الجمعة، 24 نوفمبر 2017

يوم الزندقة العالمي !



((يوم الزندقة العالمي!))

 في العاشر من المحرم نجى الله تعالى سيدنا موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين من فرعون وبطشه، فأغرق الله سبحانه فرعون ومن معه ونجى موسى ومن معه، فكان أهل الكتاب يصومون هذا اليوم شكرا لله تعالى ثم صامه المسلمون، وقال نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : (نحن أولى بموسى منهم) فصام يوم عاشوراء وسن للمسلمين صيامه.

وفي يوم لا يقل عظمة نجى الله سيدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام من الذبح في امتحان صعب فاز فيه خليل الله إبراهيم عليه السلام، وفدى الله إسماعيل بكبش عظيم، فكان ذلك اليوم عيدا للمسلمين ـ عيد الأضحى ـ وكان مع أيام منى بعده أيام فرح وسرور وأكل وشرب إلى اليوم.

ثم أشرقت شمس الرحمة الكبرى، رحمة الله للعالمين وخاتم المرسلين سيد الأنبياء وقائد المرسلين سيدنا المصطفى نبي الهدى صلوات الله وسلامه عليه في 12 من ربيع الأول ـ على القول المشهور ـ في يوم اثنين، فكان يوما عظيما ظهرت فيه آيات عجيبة من آيات الله، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الاثنين فقال لمن سأله : (ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه) انتهى الحديث، وهو في صحيح الإمام مسلم، ومعناه واضح في تعظيم يوم مولده، ولكنه غير صريح فيما إذا كان مثل يوم موسى فيصام فيه، أم مثل يوم إسماعيل فلا يصام فيه بل يفعل فيه من الأكل والسرور والبهجة ما يفعل في العيد فيشبه العيد كيوم الجمعة، فذهب بعض الفقهاء إلى أنه يصام، وذهب أكثر الناس إلى أنه أشبه بيوم إسماعيل ويوم الجمعة فلا يصام بل هو يوم أكل وشرب وسرور وزينة، فيفعل فيه ما يفعل في العيد من التوسعة والسرور وأنواع المبرات، وقد مال جمهور المسلمين شيئا فشيئا إلى هذا القول الثاني حتى كاد ينعقد الإجماع على هذا، وظهر ذلك في الأمة ظهورا بينا في القرن السادس الهجري وما بعده إلى اليوم.

قال الإمام محمد بن عبد الله الخراشي المالكي في شرح مختصر خليل :
((وكره بعضٌ صوم يوم المولد، أي لأنه من أعياد المسلمين))

قال العلامة محمد ابن عرفة الدسوقي المالكي في حاشيته الشهيرة على الشرح الكبير :
والعلامة شهاب الدين أحمد الصاوي المالكي في حاشيته على الشرح الصغير :
((تنبيه : من جملة المكروه - كما قال بعضهم - صوم يوم المولد المحمدي إلحاقا له بالأعياد)) انتهى النقل.

وفي مقابل هاذين القولين القائسين على يومي موسى وإسماعيل ويوم الجمعة، هناك فريق يرى أن الاحتفاء والاحتفال به يفتقر إلى نص خاص مفصل فهو بدعة، ثم من هؤلاء من اقتصد فرآها بدعة مكروهة، ومنهم ـ وهم الأقل ـ من بالغ فذهب إلى أنها بدعة محرمة، وهذا الفريق القائل بالتحريم نسبته ضئيلة جدا، بل تضاءلت حتى كادت تنعدم من الأمة الإسلامية في قرون متطاولة إلى أن ظهرت الحركة النجدية فجددت هذا القول وأحيته ثانية.

هذا ملخص تاريخي وفقهي قصير جدا لمسألة يوم المولد النبوي، فكل علماء الأمة متفقون أنها مسألة فقهية اجتهادية لا مجال للتفسيق فيها والتطاحن والتنابز بالألقاب، وأن مسائل الاجتهاد تورث المجتهد أجرا إن أخطأ أو أجرين إن أصاب، وكلهم متفق أن يوم مولده يوم عظيم، وإنما اختلفوا فيما يفعل في هذا اليوم.

اليوم الذي نحن فيه هو الجمعة السادس من ربيع الأول الموافق 24 من نوفمبر 2017م أي قبل يوم المولد النبوي بنحو ستة أيام، وقد لوحظ أنه تناول عدد من خطباء الجمعة مسألة المولد مختلفين في طريقة تناولها، فمنهم من حام حول الحمى ولم يقع في أصل المسألة، ومنهم من اكتفى بالرمز والتورية واسمعي يا جارة، ومنهم من تحدث عن بدعة نصف شعبان ! واللبيب بالإشارة يفهم، ومنهم من صرح بالبدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وكل هؤلاء لا يعنينا شأنهم إذ من الواضح البين أنهم يمثلون الرأي القائل بتحريم الاحتفال بالمولد ـ الذي أحيته الحركة النجدية بعد أن كاد يموت ـ ولكن نلفت عنايتهم إلى أمرين مهمين جدا قد يكونون في غفلة عنهما: 

الأول : أن تحريم المولد ـ وإن كان قولا اجتهاديا سائغا من الناحية الاجتهادية ـ لا يجوز أن ينطلق من منبر من أوقاف المسلمين القائلين باستحسان المولد، لأن مخالفة واقف الوقف في مذهبه ممنوعة بإجماع الفقهاء، وهذا من باب أكل أموال الناس بالباطل يغفل عنه كثيرون، وقد نبهنا إلى ذلك مرارا. 

الثاني : أن التعريض بالمولد النبوي مع اختيار أولي الأمر الاحتفاء به ليس من الفقه في شيء، والأولى بهم وبإدارتهم الكف عن ذلك بما أن ولي الأمر اختار استحسان الاحتفاء بيوم مولده، وإلا فأي منطق في احتفال وزارة العدل بيوم المولد وفي نفس الوقت تسمح إدارة الأوقاف بتبديع الاحتفال به؟!! 
لكن إلى هنا الأمر كما قلنا لا جديد فيه فقها وتاريخا.

إلا أن الغريب الجديد الموجب للنقد والتحذير هو ما تفوه به الخطيب المكلف من إدارة الأوقاف السنية بمسجد عبد الله بن إبراهيم الخليفة بالرفاع اليوم إذ تعرض للاحتفال بمولد النبي ثم فاه بهذه الحروف :


(( .. هذا ليس بدين، هذه زندقة ..))


وسأشرح لإدارة الأوقاف السنية ـ وللنيابة العامة في البحرين ـ معنى كلمة زندقة التي أطلقها خطيب إدارة الأوقاف على الاحتفال بالمولد النبوي الشريف :

من هو الزنديق؟


قال ابن منظور في لسان العرب :
((الزنديق معروف، وزندقته أنه لا يؤمن بالآخرة ووحدانية الخالق..)) انتهى. 

قال الإمام العبدري المالكي في التاج والإكليل لمختصر خليل ـ من عمد أصحابنا المالكية ـ :
((الزنديق من يظهر الإسلام ويسر الكفر)) انتهى النقل.

وجاء في الإقناع للعلامة الخطيب الشربيني الشافعي ـ من معتبرات كتب السادة الشافعية ـ ما نصه :
((والزنديق من يخفي الكفر ويظهر الإسلام .. أو من لا ينتحل دينا  ..)) انتهى النقل.

ويقول العلامة ابن نجيم من كبار فقهاء السادة الحنفية  في كتابه البحر الرائق :
((الزنديق في ظاهر المذهب هو من لا يتدين بدين وأما من يبطن الكفر والعياذ بالله تعالى ويظهر الإسلام فهو المنافق..)) انتهى النقل.

وفي الشرح الكبير لابن قدامة ـ من كتب السادة الحنابلة ـ جاء ما يلي :
((والزنديق الذي يظهر الاسلام ويستسر الكفر وهو الذي كان يسمى منافقا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ويسمى اليوم زنديقا)) انتهى النقل.


إذن فالزندقة عند فقهاء المذاهب الأربعة لا تخرج عن أحد معنيين :
الأول : النفاق بمعنى التظاهر بالإسلام مع إبطان الكفر.
الثاني : الإلحاد وعدم التدين بأي دين.
ولا تختلف باقي المذاهب الإسلامية عما تقدم.

وكلا المعنيين كما ترى كفر وخروج من الإسلام.
فما معنى أن الاحتفال بالمولد النبوي زندقة؟ معنى هذا أن الاحتفال بالمولد النبوي إما نفاق وتظاهر بالإسلام مع استبطان الكفر، وإما إلحاد وعدم تدين بالإسلام فضلا عن باقي الأديان.

وتعالوا بنا نبني من هذه المقدمات قياسا منطقيا واضحا :
المقدمة الأولى : الاحتفال بالمولد النبوي زندقة
المقدمة الثانية : الزندقة نفاق كفر أو إلحاد
النتيجة : الاحتفال بالمولد النبوي نفاق كفر أو إلحاد !!

إذن فالنتيجة المنطقية أن خطيب إدارة الأوقاف السنية يرمي الاحتفال بالمولد النبوي بالنفاق أو الإلحاد !! والنتيجة الخاصة التي أستخلصها من هذا القياس أن بعض الخطباء الذين تعينهم إدارة الأوقاف إما يجهلون المصطلحات الفقهية وما تحمله من معان ـ وتلك مصيبة ـ وإما يعلمون ما تتضمنه جيدا ـ فالمصيبة أعظم ـ فيتهمون المسلمين المحتفلين بالمولد النبوي بأنهم منافقون أو ملحدون، ويلقنون الناس في المساجد أنهم وآباءهم وأجدادهم المحتفلين بالمولد النبوي كانوا منافقين ملحدين .. وأن ملوك وأمراء الدول الإسلامية ورؤساء الدول العربية والإسلامية حينما يتبادلون التهاني بمناسبة المولد النبوي إنما يتبادلون التهاني بالنفاق والإلحاد، وأن الدول الإسلامية غربا وشرقا إنما تحتفل بالنفاق والإلحاد، وأن حكومات العالم الإسلامي حينما تجعل يوم المولد يوم إجازة رسمية إنما تساعد النفاق والإلحاد .. وأن الصحافة العربية والإسلامية وجميع المؤسسات والجهات الثقافية حينما تهتم بالمولد إنما تنشر النفاق والإلحاد، فقد جعل هذا الخطيب يوم 12 ربيع الأول يوم زندقة عالميا لا يوم احتفاء وذكرى بيوم من أيام الله بيوم مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، فالتذكير  بالأنبياء والمرسلين كالاحتفال بهتلر ولينين واستالين سواء بسواء كلاهما كفر وزندقة!!

فكيف يستغرب ـ في حال استجلاب خطباء من هذا النوع وتأييدهم ـ من فشو التكفير والتفسيق بالباطل، وظهور شباب متهور يستبيح الخروج على المسلمين لأنه حكم بنفاقهم وكفرهم، ولا يستبعد أو يستغرب الإقدام على تفجير المساجد بمن فيها من المسلمين بحجة أن المسجد مسجد ضرار وأن مرتاديه ليسوا مسلمين بل منافقون ملحدون!!

هل يحق لنا إن سكت أولو الأمر عن مثل هذا الخطيب أن نتساءل ونتباحث من أين وكيف ينشأ التكفيريون الخوارج؟؟

وفي المقابل تتم ملاحقة بعض المشايخ الأزهريين في النيابة العامة ـ هنا في البحرين ـ بتهمة انتقاد الأوقاف بأنها تتساهل مع التكفيريين !! وما عسانا نسمي دعوة المحاضرين المعروفين بتبني العنف وقتل المسلمين؟ وماذا نسمي توظيف خطباء يرمون المسلمين بالنفاق الأعظم والإلحاد؟ هل يسمى تسامحا ووسطية أم غلوا وتشجيعا على التكفير والقتل واستحلال الدماء؟

لولا الرضى أو التساهل في هذه المسائل لما تفوه هذا الخطيب الأجنبي بمثل هذا الكلام في بلد عربي إسلامي كان إلى عهد قريب يحتفل بالمولد النبوي في كل حي ومدينة من مدنه قبل أن تشن عليه الحملات لتغيير فكره ومذهبه ومعتقده ..

على أن هذا الخطيب كان قد ظهر في تلفاز البحرين ليشبه الاحتفال بالمولد النبوي بالاحتفال بمواليد الآلهة الوثنية !! أي أن القصد إلى الغلو في الطرح متعمد ومبيت ومستمر ومؤيد.. 

ما كان هذا الإنسان ليجرؤ على الطعن والتسفيه لفقه وتاريخ الأمة عموما وتاريخ وثقافة البحرين الأصيلة خصوصا لولا أنه يرى ضوءا أخضر وطريقا معبدا للتفوه بمثل هذا الكلام الذي لم يسمع مثله من فقيه عالم قط عبر التاريخ، ولكن : يالك من قبرة بمعمر ** خلا لك الجو فبيضي واصفري.


اقرأ مقال المولد النبوي في البحرين قبل 60 عاما