الاثنين، 5 ديسمبر 2022

إضافة في ترجمة التاجر سلطان بن محمد المناعي


 


الحمد لله واجب الوجود، ذي الكرم والجود، واللطف المعهود، لا إله إلا هو الواحد المعبود، والصلاة والسلام على مهبط الوحي ومشكاة الأنوار، خير من أظله الليل والنهار، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الأخيار الأطهار.

 

وبعد ..

 

هذا المناعي هو سلطان بن محمد بن علي التميمي المناعي نسبا، البحراني مولدا، المنتقل إلى بومبي في الهند، وتاجر اللؤلؤ، الجواد الكريم، المتوفى في الهند سنة 1327هـ ([1]).

 

وإلى هذا الوقت لا يعدو سلطان أن يكون تاجر لؤلؤ خبيرا في صنعته جوادا كريما، لكن مرادنا من هذا المقال إثبات أن سلطان كان – فوق ما وصفنا – عالما من علماء الإسلام، ولتحقيق هذا الغرض نستعرض ما وقفنا عليه من أعمال سلطان على ترتيب السنين مع الشرح والإيضاح عند الحاجة.

 

(سنة 1304هـ)

 

في هذه السنة ظهر أشهر آثار سلطان وأهمها، وهو تأليفه كتاب (مرج البحرين) في أوزان اللؤلؤ - أول كتاب أُلِّف في بابه - ثم نسج الناس على منواله، طبع في الهند في السنة المذكورة، فكان سبب شهرته وظهور أمره ومعرفته.

وكتابه هذا دالٌّ على مهارته في صنعته وخبرته في تجارته.

 

(سنة 1305هـ)

 

فيها طبع سلطان - من نفقته - كتاب (قرة العيون المبصرة بتلخيص كتاب التبصرة) والتبصرة كتاب في الوعظ والتزهيد ألفه الإمام أبو الفَرَج ابن الجوزي الحنبلي([2]) واختصره العلامة أبو بكر بن محمد بن عمر الملا الحنفي المتوفى سنة 1270هـ، فقام سلطان بطباعة هذا المختصر في بومبي في السنة المذكورة، وقدمه وقرظه – مشيدا بكرم سلطان - العلامة الأديب أبو بكر بن عبد الرحمن ابن شهاب العلوي الحضرمي.

وفي هذا العمل دلالة على جود سلطان وإحسانه، ومساهمته في نشر العلوم الدينية النافعة، وفيه كذلك حسن ظنه بالعلامة أبي بكر الملا مختصر الكتاب، وآل الملا لهم شهرة علمية واسعة ولا أشك أن سلطان قد اتصل ببعضهم، وفيه صلته ببعض السادة العلويين الحضرميين الذين منهم مقرظ الكتاب الأديب السيد أبو بكر ابن شهاب العلوي.

 

(سنة 1310هـ)

 

فيها طبع سلطان من ماله (أرجوزة في العقيدة) من نظم الشيخ إسحق بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب – ابن حفيد صاحب الدعوة النجدية – وكان الشيخ إسحق دخل الهند سنة 1309هـ بنية لقاء علماء الحديث والأخذ عنهم، فنظم في هذه المدة قصيدته التي ينتصر فيها لمذهبه، وتَعَرَّف عليه في هذه المدة عبد الله بن أحمد المناعي - صهر سلطان – وبواسطة عبد الله هذا وصلت الأرجوزة إلى سلطان الذي قام بطبعها في هذه السنة، ونلاحظ في خاتمة هذه الطبعة كلمة لا ريب أنها كتبت بعلم واطلاع المؤلف الشيخ إسحق جاء في هذه الخاتمة ما نصه :

(( .. وقد تصدى لمباشرة طبعها وتصحيحها من انتهى في الحفظ إلى غاية، واعتنى بمراعاة اللفظ أتم عناية، حميد المساعي، المجاهد في إشاعة الدين والساعي، الشيخ سلطان بن محمد المناعي التميمي والحنبلي ..))

 

وهذه العبارة يستنبط منها فوائد:

 

الأولى : أن سلطان لم يقم بطبع هذه الأرجوزة من ماله وحسب، بل قام بتصحيحها وتقويم ألفاظها، وهذه المهمة لا يتصور أن يقوم بها في العادة إلا مطلع على مبادئ قواعد اللغة العربية على أقل تقدير.

 

الثانية : وصفه بأنه انتهى في الحفظ إلى غاية ! وهذا إما أراد به الأمانة في النقل، أو أراد به سعة محفوظاته، وأي الأمرين أراد إسحق فهي من علامات أهل العلم لا العوام، لأن العامي لا يتأتى منه أمانة النقل عادة لعدم علمه بحقيقة المنقول، كما لا يوصف بالحفظ إلى غاية إلا من له محفوظ كثير ولا يخلو عادة من متعلق شرعي.

 

الثالثة : وصفه بـالمجاهد في إشاعة الدين وهذه العبارة قد تحمل على السعي بالمال ونشر الكتب في إشاعة ونصرة الدين - وذلك لا يشترط له العلم بالشريعة - وقد تحمل على الدعوة باللسان وهي الاحتمال الثاني وهذا يتطلب مقدمات علمية، أو تدل على الأمرين معا – وهو ما ستراه - وسواء كان الشيخ إسحق يقصد بالدين التعاليم الإسلامية عامة، أو يقصد التعاليم الوهابية خاصة فهذا وذاك يتطلبان مقدمات علمية ترجح أن سلطان كان في رتبة شيخ علم.

 

الرابعة : وصفه بـ (الشيخ) وهذه إنما تطلق عادة على صنفين من الناس : الصنف الأول الحكام، والصنف الثاني العلماء، هذا هو عرف شرق الجزيرة العربية الذين منهم الواصف والموصوف هنا، وسلطان ليس من بيت حُكْم وإمرة فلم يبق إلا المشيخة الدينية – وهو ما ستراه واضحا - وقد انتبه موقع المنانعة almannai.net لكلمة (الشيخ) تلك فقال الكاتب هناك : ((وهي تعني كبر المقام العلمي، وكبر السن)) ولا أظن لكبر السن مدخلا هنا، ولا أراه يعني إلا المشيخة العلمية الدينية كما قال وهو ما سيتضح قريبا.

 

الخامسة : وصفه بـ (الحنبلي) وهذا الوصف إما يراد به المذهب الفقهي أو المذهب الاعتقادي أو هما معا، والمنانعة في الأصل مالكية شأن أغلب ساحل الخليج العربي ثم تشفع بعضهم بسبب الهجرات من شرق الجزيرة العربية إلى بر فارس، ثم تحنبل جماعة منهم لا سيما منانعة قطر مع امتداد الدعوة النجدية إلى ساحل الخليج العربي، فيحتمل أن وصف الحنبلية هنا أضفاه إسحق على سلطان يقصد به أنه صار محبا ومعتقدا لأفكار الدعوة النجدية – وإن كان مالكي الفقه - والتي يفضل كثير من أتباعها لقب (الحنبلي) نفرة من اللقب الآخر (الوهابية) الذي عرفوا به، ويحتمل أن سلطان درس الفقه الحنبلي فعلا على بعض الحنابلة الواردين على المنطقة الشرقية قبل استقراره في الهند، ولا أستطيع الآن ترجيح شيء، وأي الأمرين قد كان ففيه إشارة إلى حصيلة علمية تصحح هذه النسبة.

 

(سنة 1311هـ)

 

في هذه السنة كان الشيخ سلطان في البحرين، وكتب بخطه الواضح الجيد عقد بيع بين رجلين على لسان البائع السيد محمد بن السيد حسين الحبشي، فطالع معي نص ما كتب :

 

((بسم الله الرحمن الرحيم

أقول وأنا الفقير إلى الله سبحانه الغني السيد محمد بن السيد حسين الحبشي، بأني قد بعت بيتي على الرجل محمد بن أحمد بن هجرس وأنا في حال الصحة - العقل والبدن - بيعاً صحيحاً شرعياً مُشتملاً على الإيجاب والقبول، الكائن هو في بلدة البحرين في جزيرة المحرق الذي في محلة الزياينة، الآيل إليَّ إرثاً من أبي السيد حسين بحدوده وحقوقه وما اشتمل عليه من أرض وبناء وأبواب وأخشاب ودور وجدران والمجلس والحوطة وما هو داخل فيه وخارج عنه متصل به معدود منه ومنسوب إليه من قديم الدهر وحديثه، بثمن قدره وعدده ألف ومايتين ربية سكة، وقد قبضت الثمن المذكور من الرجل محمد بن أحمد بن هجرس، وقد أذنت له بالقبض والتصرف فيه، وإن ظهر عليه استحقاق - بأي صورة كان ذلك الاستحقاق - فأنا المسئول عن دفعه وتبرية البيت المذكور من سائر الاستحقاقات وتسليمه إلى المشتري، وحد البيت من الشرق بيت مساعد بن أحمد الزياني، ومن الشمال بيت خليفة العيوني، ومن الغرب بيت قاسم المطوع، ومن الجنوب السكة، والله على ما نقول شاهداً ووكيل([3])، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

حرر في 3 ربيع الآخر سنة 1311هـ

كتبه وشهد به فقير عون الله سلطان بن محمد المناعي الختم)) اهـ

 


خط الشيخ سلطان المناعي وختمه


نص كهذا لا يستطيع كتابته كثير من الشيوخ فضلا عن عامي، وهذا دليل ظاهر واضح الآن أن الشيخ سلطان قد تلقى علما لغويا وشرعيا هيأه لمثل هذا الإنشاء الجيد لعقد مبايعة، زد على ذلك أن هذا العقد الذي كتبه الشيخ سلطان ختمه ووقع عليه الحاكم والقاضي الشرعي.

 

(سنة 1312هـ)

 

في هذا التاريخ زار مدينة بومبي العلامة الجليل عمر بن أحمد بافقيه الحضرمي الشحري المتوفى سنة 1357هـ وقد تحدث في كتابه (صلة الأخيار) عن رحلته هذه، وتعرض لذكر شيخ من بيت الجيتكر([4]) - أحد أشهر البيوت العلمية في مدينة بومبي - هذا الشيخ هو العلامة الأديب الطبيب أحمد بن عبد القادر الجيتكر الكوكني الشافعي المترجم في أعلام الهند([5]).

 

يقول عنه عمر بافقيه :

((.. من أكابر العلماء، وله الباع الطويل في علم الطب، ولكنه كما قيل "طبيب يداوي الناس وهو عليل" لأنه أُقْعِد فلم يستطع حركة إلا بمحرك، وكان يصحب بعض أهل الشرق، وهو من علمائهم، يسمى ذلك العالم سلطان المناعي، فبصحبة هذا الشخص دخل معه بعض توهيب))

 

أثبت لنا العلامة عمر بافقيه في هذه السطور أن الشيخ سلطان المناعي لم يكن عالما في الدين فحسب، بل كان على درجة علمية تؤهله لمناظرة العلماء وإقناعهم بحيث اقتنع ببعض آرائه علامة أديب من طراز أحمد بن عبد القادر الجيتكر، وبسبب مناظرة سلطان له جاءه الاقتناع ببعض التوهيب – يعني الأفكار الوهابية - وهذا النص يثبت لنا بكل وضوح أن سلطان المناعي كان عالما من علماء الدين على المشرب الوهابي داعية إلى مذهبهم خبيرا به مقتدرا على المناظرة فيه والمنافحة عنه.

 

قال عمر بافقيه:

((ثم في بعض الأيام حضر سلطان المناعي في بيت بعض الأحباب قراءة المولد النبوي .. ثم بعد ختم المولد قدم صاحب البيت الأكل، فأكلنا جميعا، وبعد الأكل انبسط سلطان المناعي مع الأخ محمد بن طاهر فإذا هو في حالة أخرى كأنه خرج من قلبه ما يعتقده من التوهيب))

 

أما محمد بن طاهر المذكور فهو محمد بن طاهر بن عمر بن أبي بكر الحداد العلوي الحسيني، أحد كبار علماء ذلك العصر وأوليائه المعتقدين([6]).

 

ولكن ما الذي دفع سلطان المناعي وهو عالم من علماء الوهابية لحضور المولد وهو عندهم في أحسن أحواله بدعة محرمة ؟ إن أرجوزة إسحق التي يعرفها سلطان جيدا تُصَنِّف ابنَ طاهر في زمرة المشركين أو المبتدعين في أحسن الأحوال، فكيف يحضر مجلسه؟! لا أظنه فوجئ  بشيء لم يتوقعه، فهل ترخص سلطان طمعا في إقناع جماعة ابن طاهر كما أقنع الجيتكر؟ أم كان سلطان وهابيا متسامحا؟ أم كانت لديه هزة فكرية في ذلك الوقت أراد حسمها على يد ابن طاهر؟ أم أن شخصية ابن طاهر الفذة التي شغلت بومبي أحدثت لديه شغفا عظيما لمقابلته واكتشاف صدقه أو كذبه ولو ارتكب موبقة اقتحام المولد؟ الله أعلم ما الجواب الأكيد، والزبدة أن الذي بدا على سلطان بعد مقابلته ابن طاهر وانبساطه معه في الحديث انقلابه – على ذمة عمر بافقيه - إلى "حالة أخرى كأنه خرج من قلبه ما يعتقده من التوهيب"

وليت شعري ما الذي دار بينهما في ذلك المجلس؟! وما الذي شاهده سلطان من ابن طاهر حتى نكص على عقبيه !

 

يواصل عمر بافقيه قائلا :

((ثم راح إلى رفيقه المقعد الشيخ أحمد الجيتكر وقال : إن دواءك وزوال ما بك لا يكون إلا على يد الحبيب محمد بن طاهر الحداد، فطلب الحبيب إلى بيت والده كأنه على ضيافة، فحضر الحبيب، ثم أدخلوه على المُقْعَد، فقرأ عليه ما شاء الله أن يقرأ، وامتدح الحبيب محمد بقصائد طنانة مثبتة في غير هذا الكتاب، فبرئ من أكثر مرضه، ولم يبق معه إلا شيء يسير))

 

أقول الآن لو كان سلطان متورطا في حضور ذلك المجلس مضطرا للمساترة والمداجاة لانسَلَّ منه متلطفا ساكنا ثم يكفر عن ذنبه هذا بطباعة كتاب آخر على غرار أرجوزة إسحق، أما وقد هرول إلى صاحبه أحمد الجيتكر – على ذمة بافقيه - يبشره بالشفاء على يد الولي الصالح ابن طاهر الحداد لتتفجر قريحة الجيتكر – بعد شفائه - عيونا من الشعر في ابن طاهر ! فلا أظن سلطان يفعل ذلك وفي رأسه بقية من أرجوزة إسحق وحنبليته.

 

وهذا آخر العهد بأخبار سلطان المناعي، ولم أقف على شيء حتى الآن من أخباره بعد هذا التاريخ، وما ذكرناه كاف لإثبات أن سلطان لم يكن تاجر لؤلؤ وحسب بل كان عالما، بل داعية إلى الدين، بل مناظرا صادقا في اختياره ورأيه، ينبغي أن يستدرك في علماء وأدباء البحرين إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.



([1]) ـ جمعت بعض المعلومات عنه مما كُتب في موقع المنانعة: (almannai.net) وما دونه الأستاذ بشار الحادي ومن مصادر أخرى ثم زدت عليها ما وقفت عليه.

([2]) ـ كان الشيخ قاسم بن مهزع رحمه الله تعالى يوصي بهذا الكتاب يقرأ على الناس وطلبة العلم.

([3]) ـ الخلل النحوي هنا واضح، ومثله في كتابات مشايخ ذلك العهد لاسيما في الخليج كثير.

([4]) ـ وتكتب أيضا جيولكر، ومن أشهرهم العالم الشيخ عبد القادر، وولداه أحمد وعبد الله، وكلهم علماء أدباء شعراء.

([5]) ـ الشيخ الفاضل العلامة أحمد بن عبد القادر الجيتكر الشافعي الكوكني، نسبة إلى كوكن، على ما قيل طائفة من قريش خرجت من المدينة المنورة في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي خوفاً منه، فوصلت ساحل بحر الهند .. المتوفى سنة 1320هـ، ترجمته بتمامها في "نزهة الخواطر" لعبد الحي بن فخر الدين الندوي.

([6]) ـ وقد تقدم ذكره في المقالة السابقة "الخلق اليماني والصلف البحراني" وعمر بافقيه راوي القصة خاله – أخو أمه – وصاحبه وتلميذه في نفس الوقت، وقد أشاد به وعظمه كثيرا فلا يغرنك قوله هنا (الأخ محمد) .