوثيون وجرت فيه حرب بين القوات السعودية والحوثيين، وبينهم نزاع حدودي، وقد حاولت الوصول إلى ما يفيد أثرا لدخان منه أو حوله فلم أجد.





جبل الدخان في مصر :

ويسمى أيضا بالجبل الأسود وبجبل يحموم، قال الزبيدي في تاج العروس : (واليحموم : جبل بمصر أسود اللون، ويعرف أيضا بجبل الدخان، ذكره كُثَيّر في قوله: إذا استغشت الأجواف أجلاد شتوة ** وأصبح يحموم به الثلج جامد) اهـ.



ولا أظن شيئا من جبال مصر يكسوه الثلج.

جبل الدخان في الشام :

أما هذا الجبل فهو الذي ورد في الآثار أن المسلمين يفرون إليه آخر الزمان من الدجال، فيأتيهم الدجال فيحاصرهم فيه، وأن المسيح عليه السلام يقتل الدجال فيه، وهو المقصود بكلمة (الدخ) في خبر ابن صياد كما في الصحيح، يريد أن يقول جبل الدخان.
وأظنه الجبل المعروف الآن بجبل الشيخ أو جبل حرمون، وله تاريخ طويل.



لكن هذه الجبال كلها لا دخان فيها يصح أن تنسب إليه، ولو كانت النسبة للسراب أو الضباب أو الغيوم لقيل جبل السراب أو الضباب أو الغيوم لا الدخان، وجبل الدخان في البحرين أبعدها شبها بالجبال العالية لصغره حتى عدوه تلا لا جبلا، فمن أين جاءت هذه التسمية لهذه الجبال وما حقيقة هذا الجبل؟


جبل الدخان الأصلي موجود في
(دَبَاوَنْد)



قال ياقوت في معجم البلدان :
((دباوند بفتح أوله ويضم وبعد الواو المفتوحة نون ساكنة وآخره دال، ويقال دنباوند أيضا بنون قبل الباء، ويقال دماوند بالميم أيضا، كورة من كور الرَّي بينها وبين طبرستان، فيها فواكه وبساتين وعدة قرى عامرة وعيون كثيرة، وهي بين الجبال، وفي وسط هذه الكورة جبل عال جدا مستدير كأنه قبة، رأيته ولم أر في الدنيا كلها جبلا أعلى منه يشرف على الجبال التي حوله كإشراف الجبال العالية على الوطاء، يظهر للناظر إليه من مسيرة عدة أيام، والثلج عليه ملتبس في الصيف والشتاء كأنه البيضة، وللفُرْس فيه خرافات عجيبة وحكايات غريبة هممت بسطر شيء منها ههنا فتحاشيت من القدح في  رأيي فتركتها..))اهـ


هذا الجبل الذي ذكره ياقوت الحموي وغيره والواقع في دباوند من إيران هو جبل الدخان الحقيقي، وهو أقدم جبل عرف بهذا الاسم وهذه بعض صوره :





















سبب الأساطير حول جبل دباوند

نسجت حول هذا الجبل الكثير من الأساطير، حتى ذُكِر بعضها في كتب التاريخ والتفسير عند قوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) سورة ص ـ الآية 34.

وسبب هذه الأساطير والخرافات أن هذا الجبل عال جدا لا يستطيع الناس قديما الوصول إلى أكثر من نصفه، وهو مكسو بالثلوج صيفا وشتاء، وفيه عيون وينابيع كبريتيه وكهوف وجيوب وتجاويف عجيبة، بحيث تتصاعد منه الأبخرة فتصير عليه مثل الترس أو القبة وتشتد الرياح فتظهر أصوات مختلفة تسمع من بعد، بعضها يشبه أصوات الحيوانات وبعضها يشبه أصوات البشر، وتشرق عليه الشمس أحيانا فتتلون تلك الثلوج المخلوطة بالمواد والأبخرة فتشع وتشرق حتى كأنه جمرة من النار، فكان ذلك موضوعا جيدا للأساطير والخرافات فمن شاء فليراجع بعضها في معجم البلدان لياقوت الحموي.

صلة جبال الدخان بجبل دباوند

لكن ما صلة جبل الدخان في البحرين وباقي جبال الدخان بجبل دباوند العجيب؟

الناظر في أحوال وصور جبال الدخان ـ غير جبل دباوند ـ لا يرى أي صلة بينها وبينه، فالدخان والأبخرة التي تتصاعد وتلك الظواهر الطبيعية التي تحدث فيه غير موجودة في غيره، وجبل الدخان في البحرين أبعدها شبها به من كل وجه، فما هو القاسم المشترك بينه وبين غيره حتى أطلق الناس عليها مثل اسمه؟

ما أرجحه في هذا المقال أن سبب تسمية تلك الجبال باسمه ـ ومنها جبل الدخان عندنا في البحرين ـ سببه أنه كان منفى، ينفى إليه بعض من حكم عليهم بالتعزير لأسباب مختلفة، وسبب اختياره بُعْدُه، وأنه آخر بلاد الإسلام من ناحية الشرق في عهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فهو منفى وثغر من ثغور المسلمين ليس وراءه إلا ديار الكفار ذلك الوقت، يشهد لذلك ما روي أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه نفى إليه جندب بن عبد الله تعزيرا لافتياته على الحاكم، ونفى إليه كعب ابن ذي الحبكة النهدي تعزيرا كذلك لاشتراكه في إثارة الفتنة ..

فيبدو أن اسم جبل الدخان ـ دباوند ـ قد شاع ذلك الوقت مساويا لكلمة مَنْفَى، يدل على ذلك ما رُوِيَ أن الجهجاه الغفاري ـ وكان مناوئا لعثمان ـ حينما قال لعثمان: (والله لنغربنك إلى جبل الدخان) وفي رواية أخرى: (كما سيرت خيار الناس) وهذا يدل على ما ذكرناه من أن كلمة: (جبل الدخان) اقترنت عندهم دوما بعقوبة النفي تعزيرا .

وقد رُوي أن عثمان رضي الله عنه شكا قائلا :
((إني في قوم قد طال فيهم عمري، واستعجلوا القَدَرَ، وقد خيروني بين أن يحملوني على شارف إلى جبل الدخان، وبين أن أنزع لهم رداء الله الذي كساني)) اهـ.

فالظاهر أن هذه التسمية انسحبت على جبال الدخان الأخرى ليس لأنها اشتركت مع جبل دباوند في ظواهره الطبيعية، بل لأنها اختيرت مَنَافِيَ أقرب، عوضا عن دباوند البعيدة ليكون المَنْفِيُّ إليها غير خارج بالكلية عن بلاد العرب.


ولعل هذا يقوي ما روي من اختيار جبل الدخان في أوال منفى لسيدنا صعصعة بن صوحان العبدي في أيام أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إذ كان صعصعة من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان خطيبا مصقعا مؤثرا فلعل معاويةَ استصوب الحَدَّ من تأثيره بنفيه إلى جبل الدخان القريب الذي في أوال البحرين ـ وبين قبره في عسكر وجبل الدخان خمسة أميال ـ والذي تكثر حوله عبد القيس ـ قبيلة صعصعة ـ يؤيد ذلك ما رُوِيَ من قول معاوية لصعصعة: ((والله يا ابن صوحان لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى)) اهـ.
كأنه يُعَرِّضُ إلى النَّفْي إلى دباوند حيث ذلك الجبل الرفيع الذي يبعد ما بين قمته وموضع الهوي أي سفح الجبل، فكان جبل الدخان في أوال الأقرب عوضا عنه.
وسنفرد لمسألة صعصعة بن صوحان هذه مقالا خاصا إن شاء الله تعالى.
هذا مجرد اجتهاد مني في تفسير إطلاق هذا الاسم على جبال الدخان الموجودة في أطراف جزيرة العرب، والله تعالى أعلم.