الأحد، 29 يناير 2012

مسألة في فقه الأمر بالمعروف عند الشيعة الإمامية وأحداث البحرين

 
نـــص الســــــــــؤال

السلام عليكم ورحمة الله، لي صديق شيعي يرى أن المسيرات وأعمال الشغب جائزة وأن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن الخروج على الحاكم إذا كان عندكم محرما فهو عندنا جائز، فهل كلامه صحيح؟

الجـــــــــــــــــواب

بسم الله الرحمن الرحيم

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته ..

جمهور أهل السنة والجماعة منعوا الخروج على سلاطين الإسلام، وإن جاروا، لما ينتجه الخروج من مفاسد عظيمة جدا، وأوجبوا نصحهم وأمرهم ونهيهم بما تقتضيه الشريعة الإسلامية من الحكمة والرفق واللين، قال تعالى: (فقولا له قولا لينا) وقد طالعت بعض مراجع فقه الإمامية فرأيت المسألة مبحوثة لديهم في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من كتب الروايات وكتب الفقه، فوجدت مذهبهم في أقواه وأظهره وأشهره موافقا لمعتمد مذاهب الجمهور، وإن اختلفت وتفاوتت أسباب المنع، وسأعرض لك مختصرا يفي بالغرض إن شاء الله تعالى.  

الروايات توجب الأمر بالمعروف بشروط منها الأمن من الضرر:

فإذا نظرنا في الآثار المروية لديهم في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجدنا الإمامية يوردون أخبارا كثيرة منها هذان الخبران عن الإمام الصادق :

ففي وسائل الشيعة للحر العاملي 16/127 ـ128 :

((ـ قال أبو عبد الله عليه السلام: إنما يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر مؤمن فيتعظ، أو جاهل فيتعلم، فأما صاحب سوط أو سيف فلا.

ـ عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي: يا مفضل من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر عليها)) اهـ.

فقه هذين الخبرين:

فالخبر الأول يقرر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتوقع أن يستفيد منه المؤمن لتقواه، والجاهل ليتعلم، ففي هذه الحالة ينبغي أمرهما ونهيهما، وأما من يتوقع ضرره عند أمره أو نهيه كما هو حال السلطان الجائر الذي لا يعرف إلا السيف والسوط فلا ينبغي التعرض له حينئذ، لما في التعرض له من الأذى المتوقع.
والخبر الثاني يقرر أن من يتعرض لمن شأنه الإضرار كسلاطين الجور فإنه لا أجر له، بل إنه لن يوفق للصبر على البلاء إذا نزل به من هذا السلطان، وهذه العبارة الأخيرة ظاهرة في حرمة التعرض حينئذ.
وهذا كله محمول على من تعرض للسلطان بطريقة يتوقع ضررها، وأما من استعمل ما تقتضيه الشريعة من الرفق واللين والحكمة فوصل إليه الضرر فهذا لا شك أنه مثاب ومأجور لأن الضرر لم يكن متوقعا ولا مظنونا، ولأنه لم يترتب على مخالفة أو شدة من الآمر.

والظاهر من كلام جمهور فقهاء الإمامية أنهم جعلوا هذين الخبرين وما في حكمهما، وأخبار التقية عندهم، كالحاكمة بالتخصيص والتقييد لباقي أخبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كلام بعض فقهاء الإمامية في المسألة:

ونجد أن هذا الفهم للأخبار قد انتقلت خلاصته إلى كتب الفقه الإمامي، فيقول أبو القاسم نجم الدين الحلي المشهور عند الإمامية بالمحقق في كتابه الشهير "شرائع الإسلام" 1/259 في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
((ولو افتقر إلى الجراح أو القتل، هل يجب؟ قيل: نعم، وقيل: لا، إلا بإذن الإمام، وهو الأظهر)) اهـ.

تراه هنا يذكر خلافا في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المؤدي إلى ضرر من جرح أو قتل، فيذكر أن من الإمامية من أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو أدى إلى جرح أو قتل الآمر بالمعروف أو جرح وقتل المأمور على سبيل الدفاع عن النفس وصاحب هذا القول هو الشريف المرتضى كما سيأتي، ولكن المحقق الحلي يعود فيقول بأن الأظهر هو منع هذا النوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يشير بذلك إلى قول جمهور الطائفة.

ويقول الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي الإمامي الشهير عندهم بالعلامة في كتابه "منتهى المطلب في تحقيق المذهب"  2/993 متحدثا عن الشرط الرابع من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
((الرابع: أن لا يكون في الإنكار مفسدة على الآمر ولا على أحد من المؤمنين بطلبه، فلو ظن توجه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط الوجوب لقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" ولما رواه الشيخ عن مفضل بن يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي يا مفضل من تعرض لسلطان جائر فأصابه بليه لم يؤجر عليها ولم يرزق الصبر عليها ..))

ثم قال متحدثا عن توقع حدوث الضرر للمأمور:

((مسألة: ولو افتقر إلى الجراح والقتل قال السيد المرتضى رحمه الله يجوز ذلك بغير إذن الإمام، وقال الشيخ رحمه الله: ظاهر من مذهب شيوخنا الإمامية أن هذا الجنس من الإنكار لا يكون إلا للأئمة أو لمن يأذن له الإمام فيه ..)) اهـ.

وكلام ابن المطهر هنا مشتمل على نقل الجواز عن المرتضى، ومشتمل على نقل المنع عن شيخ المذهب الإمامي الطوسي مقررا أن ظاهر مذهب الإمامية المنع من هذا النوع وأنه لا يكون إلا للأئمة أو بإذنهم، ومعنى هذا أن هذا النوع لا يجوز في زمن الغيبة عندهم، وكلام الطوسي هذا المعزو إلى ظاهر المذهب هو الذي عبر عنه نجم الدين الحلي سابقا بالأظهر.

فإن قال قائل فهذا مسقط للوجوب وليس مسقطا للاستحباب أو الجواز، فقد أجاب عن هذا الطوسي بقوله في كتابه "الاقتصاد" ص 148:

((فأما إذا خاف على نفسه أو ماله أو كان فيه مفسدة له أو لغيره فهو قبيح، لأن المفسدة قبيحة.
وفي الناس من قال: مع الخوف على النفس إنما يسقط الوجوب ولا يخرج عن الحسن إذا كان فيه إعزازا للدين. وهذا غير صحيح، لما قلناه من أنه مفسدة.
والخوف على المال يسقط أيضا الوجوب والحسن، لما قلناه من كونه مفسدة، وفي الناس من قال هو مندوب إليه، وقد بينا فساده.
وجملته أنه متى غلب على ظنه أن إنكاره يؤدي إلى وقوع قبيح لولاه لم يقع فإنه يقبح لأنه مفسدة، سواء كان ما يقع عنده من القبيح صغيرا أو كبيرا، من قتل نفس أو قطع عضو أو أخذ مال كثير أو يسير، فإن الكل مفسدة.)) اهـ.

نلاحظ في كلام الطوسي هذا مناقشة لرأي الشريف المرتضى المجوز لهذا النوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتخطئة له ببيان ما في هذا النوع من المفسدة.

ولهذا قال زين الدين الجبعي المشهور عندهم بالشهيد الثاني في شرحه على اللمعة الدمشقية 2/415 ما نصه:
((والأمن من الضرر) على المباشر، أو على بعض المؤمنين نفسا، أو مالا، أو عرضا فبدونه يحرم أيضا على الأقوى)) اهـ.

هنا يحكم زين الدين على هذا النوع بالتحريم على الأقوى، وقد عبر عنه بعض الإمامية بالأشهر، كما عبروا عنه بالظاهر والأظهر، وهو الذي دل عليه معظم السلوك التاريخي لهذه الطائفة.

لكن في الأعصار المتأخرة اشتدت حركة الاجتهاد لدى الشيعة وصار كثير منهم يخرج عن مشهور المذهب أو راجحه، كما حصل عند أهل السنة والجماعة تماما، واستعمل هؤلاء المجتهدون علم مصطلح الحديث المعروف لدى أهل السنة فطبقوه على أحاديثهم جرحا وتعديلا فضعفوا كثيرا من الرويات فتخلصوا منها، كما استعملوا قواعد أصول الفقه المعروف لدى أهل السنة فناقشوا كثيرا من الأخبار حتى خرجوا بها عن مشهور المذهب، ومن خلال هذه الحركة ظهر رأي اجتهادي جديد قلب مشهور المذهب الإمامي وظاهره فصاروا يفتون لعامة الشيعة بجواز ذلك النوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المؤدي إلى الضرر في النفس والأموال والمتعدي إلى الآخرين، وجوزوا لهم الخروج على السلاطين مع ما في هذا من الخطر العظيم والتغرير بالأنفس والأموال، فإن أردت أيها السائل ما هو مذهب الإمامية في هذه المسألة فقد عرفت أن الأقوى والأظهر عندهم تحريم هذا النوع وبهذا يتفق مذهب الإمامية مع مذهب جمهور أهل السنة والجماعة.

وعليه فإن الخروج على السلاطين لا شك أنه يؤدي غالبا إلى تلف الأنفس والأموال والبلاد وعموم الخراب، وكذا أعمال الشغب من تكسير أو إشعال حرائق أو سد الطرقات كل هذه مفاسد محضة لا يظهر أنها تساهم بشكل ما في إحقاق حق أو إنكار منكر، وكذلك المسيرات التي لا ترخيص لها لا تخلو غالبا من مواجهات مع رجال الأمن وتنتهي بإتلاف الممتلكات أو الجراحات والاختناقات وربما القتل، وأكثر الناس تنظر إليها على أنها أعمال تخريب، فلو فرضنا مجرد فرض أن هذه الأعمال أمر بالمعروف ونهي عن المنكر لما كانت جائزة أيضا على الأقوى والأظهر عندهم لأنها يتوقع منها وبسببها وقوع الأضرار المتنوعة التي بنى الفقهاء عليها المنع.
ويبقى الكلام على وسائل الاعتراض السلمية المرخصة التي لا يتوقع حدوث ضرر بسببها كالمسيرات أو التجمعات المرخصة فهذه لا يظهر أنها مشمولة بالمنع إذا خلت من أي استفزاز للسلطان، هذا وفقا للمذهب الإمامي فيما بدا لي والله تعالى أعلم.