السبت، 23 أغسطس 2014

لعبة الرابط العجيب الأوقاف و السلاح

لُعْبَةُ الرابط العجيب : (الأَوْقَافُ) و (السِّلاَح)

يلعب الأطفال أحيانا لعبة مسلية تسمى الرابط العجيب، تشحذ الأذهان وتنمى التفكير، يقول الطفل لصاحبه مثلا: (البيضة) و (الشمس) فيقول الآخر : البيضة لا تأتي إلا من الطيور، والطيور لا تعيش إلا على النباتات، والنباتات لا تنمو إلا على ضوء الشمس، وهكذا نصل إلى العلاقة بين البيضة والشمس، إنها علاقة السببية.

هلا جربنا هذه اللعبة مستعملين كلمتي (الأوقاف) و (السلاح) ؟ هل يمكننا أن نوجد رابطا قريبا واضحا بين الأوقاف والسلاح ؟ فلنجرب ذلك :

السلاح يمكن أن يملكه الإنسان ـ في البلاد التي تسمح بامتلاكه ـ وينتفع به في الجهاد المشروع كالدفاع عن وطنه، وكل ما كان كذلك يمكن لمن يملكه أن يجعله صدقة جارية، أي وقفا في سبيل الله، وهنا يأتي دور الجهة المخولة للإشراف على هذا السلاح والتي قد تكون إدارة الأوقاف المدنية أو التابعة للجيش.

وإليكم صورة ثانية : فيمكن أيضا أن يوقف الإنسان عقارا أو أرضا لصالح جيش المسلمين ـ وقد حدث ذلك كثيرا في التاريخ ـ ويشرف على هذه العقارات إدارة الأوقاف المدنية أو تلك التابعة للجيش، ومن ريع هذه العقارات يتم تجهيز الجيش بالسلاح.

أظن أننا نجحنا في إيجاد العلاقة الوطيدة والمشروعة بين الأوقاف والسلاح بصورتين مختلفتين .. ولكنني سأحاول إيجاد العلاقة بصورة ثالثة أيضا بخطوتين اثنتين من باب الإمعان في البيان :


الخطوة الأولى : (الأوقاف تدعو الشيخ عبد الله الغنيمان)



الخطوة الثانية : (الشيخ الغنيمان يدعو إلى شهر السلاح)




وهكذا نكون قد وفقنا للمرة الثالثة في إيجاد العلاقة الوطيدة بين الأوقاف والسلاح، ولكن هذه المرة في صورة لا أظن أنها مشروعة، لأن الظاهر من كلام الغنيمان هنا أن شهر السلاح في وجوه المسلمين الموحدين المسالمين ضمن خطة اضطهاد ديني !! فمتى وكيف وأين يكون شهر السلاح في وجوه المسلمين مشروعا ؟؟ إن الشيخ مصرح بأن هؤلاء الذين ينبغي الاستعداد لاضطهادهم وشهر السلاح في وجوههم هم أكثر العالم الإسلامي من أتباع المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية وحتى الحنابلة !! وصرح في بعض نصوصه بالأزهر الشريف وغيره أيضا كما سيأتي.
ومن نتائج هذا التفكير العنيف الواضح في كلام الشيخ الغنيمان وغيره من شيوخ الدعوة النجدية ما قاله لي واحد من خريجي جامعاتهم مرة قال : (لو كان لي جيش أو لواء لقاتلت الأزهريين) فهذا القائل ربما يكون قد حضر محاضرات الشيخ الغنيمان وهو يتحدث عن شهر السلاح ، ومن آثار ذلك ما نشاهده اليوم من التطرف والوحشية في حق المسلمين الموحدين، إذن فقد صحت العلاقة بين الأوقاف والسلاح.

لكن بما أننا تطرقنا إلى هذا الحديث فليس من العدل أن ندع القارئ مشوشا وقد نشبت كلاليب الاستفهام في رأسه من هول ما يقرأ هنا .. فلا مناص من إزالة هذا الإشكال لئلا ندع مجالا لمستدرك فلا بد أن نوضح التالي :

قد يقال ـ دفاعا عن الشيخ ـ  : إن الشيخ الغنيمان قال هذا الكلام قديما قبل 30 سنة، أي سنة 1405هـ، وكلنا يعلم أن المملكة العربية السعودية خاضت خلال العقود الماضية مصائب تشيب لها الرؤوس، وخرجت من تجارب مُرَّة، فقد ابتليت المملكة بفِرَق وطوائف اتخذت من العنف والشدة والتعصب شعارا لها، كإخوان من طاع الله والقطبيين والقاعدة وما تفرع منها، فكَفّروا حكام المسلمين بل وحكام المملكة السعودية أيضا وتعدوا إلى كبار المسؤولين في الدولة بل وكبار العلماء فيها ـ فسقوهم من كأسهم ـ وكالجامية التي حاربت الدعاة المعاصرين بكل ضراوة، وتفرعت منها الحدادية أتباع محمود الحداد المصري، والتي شنت حملة شعواء على تراث الأمة ولم تفرق بين قديم ومعاصر، وكلامهم من جنس كلام الغنيمان السالف ـ حاشا السلاح ـ وتعدى شرهم إلى حرق كتب أهل السنة كشرحَيْ البخاري ومسلم ـ وإن كان الحداد نفسه يبرأ من فعل الحرق خاصة كما سمعته في شريط مسجل ـ واكتشف كبار علماء المملكة أن التشدد والطرح المتعصب قد انقلب عليهم شرا ووبالا، فبدؤوا في محاولة متواضعة لتصحيح المسار شيئا ما، فصاروا يحذرون من التكفير والغلو ..
وقد كان حدثني أحد الزملاء من الأساتذة السعوديين أن المشايخ في السعودية عقدوا المحاضرات في إثر حادثة حرق شروح كتب السنة لأن مؤلفيها من الأشاعرة ـ مستدركين على أنفسهم ما لقنوه لطلابهم ـ وفي إحدى هذه المحاضرات ( قال الشيخ ابن عثيمين : إن 80% من العالم الإسلامي أشاعرة) قال الأستاذ : فرد عليه الشيخ ابن باز وكان بجواره قائلا : (90% يا شيخ محمد) هذا أو نحوه أوقريبا منه. 

فقد يقال بأن الغنيمان عندما كتب ما كتب كان ذلك قبل ثلاثين سنة والمملكة تشتعل تعصبا، ودخان التكفير في كل مكان، وسخام التبديع يملأ الأجواء تعكيرا، فلم يسع الغنيمان حينئذ إلا السير مع القافلة ومسايرة سوق العرض والطلب .. عندئذ فتش الغنيمان شراح صحيح البخاري فوجد ـ على حد تعبيره ـ أن ((غالب من قام بشرحه، على المذهب الأشعري، ولا سيما الشروح المتداولة اليوم)) !! فألف شرح كتاب التوحيد ذاك الوقت، وفيه قال ما قال عن شهر السلاح.

ولكن بعد ظهور الفتن ورجوع كثير من المشايخ هناك عن نبرة الغلو الشديد إلى الغلو المتوسط رجع معهم الغنيمان فيمن رجع إلى غلو متوسط، ولهذا تراه في كتابه "ثبات العقيدة" الذي ألفه سنة 1412هـ  يقول كلامه السالف دون ذكر السلاح :




  ومن آثار هذا التراجع ما تراه من الفرق في طرحه لمسألة القوانين الوضعية بين ما كان أفتى به سابقا مما يَسْهُلُ فهم التكفير من ثناياه وبين توضيحه الأخير الموافق لكلام جمهور العلماء، ومن آثار ذلك أيضا توقيعه على فتوى كتبها الدكتور عبد العزيز القارئ سنة 1427هـ  يفهم من ظاهرها جواز التعاون مع أهل السنة ـ الأشاعرة ـ في الأمور العامة وأنهم من أهل السنة في الجملة وليسوا من الفرق الضالة :



قد يقال كل هذا الكلام في الدفاع عن الشيخ الغنيمان وأن مرحلة السلاح والعنف وتبديع أهل السنة مرحلة مضت ولا أثر لها الآن فلا يصح الربط بين الأوقاف وشهر السلاح تعويلا على كلام قديم للغنيمان، بدليل شن الغلاة جدا من الجامية والحدادية على الغنيمان هجوما شرسا وصفوه فيه بأوصاف قاسية، وما ذلك إلا لظهور نوع من اللين والتراجع من الغلو الشديد إلى الغلو المتوسط لدى الشيخ الغنيمان حتى وصفه الغلاة جدا بأنه سروري وتكفيري :




وبدليل أن الجامية الحدادية ينقمون الآن على الشيخ مسألة التعاون مع أهل السنة كما نشروه بأنفسهم هذا العام :

فنقول جوابا عن هذا الدفاع :

أولا : الدفاع عن الشيخ بأنه لا يبدع أهل السنة مردود،  لأن الشيخ الغنيمان بعد أن وَقَّعَ على تلك الفتوى التي يُفهم منها أن الأشاعرة من أهل السنة عاد ناكصا مصرحا بأن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة والجماعة، كما تراه في كلامه من موقعه سنة 1431هـ  :

ثانيا : ما يقوله عنه الجامية والحدادية قد ينفيه الشيخ الغنيمان أيضا في أي وقت ببيان توضيحي كما نفى الاعتراف بأهل السنة والجماعة أتباع المذاهب الأربعة في موقعه.

ثالثا : لم نقف على أي تصريح واضح من الشيخ الغنيمان حتى الآن يقر فيه بأن أتباع المذاهب الأربعة في العالم الإسلامي اليوم هم أهل السنة والجماعة، ولم نقف له على أي اعتذار أو تراجع عما كان قاله في كتبه من التحريض على أهل السنة واستعداء طلابه عليهم ولو بشهر السلاح .. كل هذا لم يحصل من الغنيمان، فالدفاع المتقدم لا يلزمنا ولا نقِرُّ به.

النتيجة :

أن العلاقة بين الأوقاف والسلاح في مثالنا الثالث هذا صحيحة أيضا.

الخاتمة :

إننا نعتقد أن دعوة الأوقاف (السنية) للشيخ الغنيمان تجيء ضمن خطط مقاومة عقيدة جمهور الأمة الإسلامية من أتباع المذاهب الأربعة، أو على حد تعبير الغنيمان : (مقاومة هذه التيارات الجارفة، على حسب ما تقتضيه الحال، من مناظرات، أو بالتأليف، وبيان الحق بالبراهين العقلية والنقلية، وقد يصل الأمر أحياناً إلى شهر السلاح).

إن كلمة (أهل السنة) بالنسبة للأوقاف لا تعني أتباع المذاهب الأربعة السنية التي تشكل جمهور الأمة الإسلامية، وتُدَرَّسُ عقائدهم في الأزهر والقرويين والزيتونة وديوبند وغيرها من الجامعات الإسلامية الكبرى الأصيلة، بل أهل السنة عندهم مفهومة بالمعنى الذي يقصده الشيخ الغنيمان كما بيناه والمنحصر في فكر الدعوة النجدية، وأما وصف الأوقاف بالسنية فصحيح باعتبار الواقفين من الأجداد من أهل السنة من المالكية والشافعية الذين بذلوا أموالهم في سبيل الله، فالأموال أموال أهل السنة صحيح، لا بمعنى أن الإدارة الحالية تعترف بصحة عقائدهم أو بعقيدة جمهور الأمة من أتباع المذاهب الأربعة كما تثبته نشاطاتهم المتكررة.




إننا نبعث من خلال مقالنا هذا برسالة إلى كل أب وأم من أهل السنة المالكية أو الشافعية في البحرين مفادها أن عقائد ومذاهب الأمة الإسلامية الأصيلة قد أصبحت عرضة للمقاومة والتحريف والتغيير والتبديل لمصالح طائفية أو سياسية أو مالية أو غيرها .. وأصبح حفظها نقية صافية غير مضمون من خلال المؤسسات الرسمية ـ كالأوقاف ـ فهي إذن دين في أعناقكم، وأمانة تؤدونها سالمة لأولادكم، ذلكم حتى لا تجتاحهم الأفكار الهدامة والتطرف بكل أنواعه وأشكاله، وما بلاد الشام والرافدين ومن قضى من أبنائنا هناك عنكم ببعيد، اللهم إني قد بلغت فاشهد، والسلام عليكم ورحمة الله.


الخميس، 14 أغسطس 2014

التَّحِيَّة لمفتي الدِّيَار المِصْرِيَّة

التَّحِيَّة لمفتي الدِّيَار المِصْرِيَّة



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي رفع منار العلم، وخفض راية الجهل، وأبقى بين ظهراني المسلمين أئمة ذوي رسوخ في العلم وعزائم، يصدعون بالحق لا يخافون لومة لائم .. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول رب العالمين، وإمام المسلمين، القائل : "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وعلى آله سفينة النجاة وحبل العلم الممدود، وأصحابه حصن الدين المنيع المشدود  ..

وبعد ..

فمذ أُعْلِن عن إحالة أوراق مئات من المسلمين في مصر إلى العلامة مفتي الديار المصرية وأنا وَجِل من أن يصادق الشيخ على هذه الإعدامات ..

مفتي الديار المصرية شوقي علام

لقد بذلت كل جهدي لمحاولة التعرف على الحكم الشرعي لهذه المسألة مِنْ قَبْلُ عندما وقعت عندنا في البحرين، فحررتها تحريرا في مقالي :


وبينت فيه أن المطالبة بالإعدام والقتل مصادمة لما هو مقرر في الفقه الإسلامي بمذاهبه المعتبرة، ونقلت النصوص في ذلك، وبينت أن المسألة تُسْتفاد أحكامُها من باب البَغْي من كتب الفقه الإسلامي، لا من باب الحرابة ولا الردة ولا غيرهما، وأن إخراج هذه المسألة من بابها الأصل إلى غيره جنوحٌ عن الصواب وإبعادٌ للنُّجْعة، وأن تطبيق ما يسمى بالخيانة العظمى في هذه المسألة تشديدٌ وقسوةٌ مرجعُه القوانين الوضعية المصادمة للشريعة الإسلامية السمحة.

وعندما وقع مثل ذلك في مصر وثار من ثار على الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وصار في الأسر طالب كثير من الناس بإعدامه ومن معه ! وهذا أيضا جهل بحكم هذه المسألة، لأنه هو الحاكم المَبْغِيُّ عليه المنزوع من سلطانه، فلو دَفَعَ هو من خرج عليه لكان له ذلك بشروطه فكيف يتحول بعد ذلك إلى محكوم بالإعدام؟!



ولو ساغ مثل هذا الخبط من العامة والدهماء فكيف يسوغ ممن آل إليهم الأمر من محبي الشريعة ومناصريها المنادين بتطبيق أحكامها ورافعي شعار الحلول الإسلامية ؟! إن هذا لعجيب.

فلما صار الأمر إلى الإخوان المسلمين واستقر لهم الأمر لم يكن الخروج عليهم جائزا كذلك ـ وإن كانوا بغاة في الأصل لاشتراكهم في نزع الحاكم الأسبق ـ ولكن الناس أعادت الكرة ولم تصبر عليهم، فخرجوا عليهم ونزعوهم من الحكم، فاجتمع في الإخوان وصف البغاة ـ باعتبار ما كان منهم سابقا ـ ووصف المَبْغِيِّ عليهم ـ باعتبار ما آل إليه الأمر ـ فَدُفِعُوا دفعا قُتِل فيه من قتل منهم حتى استقر الأمر الآن لهذا السلطان الجديد.

ووُضِع الإخوان في السجون وحُكِمَ بالقوانين الوضعية على كثير منهم بالإعدام مرة أخرى !

إن هؤلاء في أسوأ أحوالهم ـ حتى أولئك الذين باشروا القتال ـ لا يزيدون عن أن يكونوا بغاة تجري عليهم أحكام باب البغي، وليس فيه إعدام ولا تضمين على تفصيل ذكرناه، وإنما هي فتنة يجب على المسلمين وأدها والإياب منها إلى الصلح والصواب، فمن أين يأتي الإعدام لولا القوانين الوضعية المخالفة للشريعة السماوية؟؟!!

فلما أحيلت أوراق المئات منهم إلى مفتي الديار المصرية كنت وَجِلا من أن يصادق المفتي على قرار الإعدام، لأننا نحن المشتغلين بالعلم نعلم أن هذه المصادقة حينئذ لن تكون إلا نزولا لرأي شاذ أو قانون وضعي ـ وما أكثر مفتي الأقوال الشاذة ـ أو خضوعا لضغوطات سلطوية، وهذا فيه ما فيه مما يمس الشريعة والأزهر والإفتاء، وفكرت في مكاتبة العلامة المفتي ببحث المسألة لشدة وضوحها لديَّ غيرة على أحكام الشريعة أولا وغيرة على الأزهر والإفتاء الشامخ ثانيا، ثم إني عدلت عن ذلك، وقلت : من أنا حتى أكتب إلى مفت وحوله مفتون يحررون المسألة؟ ولئن كان الإفتاء هناك خاضعا لأي ضغوط فما عساه يستفيد مما أكتبه؟ فالله يؤيدهم ويمدهم بالصواب، وصرنا نترقب ما يتمخض عن دار الإفتاء.


ولكن ولله الحمد لم يخيب الإفتاء الشامخ رجاءنا، ورفض الشيخ العلامة المصادقة على هذا الحكم المصادم للشريعة الإسلامية، وكرر رفضه حتى وجدت نفسي مدفوعا إلى تسجيل التحية لمفتي الديار المصرية.