‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات وردود فقهية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات وردود فقهية. إظهار كافة الرسائل

السبت، 8 فبراير 2014

رحلة في تاريخ القيم : من استقالة القحفازي إلى استقالة الذمم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه وبعد ..

كان الأمير المملوكي رُكْنُ الدين منكورس الدمشقي بلدا الحنفي مذهبا المتوفى سنة 631هـ رجلا صالحا محبا للصدقات وأعمال البر، محافظا على الطاعات وأنواع الخيرات، ومن أعماله الخيرة بناء مدرستين وقفهما لله تعالى، عرفت كل مدرسة منهما باسم المدرسة الرُّكْنِيَّة نسبة إليه.
تقع المدرسة الأولى منهما في داخل دمشق، لذلك يسمونها الركنية الجُوَّانِية، وقد جعلها للسادة الشافعية، مع أنه حنفي المذهب لما هو معروف بين أهل المذاهب من المودة والألفة.
وتقع الثانية منهما في سفح جبل قاسيون الشهير، ولذلك عرفت باسم الركنية البَرَّانِيَّة، وقد جعل هذه للسادة الحنفية.


سفح جبل قاسيون

وقد اكتمل بناء البرانية الحنفية نحو سنة 625هـ وأَوْقَف عليها أوقافا كثيرة، ولما توفي الأمير سنة 631هـ دفن في تربة مجاورة لصحن المدرسة كان قد أعدها لنفسه رحمه الله تعالى.

واستمر التدريس في الركنية الحنفية ..

وبعد نحو قرن من إنشائها وبالتحديد في سنة 719هـ لما شغرت وظيفة التدريس في الركنية .. وَجَّهَ نائب السلطنة الأمير سيف الدين تنكز وظيفة التدريس في الركنية الحنفية لشيخ مشايخ السادة الحنفية :
الإمام الفقيه الأديب العلامة نجم الدين علي بن داود بن يحيى بن كامل المشهور بالقحفازي وبالزبيري لأن جده الأعلى هو الزبير بن العوام رضي الله عنه ..

فوَلِيَ تدريسها مدة قصيرة، وكان راتب المدرس فيها ضخما بسبب وفرة أوقافها، بحيث يطمع فيه كل طامع، ولكن الإمام نجم الدين لم يلبث أن عزل نفسه بنفسه من منصب تدريس الركنية وتركها !!

سجل المؤرخون هذه الحادثة في كتبهم، وأثبتوا هذه المنقبة للإمام القحفازي الزبيري، ونود أيها القارئ الكريم أن نحيطك علما بها لتقف على أنموذج من نماذج الزهد والورع والتقوى والخوف من الله تعالى والتزام ما شرع وترك ما نهى عنه من سير سلفنا الصالح رحمهم الله :

لماذا ترك الإمام نجم الدين القحفازي الزبيري الفقيه الحنفي وظيفة مرموقة كوظيفة تدريس الركنية الحنفية ذات الراتب الضخم؟ لماذا تركها من نفسه مع أنه عُيِّنَ فيها بأمر الأمير الكبير نائب السلطنة سيف الدين تنكز؟ كيف تجرأ وفعل ذلك وما هو السبب؟

لقد تركها الإمام نجم الدين القحفازي لأنه لما تولاها وباشر التدريس فيها فوجئ وهو يقرأ وثيقة الوقف التي كتبها الأمير الراحل مؤسس المدرسة ركن الدين منكورس، فوجئ وهو يقرؤها أن فيها شرطا غير متوفر فيه !!  
إن الأمير الراحل ركن الدين منكورس الذي بنى المدرسة كان قد شرط في وثيقة الوقف شرطا على المُـدَرِّس في الركنية، ذلكم الشرط هو أن يكون المدرس :

{ساكنا في الجبل، أي بجوار المدرسة نفسها أو فيها !!}

إنه شرط قد يبدو غير ذي أهمية، ولم يكن الإمام نجم الدين القحفازي قادرا على تنفيذ هذا الشرط لظروفه الخاصة ووظائفه الأخرى.
فهو إن بقي مدرسا في الركنية مع سكنه البعيد بقي وهو مخالف لشرط الواقف ! وهو يعلم أن مخالفة شرط الواقف لا تجوز باتفاق .. ولو تركها خسر وظيفة مرموقة عُيِّنَ فيها بأمر أميري، وخسر راتبا عاليا يسيل له اللعاب وتتلهف له النفوس!
كان بإمكان القحفازي أن يبقى فيها مدرسا معتمدا على تولية الأمير سيف الدين تنكز الذي هو ملك الشام ونائب سلطان المسلمين ..
ومعتمدا أيضا على أن الناس لا تعرف الفقه ولا تدري عن مسألة شرط الواقف وتلك الغوامض الفقهية ..
ومعتمدا أيضا على أن الشرط المذكور شرط خفيف وليس بذي أهمية كبيرة ..
كان بإمكانه أن يبقى في هذه الوظيفة، وفي حال بقائه فلن يجسر أحد على الكلام ضده مع هذه الثقة الأميرية، ولكن ليس هذا مسلك سلفنا من أهل العلم والتقوى، فكان من ديانته المتينة وورعه وتقواه بالإضافة إلى فقهه في الدين أنه أعطانا درسا عظيما في الورع والتقوى، فلم يتجاوز شرط الأمير ركن الدين منكورس، لعلمه بخطورة مخالفة شرط الواقف مهما كان خفيفا قليل الشأن، فلما تأكد الإمام أنه غير قادر على تنفيذ هذا الشرط أعلن أنه يعزل نفسه من وظيفة تدريس الركنية ويتخلى عن راتبها الضخم مبينا السبب من أنه غير قادر على تنفيذ شرط الواقف.

وسجل المؤرخون هذه المنقبة في ترجمته :

قال عنه الحافظ ابن حجر في كتابه (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) [4/55 ـ طبعة حيدر آباد] :
((وولي تدريس الركنية سنة 719هـ فباشرها ثم تركها واعتذر بأنه لا يقوم بشرطها ..))اهـ.
وقال أيضا: ((وولي تدريس الركنية بالصالحية ثم تركها لما اطَّلَع على أن شرط واقفها أن يكون المدرس مقيما بالجبل))اهـ.

وقال عنه النعيمي في كتابه (الدارس في تاريخ المدارس) [1/399 ـ طبعة دار الكتب العلمية] :
((ودَرَّسَ بالركنية بالجبل ثم تركها لأنه اطلع على أن من شرط واقفها على المدرس السكن بها))اهـ.

وقال الصفدي في كتابه (أعيان العصر) وابن شاكر الكتبي في كتابه (فوات الوفيات) [3/24 ـ طبعة دار صادر] :
((رُسِمَ له بتدريس الركنية فباشرها مُدَيْدَةً ثم نزل عنها وقال:
"لها شرط لا أقوم به"
ومعلومها في الشهر جملة، تركه تورعاً.))اهـ. أي راتبها كبير فتركه خوفا من الله تعالى.

هكذا كان علماؤنا من السلف الصالح، وقد كان القضاة من العلماء يشرفون على شؤون الأوقاف والأحباس ويراعون مصالحها وشروطها ويتابعون النظار عليها، فكانت الحقوق مرعية والشروط قائمة، فلما احتل الصليبيون العالم الإسلامي في القرن الماضي سعوا في ضرب القضاء الإسلامي وعملوا على سحب صلاحياته شيئا فشيئا حتى لم يبق في أيدي قضاة الشرع إلا باب النكاح والطلاق .. وكان مما جردوهم منه إشرافهم على الأوقاف والأحباس، فأخذت منهم وفوضت إلى من لا يملك مثل علمهم ولا ورعهم، فامتلأت البطون من الحرام وأكلت أموال الناس بالباطل .. وزاد الطين بلة أن وجدوا من أشباه العلماء والشيوخ من يزين لهم ويحلل كل ما يشتهون.

مفاجأة :

هل تعلم أخي القارئ الفاضل أن المدرسة الركنية الحنفية هذه لا زالت موجودة منذ 800 سنة إلى اليوم !!! وهناك العشرات غيرها لا تزال قائمة، وهذه هي المدرسة الركنية فمتع بصرك :









تقرير رائع عن المدرسة الركنية لمن أراد المزيد عنها:

من الجدير بالتنويه والتذكير هنا أن هذه المدرسة العريقة وعشرات الأوقاف الإسلامية غيرها هي لا تزال إلى اليوم بيد أهلها أهل السنة والجماعة بالرغم من تعاقب الدول ذات العقائد والأفكار والسياسات المختلفة كالبعثية وغيرها .. من الأفكار المباينة لمناهج أهل السنة والجماعة .. ولكن لا تزال هذه الأوقاف بيد أهلها وأصحابها، وتتولى الأوقاف شؤونها، وهذا موقع الأوقاف الرسمي :
اضغط هنا

وبعد أيها القارئ المفضال أعود بك من بلاد الشام من حي ركن الدين حيث المدرسة الركنية التي عاشت ثمانية قرون ولا زالت شامخة، أعود بك إلى هنا وما أدراك ما هنا، هنا المدارس تشكو إلى الله تعالى ظلم العباد، مدارس لا تصل أعمار أكثرها إلى 150 سنة وقد أصبحت أثرا بعد عين :

مدرسة محمد بن حسن آل خاطر :


 سكن عمال

مدرسة محمد بن راشد بن هندي المناعي :


 خرابة

مدرسة حسين بن سلمان بن مطر :


 سكن عمال

مدرسة علي بن إبراهيم الزياني :


 موقف سيارات

مدرسة الشيخ حجي بن أحمد الزياني :


 محلات وأستوديو شاليمار !!

مدرسة سعيدة بنت بشر آل جاسم :


 موقف سيارات

 والسلام عليكم ورحمة الله.
  






الثلاثاء، 4 فبراير 2014

مرحبا بالسادة الحنابلة في البحرين



بسم الله الرحمن الرحيم



كتاب منار السبيل للشيخ ابن ضويان رحمه الله هو من الكتب المتأخرة للسادة الحنابلة، أحد المذاهب الأربعة السنية المتبوعة، وقد تعرفنا على هذا الكتاب إبان دراستنا للفقه المقارن بالأزهر الشريف، وكنا أحيانا نرى الإحالة إليه في الحواشي على أنه من مراجع الفقه الحنبلي المتأخرة زمنا، الأمر الذي حثنا على اقتنائه لنستعين به في البحوث العلمية الفقهية ..
والشيخ إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان ـ مؤلفه ـ توفي سنة 1353هـ فليس ببعيد عن عصرنا، ويعتبر من فضلاء متأخري الحنابلة ومعتدلي الوهابية.
فإن تضلعه من الفقه الحنبلي خفف من حماسه للدعوة الوهابية وعلى حد تعبير تلميذه ابن رشيد :

((السبب في قلة تلاميذه والآخذين عنه هو أن الشيخ .. ليس من المتحمسين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والناس ينفرون ممن لا يتحمس لها)) اهـ من علماء نجد للبسام 1/407 يقصد أن النجديين ذلك الوقت كانوا ينفرون ممن لا يتحمس لها.

وكتابه في الجملة يعتني بالمعتمد في المذهب على صعوبة التزام كل المعتمد في وقته وبيئته، وقد نلمح تأثيرات الدعوة النجدية في كتابه أحيانا.
  
والكتاب الآخر المعلن عنه لابن اللحام هو في القواعد الفقهية على مذهب السادة الحنابلة أيضا، وهو كتاب نافع ومفيد لدارسي فقه السادة الحنابلة ..

نرحب بهذه الدروس التي نأمل أن تسهم في تصحيح الأفكار، لأن المذهب الحنبلي ـ شأن باقي المذاهب المتبوعة ـ مشتمل على الرؤى الناضجة والاجتهادات العالية الصحيحة التي يتفتح الذهن بالارتواء منها، ويستقيم النظر بإدمانها و "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"

وكم كنا نتمنى أن يحظى مذهب السادة المالكية أو الشافعية باهتمام إدارة الأوقاف بالقدر الذي يتمتع به المذهب الجديد ..
خصوصا أن أصل مذهب أهل السنة في البحرين هو المالكي والشافعي، وأن أكثر مساجد البحرين من أوقافهم، فلو بذلت الجهود في تفقيه الناس في هذين المذهبين لكان مشروعا موفقا ملامسا للواقع.

لاسيما أن أكثر الأوقاف من مساجد وعقارات ومزارع وغيرها من مختلف الأموال التي قامت عليها مشاريع إدارة الأوقاف السنية منذ القدم إنما وقفها وحبسها أهل هذين المذهبين في الأعم الأغلب، فكان من الواجب بل من الوفاء والعرفان للجميل أن تبذل كل الجهود لخدمة فقه هذين المذهبين خاصة.

ويؤكد هذا ويجعله ملحا أن الجهل بالمذهب المالكي خاصة بات منتشرا بين أهله، فإنهم باتوا لا يتلقونه في مناهج التربية والتعليم ـ خلافا لما توهمه الدكتور محمود بن بسيوني في تقريره ـ ولا تدعمه إدارة الأوقاف بشيء يذكر، ولا تعتني به مراكز البحوث والإرشاد المتنوعة، ولا حملات الحج ومنشوراتها، ولا المعاهد التي تنفق عليها الدولة.
حتى ذلك المسمى بمعهد الإمام مالك لا يقدم أي خدمة للمذهب المالكي، اللهم إلا نادرا في كل ما تقدم، والنادر لا يلتفت إليه.

وأذكر هنا ما حدثني به الدكتور الأستاذ المرحوم السيد إبراهيم فاضل الدبو العراقي البغدادي دفين الرفاع رحمه الله :

 الشيخ إبراهيم فاضل في الوسط

قال لي رحمه الله :
اجتمعت ببعض ولاة الأمر في البحرين، واقترحت عليه إنشاء معهد لتدريس الفقه المالكي، فاستغرب من طلبي وأجاب بأن لدينا عدة معاهد في البحرين تدرس الفقه المالكي، فقلت له : هذه المعاهد لا تدرس الفقه المالكي، فالتفت إلى شيخ أجنبي بجواره وسأله : ألا تدرس هذه المعاهد الفقه المالكي ؟ فاضطرب هذا الشيخ ـ وهو أجنبي ـ وقال : بلى تدرس الفقه المالكي !!
حكى لي الأستاذ إبراهيم فاضل الدبو هذه الحكاية متألما منها متعجبا.
وقد لقيت أنا ذلك الشيخ الذي زعم أن هذه المعاهد تدرس الفقه المالكي وسألته، فلم ينكر ما حكاه الأستاذ الدبو، إلا أنه فسر كلامه بأن مذهب المالكية يُحكى كقول من جملة الأقوال في مذكرات تلك المعاهد !! فاعترضته بأن هذه الطريقة لا تسمى تدريسا للفقه المالكي، لأن قول المذهب حينما يدرس من مذكرة معاصرة ويكون في هامش المذكرة ويكون موضع نقاش مرة ومرجَّحًا عليه غيره مرة ومخَطَّأ منقوضا مردودا مرة ثالثة بحيث يكون قول ابن عثيمين أو غيره من شيوخ نجد المعاصرين أرجح منه فهذا لا يسمى تدريسا للمذهب المالكي، بل هو مسخ له واستصغار وتلاعب إذا جرى تحت مسمى تدريس المذهب، ومن يسمي هذه الطريقة تدريسا للفقه المالكي فهو غالط بلا شك، فإذا انضاف إلى ذلك أن تصرف إليها الأموال الموقوفة على تدريس الفقه المالكي فلا شك أن فاعل ذلك خائن مدلس محتال.
فأقر الشيخ الأجنبي بصواب ما قلته له، واعتذر بأنه أجنبي وأنه لو وضح المسألة هكذا لولي الأمر لأصابه الضرر من ذوي العلامة الصفراء.
وهو صادق في ذلك بلا ريب.

بقي فقط المعهد الديني الثانوي وهو المدرسة الدينية الوحيدة القديمة في البحرين، وهو أضعف من أن يخرج طالبا واحدا ينتسب للمذهب المالكي، وكم طفحت مشاكله على صفحات الجرائد، وكم عانينا في سبيل إصلاحه وإرجاعه إلى سابق عهده ونحن نخوض حروبا لصد الحملة الصفراء المدعومة للاستيلاء على أوقافنا، وذلك كله مشهور معروف طافح مذاع غير سر، وليس هذا موطن شرحه، ولا ينبئك مثل خبير.

وبمناسبة ذكر المعهد الديني فمن اللطائف ما أذكره من سؤال أحد الطلبة في المعهد الديني ـ ولعله اليوم صار أبا ـ إذ سألني مرة فقال :

هل الملك شيعي؟!
فقلت له : أي ملك تقصد؟ ملك البحرين؟
قال : نعم,
فقلت له : إن جلالة الملك سني، ولكن ما سبب هذا السؤال الغريب؟
فقال : لأني رأيته في التلفاز يصلي هكذا (وأرسل الطالب يديه وسدلهما) :


يظهر في الصورة جلالة الملك مرسلا يديه طبقا للمذهب المالكي
ويظهر كذلك ولي العهد والشيخ محمد بن مبارك والشيخ خالد بن حمد 
كلهم سادلون طبقا للمذهب المالكي في هذه المسألة

فقلت له : الملك فعل ذلك لأنه مالكي المذهب، وإرسال اليدين هكذا ليس موجودا عند الشيعة فقط بل هو معتمد في المذهب المالكي وهو رواية أيضا في مذهب الحنابلة.
فقال الطالب : لكن لا نرى الناس في المساجد يفعلون ذلك ولا يفعله إلا الشيعة.
فقلت له : لكننا نحن الكبار رأينا أجدادنا ونحن صغار يفعلون ذلك وهو المذهب والطريقة القديمة للمالكية في البحرين وأما التغييرات الجديدة التي حدثت فلها أسباب .. وصرت أشرحها له.

يظهر في الصور حاكم دبي سمو الشيخ محمد بن راشد بن مكتوم
وإلى جواره أفراد من الأسرة الحاكمة وكلهم سادلون
طبقا للمذهب المالكي ومثلهم إمامهم في الصلاة.

فذلكم الواقع المؤسف وهذا الجهل المتفشي بالمذهب الأصيل لأهل البلد من أهل السنة بهذه الصورة المزعجة بحيث بات مجهولا عند أهله، وصار وجوده ضعيفا على أرض الواقع نتحمل مسؤوليته جميعا وتقع التبعة بالدرجة الأولى على المؤسسات الدينية، ونخص السادة العلماء والقضاة، وتتحمل إدارة أوقافنا المسؤولية التقصيرية الكبرى لإهمالها شؤون المذهب بالكلية إلا قشورا، هذا مع أنها تدير أوقاف أهل المذهب!

وبعد .. فكم كنا نرجو أن نسمع عن محاضرات وندوات في الفقه المالكي وقواعده الفقهية، وكم كنا نتمنى أن نرى شعارات المذهب في مساجده وأوقافه ظاهرة، وكم كنا نتمنى أن نرى نصوص الوقفيات مشاعة غير مستورة ليقرأها الناس، وكم كنا نود أن نرى الكتيبات والبحوث الداعمة للمذهب والشارحة له، وكم كنا نتمنى أن نرى إدارة مخلصة للمذهب توجه أمواله وأوقافه الوجهة الصحيحة.

ومع ذلك كله فنحن نرحب كل الترحيب بالدروس على المذهب الحنبلي أو أي مذهب آخر من المذاهب المتبوعة شرط ألا يكون ذلك ضمن خطة لطمس وإهمال مذاهبنا الأصلية.

هذا وليت أخانا المحاضر جزاه الله خيرا يبدأ مع الطلبة الحضور ـ لا سيما لجنة التحقيق مع الأئمة ـ من باب أحكام الوقف الكائن في المجلد الثاني والممتد من ص703 إلى ص722 وهي عشر ورقات فقط، ويشرح لهم الباب شرحا وافيا ويخص العبارات التالية بمزيد الاهتمام :

ـ ((ويتعين صرفه إلى الجهة التي وقف عليها فى الحال)) 2/710

ـ ((ويرجع فى مصرف الوقف إلى شرط الواقف، لأن عمر رضى الله عنه شرط في وقفه شروطا ولو لم يجب اتباع شرطه لم يكن في اشتراطه فائدة، ولأن الزبير وقف على ولده وجعل للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضرا بها فإذا استغنت بزوج فلا حق لها فيه، فإن جُهِل عمل بالعادة الجارية، فإن لم تكن فبالعرف، لأن العادة المستمرة والعرف المستقر يدل على شرط الواقف أكثر مما يدل لفظ الاستفاضة)) 2/712

ـ ((وإن خصص مقبرة أو مدرسة أو إمامتها بأهل مذهب أو بلد أو قبيلة تخصصت بهم عملا بشرطه)) 2/713

لعل وعسى ووفقنا الله تعالى وإياكم لكل خير وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.


الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

مسألة في صلاة الكسوف والمذاهب والوقف



السؤال : .. قبل كسوف الشمس عصر الأحد 29 ذي الحجة 1434هـ قرأت توجيها وإرشادا أن نصلي الكسوف وأن نجهر بالقراءة فيها، وما أعلمه أن الشافعية لا يجهرون بالقراءة في صلاة الكسوف، فما هو الصحيح؟ علما بأني إمام مسجد .. من مساجد البحرين، شافعي المذهب، والمسجد الذي أصلي فيه إماما لم تزل الصلاة فيه على المذهب الشافعي أبا عن جد.

الجواب :

بسم الله الرحمن الرحيم

ههنا ثلاث مسائل لا بد من تبيينها:

المسألة الأولى :

ـ أن مذهب الشافعية ـ والذي هو مذهبك أيها السائل ـ هو ندب الإسرار في صلاة كسوف الشمس، وهو الصحيح عند الحنفية والمشهور عند المالكية ورواية عن أحمد.

ـ وذهب الحنابلة في المعتمد وبعض الحنفية وبعض المالكية إلى الجهر في صلاة الكسوف.

وعليه فلا تتضرر الصلاة بالجهر أو الإسرار والصلاة صحيحة.

المسألة الثانية :

لكن هذا الكسوف المذكور في السؤال قد وقع بعد صلاة العصر في الساعة الرابعة عندنا في البحرين، وعليه ينبغي معرفة ما يلي :

ـ المالكية يؤقتون صلاة الكسوف كصلاة العيد، فلا تنعقد بعد الزوال أي بعد دخول وقت الظهر، وعليه فلا تصح صلاة الكسوف هذه لأنها وقعت عصرا.

ـ الحنابلة يحرمون ويبطلون النوافل ـ ومنها الكسوف ـ في أوقات النهي والتي منها بعد العصر إلى الغروب، فمن صلى الكسوف الذي وقع عصرا لم تصح صلاته.

ـ الحنفية يكرهون تحريما النوافل ـ ومنها الكسوف ـ في أوقات النهي، ومن أوقات النهي عندهم بعد العصر إلى الغروب، فمن صلى الكسوف الذي وقع في الرابعة عصرا فقد أتى محرما.

ـ الشافعية يرون جواز النوافل ذوات الأسباب ـ ومنها الكسوف ـ في أوقات النهي.

وعليه فإن صلاة الكسوف لا تصلى في هذا الوقت الذي هو من أوقات الكراهة إلا على مذهب الشافعية ـ الذي هو مذهبك أيها السائل ـ فلا حرج عليك في فعلها، وقد عرفت أيضا أن مذهب الشافعية استحباب الإسرار بالقراءة.

المسألة الثالثة :

وأما التوجيه والإرشاد الذي طلب منكم الجهر في صلاة الكسوف فلا أراه متفقا مع المعتمد في مذهب من المذاهب الأربعة، لأن من يصليها من المذاهب بعد العصر وهم الشافعية يسرون بها ندبا، ومن يجهر بها وهم الحنابلة لا يصححون صلاتها بعد العصر ! فهذا الإرشاد والتوجيه غلط، ويزداد الأمر خطورة لو كان هذا الإرشاد والتوجيه متعمدا وصادرا من نظارة وإدارة الوقف، وحينئذ نكون أمام ظاهرة غير شرعية متعلقة بمسائل الأوقاف والأحباس التي صار أكلها واللعب بها مصيبة عمت بها البلوى من أزمان، وابتلي المسلمون بجهلها أو بالتساهل فيها أو التعدي عليها، مع أنها باب من أبواب الكبائر .. وفيما يلي توضيح لهذه المسألة.

فقد قرر أهل العلم باتفاق المذاهب الأربعة أن الأوقاف ـ مساجد أو مدارس أو غيرها ـ يجب فيها اتباع ما شرطه الواقف وعينه واختاره، مادام في حدود المشروع، وأنه لا بد من التزام ما جرى عليه العمل في الوقف في حياة الواقف، أو الزمن القديم، وعلى هذا عمل الأمة الإسلامية في القرون الخالية من عهد الصحابة إلى أن أهملت الشريعة في العصور المتأخرة، فلم تزل المساجد والمدارس والكتب .. وغيرها توقف ويشترط فيها شروط كأن تكون لأبناء هذا المذهب أو ذاك من المذاهب الأربعة أو أن تكون الغلة والمنفعة لفلان أو أن يقدم فلان على فلان أو أن يكون لفلان هذا المقدار ولفلان ذاك المقدار، وهذا شيء اشتهر في الأعصار حتى صار مخالفه مخالفا للإجماع:

قال العلامة الفقيه أبو بكر الدمياطي الشافعي المتوفى سنة 1310هـ في كتابه (إعانة الطالبين) 4/233 :
((ومن خلاف الإجماع : ما خالف شرط الواقف، فمن حَكَمَ بخلافه نُقِض))

وقد كان الحكام والقضاة يراعون ذلك ويتعاهدونه، بحيث يستحق الذم والتعزير والعقوبة من خالف هذه الشروط أو تلاعب بها، والتاريخ مليء بشواهد ذلك.

قال العلامة الفقيه الإمام محيي السنة أبو عبدالله محمد عليش المالكي الأزهري المتوفى سنة 1299هـ في كتابه: (فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك) 2/259 :
((إن وجد كتاب الواقف عمل بما فيه، وإلا عمل بما جرت به العادة في السنين الماضية، ولا يجوز مخالفتها فإنها تقوم مقام كتاب الواقف عند عدمه، ومن أراد مخالفتها والاختصاص فلا يُمَكَّن من ذلك ويجب على ولي الأمر منعه منه وزجره، سواء كان ناظرا أو غيره، ويعزل الناظر الذي أراد ذلك لثبوت خيانته وعدم تصرفه بالمصلحة وفتحه باب الفتنة والهرج والشر ..))اهـ.

وهذا الكلام محل اتفاق بين المذاهب كما أسلفنا.

ولخطر هذه المسألة أدرجها الفقيه ابن حجر الهيتمي المكي الشافعي المتوفى سنة 974هـ في جملة الكبائر في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر) 1/508 فقال :

((الكبيرة الثالثة والثلاثون بعد المائتين : "مخالفة شرط الواقف" وذكري لهذا من الكبائر ظاهر وإن لم يصرحوا به لأن مخالفته يترتب عليها أكل أموال الناس بالباطل وهو كبيرة))اهـ.

وتوضيح ذلك أن الناس يحرمون أنفسهم وأولادهم من التمتع بالأموال والعقارات فيخرجونها لشيء معين تقربا إلى الله ويجعلونها في خدمة المذهب الذي نشؤوا عليه كمدرسة مالكية أو مسجد للحنفية أو إمام على المذهب الشافعي، ثم يموت الواقفون فيأتي إنسان له سلطة فيلعب في أوقافهم ويخالف ما قصدوه وما شرطوه، وربما خص بها أصحابه ! فيخرجها عن مراد أهلها ومقصدهم، فلا شك أنه متورط في أكل أموال الناس بالباطل ومرتكب لكبيرة، وهذا باب خطر قد تقحمه كثير من الناس و ذوو السلطان ونظار الأوقاف منذ سنين بلا تقوى ولا ورع حتى صار اللعب في الأوقاف والتصرف كأنه هو الأصل ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ونظرا لشيوع هذه الكبيرة وانتشارها حتى غلب الظن أنه لا تكاد تسلم أوقاف المسلمين في كثير من البلدان من أنواع التعديات نظرا لذلك بالغ بعض المتأخرين من أهل العلم فذهب إلى تحريم الوقف، لأنهم رأوه مضيعة للمال وإعانة للظلمة :

قال الشيخ العلامة فالح بن محمد الظاهري المدني المتوفى سنة 1328هـ في كتابه (أنجح المساعي) ص221 ـ طبع دار الشريف ـ : ((كل أحد يعرف أن الأوقاف اليوم عرضة للظلمة والنظار عليها، وأنها لا تجري مجراها، ولا تلم بشيء من قصد الواقف أصلا .. ومع هذه الأحوال والقصود فلا أظن مسلما يقول بجوازه اليوم ..)) اهـ مختصرا.

وقد خالفه في هذا آخرون من أهل العلم منهم العلامة محمد زاهد الكوثري الحنفي وكيل المشيخة الإسلامية بالدولة العثمانية المتوفى سنة 1371هـ في مقالاته ص162 ـ طبع دار السلام ـ فقال : ((والواقع أن الاجتراء على الوقف مَرَضٌ متفشٍّ تجب معالجته ببصيرة منقذة لا بالمنع من الوقف كما يرى الشيخ فالح الظاهري في "أنجح المساعي" سدا للذريعة)) اهـ.

فإذا اتضح هذا فإن أغلب مساجد البحرين ومدارسها القديمة التابعة لأهل السنة هي من أوقاف المالكية، وتليها أوقاف الشافعية، والقليل من أوقاف الحنابلة، ولا أعرف من أوقاف الحنفية في البحرين شيئا، وقد جرى عليها من التغيير والتبديل عن مذاهبها التي كانت عليها ما لا يجهله ذو فهم، وحصل فيها من التصرفات ما لا يخفى، فعلى من عُيِّن ناظرا لهذه الأوقاف مراعاة ما ذكرناه وإلا كان مرتكبا لكبيرة أكل أموال الناس بالباطل ..


وأنت أيها السائل إذا عرفت هذا وكنتَ كما ذكرتَ في سؤالك أنك شافعي وأن المسجد الذي تؤم فيه هو من أوقاف الشافعية فلا يحل لك مخالفة ما جرى عليه العمل في هذا المسجد من التزام مذهب الشافعية، فهناك فرق بين من يصلي غير مرتبط بوقف معين فقد يجوز له أن يختار من المذاهب المعتبرة غير متتبع للرخص، ومن هو مرتبط بوقف له شروطه فلا خيار له إلا التزامها، وأنت الآن لا تصلي في بيتك أو لنفسك أو مسجدك الخاص بل إماما في مسجد من أوقاف الشافعية كما ذكرت أنت، فصرتَ مرتبطا به وملتزما ما جرى عليه العمل فيه وجوبا عليك، وهو المذهب الشافعي، لا سيما في المسائل التي يتميز بها المذهب عن غيره، ومنها الإسرار والجهر، فإن الإسرار فيما يسر به والجهر فيما يجهر به من أشهر ما يحصل به التمييز بين مذهب وآخر، وتعتبر من الشعارات الواضحة في المذهب، ولنا كتاب بسطنا فيه هذه المسألة قد ننشره قريبا، هذا ووفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى. 

الجمعة، 17 مايو 2013

لماذا منعت محاضرة العلامة سعيد فودة في الكويت؟

بسم الله الرحمن الرحيم
 


بلغني نبأ منع العلامة المتكلم الشافعي الأشعري سعيد فودة حفظه الله من المحاضرة في الكويت في موضوع يتعلق بالاجتهاد وأصول الفقه، وقد تابعت بعض المشاركات عبر الاتصالات الحديثة التي تتكلم عن هذه القضية، ورأيت كثيرا من الناس متعجبا من هذا المنع، متوهمين أن الكويت المفعمة بروائح الديمقراطية لا يليق بها مثل هذا المنع ! فأحببت أن أزيل تعجبهم وأنهي حيرتهم ..



ولذلك لا بد أولا أن أوضح أن الأستاذ العلامة سعيدا ليس ذلك الأشعري الذي يؤثر السلامة والسكوت خوفا على الدينار والخميصة فيكتم ما فرض الله عليه من بيان التوحيد وتنـزيه الخالق سبحانه عما لا يليق به، بل كلامه ـ نضر الله وجهه ـ في دحض شرك الصفات البشرية، وخزعبلات المجسمين، والتصورات الردية التي لا تليق بالربوبية واضحة جلية، وتأثير كلماته ونجاعة كتبه في بث تنـزيه الخالق سبحانه مما سارت به الركبان وطار في سماء شبكات الاتصالات الحديثة ..

إذا عرفت ذلك فأضف إليه أن أول من طبع كتابا يصف الله عز وجل وتقدس وسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون بأنه : (شاب أمرد) (أجعد) (له نعلان من ذهب) وأن له (فخذا) و(لهوات وأضراسا) وأنه (استلقى ووضع رجلا على أخرى) .. إلخ ما يأفكون.
أول من طبع هذا الكتاب وأخرجه للعلن هو شخص كويتي يلقي المحاضرات الدينية في الكويت والبحرين وغيرهما ! وهو وأصحابه يعدون هذا الكتاب يمثل منهج السلف الصالح !
طُبع جزءان من هذا الكتاب أول مرة سنة 1410هـ وبعد طباعته بشهور قليلة حدث غزو الكويت.

صورة غلاف الكتاب


دار الطبع



هذه الجماعة التي طبعت هذا الكتاب وتتبنى هذه الأفكار قد عملت في حقل الدعوة إلى طريقتها لعقود، استدرجت خلالها إلى مفاهيمها الجماهيرَ الغفيرة، ووصلت بعد مدة بعصبية هذه الجماهير وبالدعم السياسي والمالي إلى مراكز القرار ـ فلم تعد الكويت ذلك البلد المالكي الأشعري كسابق عهده ـ فلا يستغرب إذن أن تنظر تلك الفئة إلى العلامة سعيد فودة الشافعي الأشعري المنـزه على أنه عدو لتوحيدهم الحشوي.

إن بلدا يحاضر فيه محقق كتاب الشاب الأمرد بكل حرية على أنه يمثل العقيدة الصحيحة لا بد وأن ينظر نتاجه إلى سعيد فودة كخطر على أفكار توحيد الشاب الأمرد وفخذه ولهواته وأضراسه .. ولقد كان لنا في البحرين نصيب من محاضرات مروج هذا الكتاب أيضا لإنشاء جيل متمسك بالسنة ! :  

 


إذن لا محل للاستغراب والاندهاش من منع الشيخ سعيد من المحاضرة في الفقه أو التوحيد لأن المانع شخص نافذ ينتمي فكريا إلى جماعة الشاب الأمرد، أو يجاملها على أقل تقدير، ولا شك أن الشاب الأمرد وتنـزيه الخالق سبحانه وتعالى لا يجتمعان ولا بد وأن يصطرعا إلى يوم القيامة اصطراع الباطل والحق، وعلى كل حال فقد ألقى الشيخ سعيدٌ درسه على محبيه أهل السنة والجماعة ولا يزال في هذه اللحظات يجيب على أسئلتهم عبر وسائل الاتصال الحديثة، فما عاد هذا زمن منع ولا صد، وقد زوى الله العوالم في قرية صغيرة تَرى أقصاها كما ترى أدناها، ذلك لتقوم حجة الله على العالمين، ومن الله التوفيق.



الخميس، 24 يناير 2013

أفضل هدية لأكرم مولود صلى الله عليه وسلم



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحابته وبعد ..

اعتاد الناس أن يقدموا لأحبابهم وذوي مودتهم في مناسبات مختلفة هدايا وتحفا، عسى أن يبعثوا البهجة في نفوسهم، وربما عمدوا إلى المغالاة في أثمان الهدايا إيذانا بمزيد المحبة وغاية المودة .. ويحرص كثير من الناس على انتقاء ما يناسب محبوبهم مستعينين بذكرياتهم معه، وبسؤال من هو أقرب إليه منهم وأعرف به، فإن تعين لهم ما يهش له ويبش اتخذوه هديته ..

وقد تفكرت مليا ـ ونحن في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيما عساه يثلج صدره الشريف، ويدخل على قلبه الرحيم المسرة والغبطة، مستعينا في ذلك بما في كتاب الله تعالى من صفته، وما بلغنا في السنة من سيرته، وطالعت في ذلك شطرا صالحا من الآثار، فما رأيت شيئا يسعده صلوات الله وسلامه عليه كالإصلاح بين المسلمين، وجمع كلمتهم، وتأليف قلوبهم .. فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لو كان بين ظهراني المسلمين اليوم كما كان بين أصحابه بالأمس لاهتم واغتم لما يرى من فرقتهم وذهاب ريحهم وفساد ذات بينهم .. ولأنفق جل وقته في المؤاخاة بينهم كما فعل في مقدمه إلى المدينة المنورة فأصلح بين الأوس والخزرج وسماهم الأنصار ثم آخى بينهم وبين المهاجرين ..  

فيا أيها المحب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كن مصلحا جامعا بين المسلمين غير مفرق، مؤلفا بين قلوبهم جامعا لكلمتهم غير باث فيهم فتنة ولا ضاربا بينهم بالخبال تفز بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكن ممن أدخل على قلبه البشر والفرحة والسرور في يوم مولده الشريف، فإن لم تحسن ذلك فاملك عليك لسانك وليسعك بيتك، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت.