الأربعاء، 30 مارس 2016

براءة السيد عبد الجليل الطباطبائي الشافعي وجمهور أهل السنة من تكفير الشيعة (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

تقدم تمهيد هذا الموضوع والتعريف بالمؤلف رحمه الله في الجزء الأول من مقالنا هذا :

ونعرج الآن على القسم الثاني المختص بكتابه القول الحسن وما يتعلق به ..

القسم الثاني : (تحقيق كتاب القول الحسن)

المعلوم عندنا أن للكتاب مخطوطا وحيدا محفوظا في متحف البحرين الوطني .. وهو بخط تلميذ المؤلف الشيخ محمد بن سعد بن علي بن حمود المتوفى سنة 1307هـ  والذي ولي إمامة مسجد السيد عبد الجليل من بعده بأمره وتوليته وكان شافعيا كشيخه، وتوارثه أبناؤه فأحفاده الذين صاروا مالكية وتولوا مناصب القضاء، وقد ترجمنا له في مقدمة القول الحسن .. ولما علم الدكتور محمد بن عبد الرزاق الطباطبائي عميد كلية الشريعة بالكويت حفيد المؤلف بشأن هذا المخطوط أخذ صورة منه، فقدم للكتاب بترجمة للمؤلف وعلق على مواضع من الكتاب وقدمه لمجلة كلية الشريعة والقانون فرع الأزهر بالدقهلية العدد الثالث ـ الجزء الأول ـ سنة 1424هـ  = 2003م فنشر فيها لأول مرة ..





ولما اطلعْتُ على هذه الرسالة الصغيرة اقترحت على بيت البحرين للدراسات والتوثيق طبع كتاب السيد عبد الجليل هذا في البحرين كما طبع ديوانه الخل والخليل من قبل ـ بتحقيق الشيخ ياسين الشريف مدير المدرسة الدينية الأسبق رحمه الله ـ على نفقه الأمير الراحل عيسى بن سلمان آل خليفة، لأن المؤلف من أعلام البحرين في القرن الثالث عشر وهو أديب وفقيه شافعي، والعناية بتراثه تصب في اهتمامات بيت البحرين .. ولما استحضرنا صورة المخطوط وجدنا في نص الكتاب مواطن قد تستشكل وتستغل من المتعصبين من الجهتين،  فاقترح بعض الأعضاء حذف المواطن المشكلة، واقترح بعض آخر أن تترك كما هي ويعلق عليها، وقد أيدت هذا الرأي الأخير لأن الحذف ضرب من التزوير، ولأن المواطن المشكلة إنما صارت كذلك بسبب اللعب بالمصطلحات في مجتمعنا وتفشي التعصب والجهل، فلا شك أن إزالة الجهل والتعصب بالبيان العلمي الصحيح أولى من تركه معول هدم، وأن طبع الكتاب وتوضيح المواطن المستشكلة بما يزيل إشكالها ويبرز اتحاد كلمة المسلمين لا سيما الطائفتين بصددها أنفع للفريقين معا من بقائهم جاهلين بالمصطلحات العلمية الصحيحة بحيث يستغل دعاة الفتنة ذلكم الجهل للعبث بعقولهم وقلوبهم وإذكاء الفتنة بينهم، فكان طبع الكتاب مع تحشيته بما يزيل الإشكال أولى لدينا، وعلى هذا الأساس عملتُ على إعادة تحقيق الكتاب .. ولما كان الدكتور الطباطبائي حفيدَ المؤلف وله السبق في نشر الكتاب فقد تواصلنا معه للاستفادة مما كتبه وأشركناه معنا لأنه البادئ بالتحقيق ثم زدنا على ما كتبه في المقدمة وتقصينا في التعليق لا سيما عند تلك المواطن المستشكلة التي لم تحظ بالاهتمام من قبل.

طبع الكتاب سنة 1428هـ  = 2007م ، وبيع في المكتبات، وكنا نتوقع أن يتناوله بعض الناس بالنقد، وكنا على استعداد لذلك، ولكننا فوجئنا بأن الكتاب لم يجد أي اعتراض أو امتعاض مدة تسع سنين، وها هو يشرف على السنة العاشرة من عمره، أفليس غريبا أن يطبع كتاب ويباع وينشر مدة تسع سنين لا ينتقده أحد ثم يأتي النقد بعد تسع سنين؟! ألا ينبئ ذلك عن شيء وراءه ؟!

جاءت بعد طبعتنا طبعة أخرى سنة 1432هـ :  



لكنها طبعة غير جيدة، إذ نسبت إلى المؤلف ما لا يتفق ومنهجه في الأصول والفروع والسلوك، فجعلته من أنصار الدعوة النجدية ـ وهو ما لا صحة له كما قدمنا ـ وأهملت التعليق على المواطن المشكلة، فلا جرم أن من طالعها من الشيعة ـ وقد تجردت من أي توضيح أو رفع للإشكال أو معالجة حسنة لوجه الله ـ لا جرم أن يمتعض منها، مما سبب الخلط بينها وبين طبعتنا، فاطلع المنزعجون على هذه الطبعة السقيمة، ولكن للأسف عثروا في البحرين على طبعتنا !! كما اضطرب محققها في قراءة المخطوط،هذا إن كان رآه أصلا، فسقط منه عنوان ـ والعناوين كلها في الهامش أصلا ـ وجعل تاريخ النسخ مرة سنة 22 / 1/ 1268هـ  ومرة سنة 33 / 1/ 1338هـ  مع أن التاريخ في المخطوط واضح كل الوضوح!!!

لاحظ تاريخ النسخ الصحيح هنا

وهنا تغير تاريخ النسخ مع أن الناسخ توفي 1307هـ !!

وهذا تاريخ النسخ واضح في المخطوط الوطني


فهذا ما يتعلق بتاريخ نشر كتاب القول الحسن ومخطوطه ومزايا طبعتنا مقارنة بما سبق أو لحق، ليس في ذلك مؤامرة ولا جهة أجنبية ولا مكائد ولا شيء مما قد يوسوس به الخناس، والله الموفق.

الاثنين، 28 مارس 2016

براءة السيد عبد الجليل الطباطبائي الشافعي وجمهور أهل السنة من تكفير الشيعة (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، مولانا الذي لا نبي من بعده، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وجنده ..

وبعد ..

(تمهـــــــــيـــــــــــــــد)

فقد رأيت تقريرا مختصرا نشر في إحدى المجلات الألكترونية ـ التي أنصفتني ذات يوم ـ أسرع باللائمة على الإذن بطبع كتاب : (القول الحسن فيما يستقبح وعما يسن) لمؤلفه العلامة الجليل : السيد عبد الجليل بن السيد ياسين الطباطبائي الحسني الشافعي البصري ثم البحراني ثم الكويتي المتوفى سنة (1270هـ  = 1852م) زاعما ذلكم التقرير أن الكتاب اشتمل على تكفير الشيعة !! علما بأن الكتاب طبع قبل تسع سنين سنة 1428هـ = 2007م !!!


ولما كانت سهام النقد مفوقة إلى المؤلف رحمه الله أصالة، ثم إلى من أجاز طبع الكتاب تبعا ـ وهو صيد يسيل له لعاب السياسة فتنزلق عليه أقدام الشيوخ ـ ولما كان المؤلف قد فارق الحياة الدنيا منذ 167 سنة، وكان من أكابر علماء أهل السنة والجماعة في وقته من السادة الشافعية، أضحى من الواجب المحتم أن ينبري بعض أهل العلم للذب عنه ورد ما فُوِّقَ إليه من سهام النقد، ولما كُنْتُ ـ كاتبَ هذه السطور ـ ممن أسهم في خدمة متن الكتاب وسببا في إخراجه فقد رأيت أن الذب عنه يلزمني، وأيد ذلك أنْ طَلَبه مني غير واحد من المحبين من السنة والشيعة معا، فوافق ذلك رأيي وصادف رغبة قديمة مني في ذلك لما لأصل المسألة ـ اللعب بالمصطلحات العلمية ـ من الخطر العظيم، وخشية أن يجترها أهل السياسة إلى ناديهم غافلين عن خطر العبث بها، وما قد يترتب على جر فتيلها من سهولة إذكاء الفتنة بين المسلمين عوضا عن إخمادها وإطفائها، فهذه المقالة المختصرة تجيء لتصحيح ذلك كله، وقد قسمتها ثلاثة أقسام :

الأول : في التعريف بالمؤلف والتنويه بشأنه ورد ما نسب إليه جهلا أو عمدا مما هو بريء منه.
الثاني : في التعريف بكتابه القول الحسن ـ محل النقد ـ ومخطوطته، والباعث على طباعته وما امتاز به تحقيقنا على غيره.
الثالث : بيان العبارة التي أشكلت على بعض الناقدين وتصويب المؤلف في عبارته وأنها محل إجماع من المسلمين، مع بيان خطر اللعب بالمصطلحات العلمية، والتلاعب بها من أهل السياسة أو غير العلماء.

القسم الأول : (التعريف بالمؤلف)

قد ترجمت للمؤلف في مقدمة (القول الحسن) ونوجز هنا ترجمته فنقول : هو السيد الشريف عبد الجليل بن السيد ياسين الطباطبائي الحسني نسبا من جهة الآباء والحسيني من جهة الأمهات، العراقي البصري أصلا ونشأة، الشافعي مذهبا، الصوفي الرفاعي طريقة ومسلكا .. الأديب الشاعر الناثر .. والرحالة التاجر .. هاجر إلى الزبارة لما ابتليت العراق بالطاعون وغيره .. ثم استقر في البحرين وقضى فيها زهرة شبابه .. وفيها عرفه الناس فعظموه، وقربه آل خليفة فقدموه ورفعوا منزلته .. وأنابوه سفيرا عنهم لمفاوضة الإنجليز في بعض الأحيان .. وفي البحرين بنى السيد عبد الجليل مسجده الشهير في رأس الرمان والذي يعرف الآن باسمه وهو الذي وضعنا صورته على غلاف كتاب (القول الحسن) .. وهناك مسجد آخر في المحرق يحمل اسمه أيضا وصورته على الغلاف الثاني .. ولما أن قدر الله تعالى أن تنشب في البحرين حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس عز عليه أن يرى مصارع أبناء العمومة فاستأذن للهجرة منها فأذنوا له بعد ممانعة فنزل الكويت وبث فيها علومه، وفيها كانت وفاته، وفيها نشأ أبناؤه كالعلامة السيد أحمد والعلامة السيد عبد الوهاب .. ومن نسلهما اليوم في الكويت حفدة كثر .. منهم عميد كلية الشريعة الإسلامية الدكتور محمد بن عبد الرزاق الطباطبائي الذي سبقني إلى إخراج كتاب القول الحسن.

وللسيد عبد الجليل ديوان مشهور هو الخل والخليل طبع في بومبي ومصر والبحرين وقطر.
وله رسالة في البدعة والسنة سماها القول الحسن فيما يستقبح وعما يسن، محفوظة في متحف البحرين الوطني بخط تلميذه الشيخ محمد بن سعد جد أسرة آل سعد وهي التي قمنا بتحقيقها والتي ورد فيها ما هو سبب هذه المقالة.

وقد ظلم هذا العلامة النسيب والفقيه الشافعي الأريب غير مرة وأشهرها الآن في ذهني ثلاث مرات :

الأولى : عندما نُشِرت عنه مقالات تنسبه إلى اعتناق الدعوة النجدية استنادا إلى قصيدة في ديوانه مدح بها إمام الدعوة النجدية .. ولكن بمطالعة ديوانه المجموع بعناية ابنه نجده قدم لهذه القصيدة بتصريح وضح فيه أنه أنشأها مكرها لما هدده أمير الحملة النجدية على الزبارة والبحرين إذ أمره بإصلاح قصيدة فيها سب المشايخ من أهل السنة ورميهم بالعظائم، فأنف من ذلك وأنشأ له قصيدته هذه ليأمن من بأسه، ولم يقصد بها السيد مدح إمام الدعوة النجدية في حقيقة الأمر، ناهيك عما في ديوانه من التوسلات بالنبي والآل والأصحاب وما في مصنفاته مما يعلم منه أنه على طريقة جمهور أهل السنة والجماعة أصولا وفروعا وسلوكا، فهذه المظلمة الأولى.

والثانية : عندما جددت الأوقاف السنية مسجده القديم في رأس الرمان، وأثبتت اسمه في لوحة المسجد لأول مرة وفاء وعرفانا لإحسانه، فاستنكره بعض الناس، ولا علم لهم بالسيد عبد الجليل لطول العهد، والتبس عليهم الأمر، وأشيع يومها أن الشيعة استولوا على المسجد ووضعوا عليه اسم واحد منهم في غفلة أو تواطؤ من الأوقاف ـ مع أن شيئا من ذلك لم يكن ـ حتى وصل الأمر إلى الجرائد مما اضطرنا إلى كتابة أكثر من مقال ينوه بشأن السيد ويعرف به وبمسجده وبوقفيته.

والثالثة : في أيامنا هذه إذ نُسب إلى جنابه الشريف أنه يكفر الشيعة ويستحل قتلهم !! استنتاجا من عبارتين في كتابه (القول الحسن ..) المتقدم الذكر، وفي ذلك ظلم للشيعة أنفسهم قبل أن يكون ظلما للسيد كما سنبينه، فهذه الظلامة الثالثة.


الجمعة، 25 مارس 2016

لماذا غاب الشيخ أحمد بن مهزع عن ذاكرة التاريخ؟


صورة تخيلية للشيخ أحمد بن مهزع

كل قطر من أقطار الأمة العربية والإسلامية ـ لا سيما الأقطار التي ذاقت مرارة الغزو الصليبي في القرن الماضي والذي قبله ـ كلها تحتفظ في ذاكرتها بأسماء سطع نجمها في سماء المقاومة والبطولة والفداء في مقارعة الغازي الصليبي .. فيحدثك المغاربة عن الشيخين الريسوني والخطابي :

الريسوني



الخطابي

 وتنبؤك الجزائر عن البطل الأمير عبد القادر  :

الأمير عبد القادر الجزائري

وتفاخر ليبيا بالشريف السنوسي وعمر المختار :



الشريف أحمد السنوسي




عمر المختار

 وهكذا مرورا بأبطال مصر إلى أن تصل إلى جبال داغستان حيث الأمير شامويل الذي دوخ الروس .. :



الأمير الشيخ شامل الداغستاني

 فما بال البحرين لا تذكر رجلا كان له دور بارز سباق في مقاومة وإفشال خطط الغازي الإنجليزي؟!

سؤال مهم ومحير سألته نفسي ..

مهم لأن الرجل مهم، فهو عالم أزهري مالكي، ومواطن بحراني وَفِيٌّ لوطنه وشعبه وحاكمه، له أثره الكبير في مجال الإصلاح والتعليم والتربية والسياسة والطب ومقاومة التبشير .. وكان إرهاصا لبروز الشخصيات السياسية والقومية اللاحقة أمثال الشيخ عبد الوهاب بن حجي الزياني ..

ومحير لأن رجلا بهذا الوزن كان يجب أن تفاخر به الذاكرة التاريخية للبحرين، وتتناوله أقلام المثقفين بالمدح والثناء اللائق والبحث الموسع .. وإذا كان من المعقول أن تخفى آثاره قبل الاستقلال سنة (23 جمادى الآخرة 1391هـ = 15/8/1971م) لأن الغازي لا يحب ذكر أخباره، فما العذر في اختفاء أخبار هذا العلم الشامخ من وقت الاستقلال إلى أيامنا هذه ؟ هنا تكمن الحيرة، حتى أن المؤرخ النبهاني في تحفته لم يعرج على ذكره قط، ولا المؤرخ التاجر إلا إشارة، وأما الذي ذكره ونوه بشأنه صراحة وهو ناصر الخيري في قلائد النحرين فحظه أن كتابه هذا لم يطبع قط إلا من سنوات قليلة ولم يعلم الناس بأمره من قبل، وعندما كتب الأستاذ مبارك آل خاطر (القاضي الرئيس قاسم بن مهزع) لم يحظ الشيخ أحمد منه إلا بنحو سطرين لا تروي غلة ولا تشفي علة، بل كم اقتبس الشيخ قاسم من شخص أخيه أحمد بعض جوانب الشهرة الغائبة تماما عن ذاكرة التاريخ .. إلى أن أفرجت بريطانيا عن وثائقها السرية لنقرأ فيها بعض أخباره المهمة ونتعرف على دوره البالغ الخطورة.

من هنا ـ من هذه الحيرة وذلكم التساؤل الذي ينتظر جوابات كلها اجتهادية ـ من هنا جاء اهتمامنا بالشيخ أحمد لنجمع عنه كتابا كانت أخباره ووثائقه جذاذات مفرقة في صدور المعمرين وخزائن البلدان المختلفة حتى أضحى لبعض قارئيه بمثابة أثر تاريخي مهم تم الكشف عنه حديثا أو حفرية ثمينة لا تقدر بمال ..


لقد آن للبحرانيين أن يتعرفوا على صفحة مضيئة كانت مطمورة تحت الركام عقودا طويلة، وآن لهم أن يبرزوا هذه الشخصية عرفانا ووفاء لجهودها. 


الثلاثاء، 1 مارس 2016

المقامة الواق واقية





المقامة الواقْ وَاقِيَّة


حدثني شهاب الدين أبو العباس ابن حبيب قال :
كنت برهة خِدْن أبي الحسن العيني المشهور ـ شُرَطِي المرور ـ فصادفته مشتملا هَمَّا، وبالحزن مُعْتَمَّا .. عَيْنُه أضحت بَغْلا شموسا، ولسانه كأنما انعقد على موسى، فاضطرتني قيود الصحبة السالفة، وحبال الأخوة المتعارَفة، أن أواسيَه في مصابه، وأحتمل معه بعض ما به، فأَنَخْتُ عند دراجته رحالي، وأذكرته الأيام الخوالي، فلما اطمأنت إليَّ نَفْسُه ـ وكانت حَرُودا ـ  وعاد إليه نَفَسُهُ ـ وكان شرودا ـ سألته عن سر غروب بَسَمَاته من بعد إشراق، وخمود قَسَماته من بعد اشتعال واحتراق؟
فقال : ما علمك بالوقواقيين؟
فقلت : أولئك قوم يسكنون البروج العالية، والجزائر النائية، لا يمسهم فقر، ولا يلحقهم صقر، لا تحرقهم نيران، ولا يصلهم دخان، ولا يثور عليهم غبار، ولا يعمل فيهم السيف البتار، إذا غضب أحدهم رجف وانتفخ، ثم استوفز فنفخ،  فأرعد وأبرق، فأصاب فأحرق .. لا يردعهم عرف ولا قانون، حاشا سيف المنون.

قال : فهل تحس منهم من أحد ـ هنا ـ أو تسمع لهم ركزا ؟
قلت : لا
قال : فهم حولك وأنت لا تشعر !
قلت : كيف ذلك؟!!!!
قال : تشبهوا بالناس، في الطباع واللباس، فلا تعرفهم بفرق، حتى تعاين البرق، غير أن كبير الوقواقيين ـ وهو أعقلهم ـ قد نهاهم عن النفخ والتفل قبل الإعذار والإنذار، وأمرهم بالحلم والاصطبار.

ثم قال :
رأيت بالأمس ـ عند قهوة المطار ـ سيارات في شكل قطار، تقف في وسط الطريق، وتمنع المرور من الضيق، فترجلت عندها لأسجل المخالفة لأولها، فجاءني رجل طويل، في لباس عربي أصيل، فقال لي : ما تصنع؟
قلت : أسجل المخالفة المرورية، وأقوم بوظيفتي الضرورية.
فقال : يا حمار ! ألا ترى الناس جلوسا في القهوة ـ وهذه سياراتهم ـ فأين منك إنذارهم وتنبيههم؟ أحمار أنت؟
فقلت له ـ وقد تعجبت من جرأته على سبي ـ : أَنِلْنِي رخصتَك.
فقال : لا أنيلك إياها، وائت بضابطك.
فلما جاء ضابطي ومعه جماعة من شُرَط المرور قال له الرجل : إن هذا الحمار فعل وفعل .. وإن هؤلاء الحمير معك يفعلون ويفعلون ..
فلما فرغ الرجل من سبنا، وشبع من شتمنا قال له ضابطي بعد صمت مديد : هات رخصتك بلا مزيد.
فلما أخرج الرجل رخصته ورَمَقَها الضابط، ضرب الأرض بِخُفِّه، وكبر له بِكَفِّه، واعتذر بمولاي وسيدي، ورجع ورا، وسحبني القَهْقَرَي.

فقلت له : ما لك كأنك خشيت على نفسك فوتا، أو عاينت تلفا وموتا؟!!
 فقال : ما قلتَ شيئا فريا، لقد كان وقواقيا !!!

قال أبو الحسن الشرطي :

وأزيدك أني كنت من يومين في حاجز تفتيش وفحص، فمرت سيارة ـ وضابطي يشير إليَّ إشارة عَجْماء، يضرب بكفيه الهواء ـ فظننته يعني أَدْرِك سيارة العجوز لئلا يجوز، فأوقفت سيارته وطلبت رخصته، وقبل أن تنعقد مني الكلمات، باغتتني عصاه بضربات، فتعجبت من جرأته أمام الناس، وتهيأت لمناجزته، وقبض حنجرته، غير أن لطف الله بدا لائحا، إذ أدركني ضابطي صائحا : خله خله .. فخليته، ثم قال لي ضابطي : إنه وقواقي !!

أعلمت يا أبا العباس ما أعانيه من البلاء العظيم، وأقاسيه من الخطر الجسيم؟! وإني لمحتار في أمر قُطَّاع الطريق والإضاءةُ حمراء، أأدَعُهُم فأسلم أم أتبعهم فأندم، فإني لا أضمن أن لا يكون أحدهم وقواقيا مريدا، فيتفل في ثيابي ويحرق إهابي، أو ينفخ في وجهي فيجعله فحمة، أو يذيب جبيني بلا رحمة، فما قولك يا أبا العباس؟

فقلت له : هل من سبيل إلى تمييزهم من بعيد دون اقتراب، ومعرفتهم بلا خلطة أو احتراب؟

فقال : لا سبيل إلى ذلك إلا بفحص الرخص والأوراق، ومعاينة : فلان بن فلان من واق واق، أو تسمع منه لكنة أو رابط، كقوله : (بابا زابط) فحينئذ تعلم أنه وقواقي جبار، وأنك على شفا جرف هار.    

فقلت : إنك لهالك مقبور، إن بقيت في شرط المرور، فاسمع نصيحتي واطلب السلامة، واترك الشرط في غير ندامة، ثم أنشدته :
  
جانب الوقواق واحذر نفخه ** لا تعاند من بنيران تفل

يبصق الوقواق في الوجه فلا ** ينفع الطب إذا الموت نزل