‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات وردود فقهية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات وردود فقهية. إظهار كافة الرسائل

السبت، 20 سبتمبر 2014

أهل السنة في غنى عن الكذب على خصومهم

أهل السنة في غنى عن الكذب على خصومهم





بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه واتبع هداه ..

وبعد ..

فإن أهل السنة والجماعة أغنى الفرق الإسلامية عن الكذب والبهتان ..

فهم أعظم المذاهب الإسلامية وأكثرها انتشارا في العالم الإسلامي منذ قرون طويلة، وهم أعدل المذاهب وأوسطها .. والتاريخ يشهد بما يقضي على كل شك أو ريب أن أئمة الإسلام المصنفين أكثرهم وأعظمهم من أهل السنة والجماعة :

في القراءات والتفسير والتجويد والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والحديث رواية ودراية وجرحا وتعديلا .. وأما الفقه وأصوله فتدوينهم وصناعتهم .. وكذا التاريخ وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم ..

وأما إذا جئنا إلى علم الكلام الذي نيط به الذب عن أصول أهل السنة والجماعة ومجادلة الخصوم بأدلة المنقول والمعقول فالناس فيه عيال على الإمامين أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي وتلاميذهما من بعدهما .. وقد شهد بذلك الموافق والمخالف ..

ففي القرن الرابع الهجري حينما بسط السلطان فناخسرو بن الحسن بن بويه أبو شجاع الديلمي المتوفى سنة 372هـ الملقب بعضد الدولة حينما بسط سلطته على رقعة كبيرة شرقية من أرض الخلافة الإسلامية ـ حتى كان يدعا له مع الخليفة العباسي على المنابر ـ قرب إليه العلماء من كل الطوائف، وكان هو مائلا إلى الاعتزال في الأصول محبا للعلم والأدب، شديد الحرص على المحاضرات العلمية والمطارحات الأدبية، فكان مجلسه يغص برؤساء الفرق عدا أهل السنة والجماعة .. ولما سأل قاضيَه عن سبب خلو مجلسه من منافح ومناظر على مذهب أهل السنة والجماعة هون قاضيه من شأنهم وحط من قدرهم ـ وكان معتزليا ـ ورماهم بالجهل والعامية، فرد عليه السلطان قائلا :

((مُحالٌ أن يخلوَ مذهبٌ طَبَّقَ الأرضَ من ناصر))


فجرى البحث والترتيب بالاتفاق مع الخليفة العباسي أن يبعث إلى مجلس السلطان مناظرا  يذب عن عقائد أهل الحق بالمنقول من الكتاب والسنة وأدلة المعقول، فوقع اختيار الخليفة العباسي ـ بعد مشاورات مع أهل الحل والعقد والعلماء والقضاة ـ على الإمام أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي الأشعري، الذي حضر مجلس عضد الدولة وناظر رؤساء الفرق وتكلم بما بهر العقول حتى نزل السلطان عن كرسية وزحف مقتربا من الإمام الباقلاني استعذابا لكلامه .. فلما انتهت المجالس وظهر الباقلاني على رؤساء الفرق قال السلطان لقاضيه:

((ألم أقل لك : مذهب طَبَّقَ الأرضَ لابد له من ناصر؟))

ولما شاع خبر الإمام الباقلاني وقدرته الفائقة على المناظرة وفرح به الخليفة والناس والعلماء والقضاة صدر أمر من ديوان الخليفة العباسي بتلقيب الإمام الباقلاني رسميا بـسيف السنة ولسان الأمة، وقد جمعت بعض مناظراته في المجالس وطبعت، وأشهرها مناظرته في بلاط قيصر الروم سفيرا للدولة العباسية.




ولم يكن الإمام الباقلاني وحده فارس هذا المضمار، بل كان معه في عصره أئمة آخرون لا يقلون عنه رفعة ومجدا في هذا المقام كالإمام أبي إسحق الإسفراييني الشافعي والإمام أبي بكر ابن فُوْرَك الأصبهاني الشافعي وغيرهما، وقد شهد لهؤلاء الثلاثة الوزير العلامة الأديب إسماعيل بن عباد بن العباس أبو القاسم الطالقاني المشهور بالصاحب ابن عباد المتوفى سنة 385هـ  شهادة حق، على الرغم من أن الوزير كان معتزليا شيعيا، إلا أن إنصافه ومجموع فضائله أرغمته على تجرع كلمة حق مُرَّة سجلها التاريخ لما قيل له : إنك كنت تحط من قدر أهل السنة والجماعة وترميهم بالجهل والعامية، وقد رأيت وسمعت بنفسك مناظرة هؤلاء الثلاثة من أئمة أهل السنة فما تقول فيهم الآن؟ فقال الصاحب ابن عباد بعد أن أطرق وجلله الحياء:

((ابن الباقلاني بَحْرٌ مُغْرِق .. وابن فُوْرك صِلٌّ مُطْرِق .. والإسفراييني نار تحرق))
[الصل المطرق : ثعبان ظريف المنظر ولكنه يقتل في الحال] يقصد بذلك قوتهم في تفنيد شبهات الخصوم، وسطوتهم في المناظرة.

إن مذهبا إسلاميا عالميا كهذا لغني عن الكذب والافتراء على خصومه، فإن لديه من آلات المنقول والمعقول ما يدحض به كل شبهة ويرد به كل باطل، ولكن ـ وياللأسف ـ أصيب مذهب أهل السنة والجماعة في العقود المتأخرة بضعف علمي شديد، ازدادت حدته في النصف الأخير من القرن الرابع عشر الهجري وإلى الآن، ولسنا بصدد شرح أسباب الضعف فإنها لا تخفى على اللبيب، مما أدى إلى فشو الجهل المنتج للكذب.

والحق أن الكذب العلمي لم يكن متعمدا، وإنما هي أخطاء علميه أفرزت نتائج لا تطابق الواقع، فإذا عَرَّفْنَا الكذب بمجرد عدم مطابقة الواقع فلنا أن نسمي تلك الأخطاء العلمية كذبا، وأما بإضافة قيد العمد والقصد فلا تسمى تلك الأخطاء كذبا حينئذ بل هي أغلاط أنتجها الجهل، لأن عامة ما يقع من تلك الأغلاط والأخطاء العلمية لم يكن مقصودا.

مثالان من أمثلة تلك الأكاذيب أو الأغلاط المنتشرة الخطيرة والبشعة :

الأول : الكذب على الشيعة الإمامية الاثني عشرية :

من ذلك زعم بعض الناس من أهل السنة ـ وسمعناهم في المساجد  وغيرها من الطفولة وإلى الآن ـ أن الشيعة إذا ضربوا على ركبهم في الصلاة يقولون : (خان الأمين) أي أن جبريل عليه السلام خان الأمانة فنزل بالرسالة والنبوة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكان الواجب أن ينزل بها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه !!
وهذا كذب على الاثني عشرية، بل هم وأهل السنة يحكمون بكفر الطاعن في عصمة الملائكة عليهم السلام، وهذه المقالة الكفرية إنما هي مقالة الفرقة الغُرَابِيَّة من الفرق المغالية البائدة، ولكن الجهل أدى ببعض الناس في الأدوار الأخيرة إلى قراءة الكتب دون معلم وشيخ ماهر فإذا قرؤوا شيئا عن فرقة من فرق الشيعة القديمة البائدة لم يميزوا بينها وبين الفرقة الاثني عشرية الموجودة اليوم فألبسوا هذه الفرقة ما قالته تلك الأخرى البائدة، وهذا نوع من أنواع الأخبار التي لا تطابق الواقع والتي يجوز أن نسميها كذبا، وإلا فإن الإمامية الاثني عشرية إذا قضوا الصلاة كبروا ثلاث تكبيرات مع رفع اليدين، لكن كثيرا من العوام منهم يأتون بالتكبير في صورة الصفق على الركب فيتوهم من يراهم أنهم يصفقون.

الثاني : الكذب على أصحاب محمد بن عبد الوهاب (الوهابية) :

 فمن أشنع الكذب عليهم أنهم يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم أو لا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم أو يمنعون الصلاة عليه .. وهذا شيء شاع قديما عنهم في المساجد وسمعناه من الطاعنين في السن ينفروننا عنهم، ثم قرأنا كتب الوهابيين فرأينا الصلاة والسلام على النبي بعد اسمه الشريف في كل كتبهم، فعرفنا أن الوهابيين لا يكرهون النبي ولا يمنعون الصلاة عليه، بل هم وأهل السنة يعتقدون كفر من كره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خلاف بينهم وبين أهل السنة في فضل الصلاة على النبي وآله .. وإنما شاع ذلك عنهم لأنهم كانوا يمنعون ما كان شائعا من الصلاة على المنارات قبل الأذان أو بعده ظنا منهم أن ذلك بدعة وزيادة في الأذان، أو يمنعون صيغا من صيغ الصلوات المنتشرة في الأوراد وبعض الأحزاب ظنا منهم أن فيها غلوا .. فألزمهم بعض الناس بأنهم يكرهون النبي وأنهم يمنعون الصلاة عليه .. وهذا ليس بلازم كما لا يخفى.

هذان المثالان خطران لأنهما يؤديان إلى كفر محقق لا شك فيه، فمن طعن في الملائكة أو أحدهم، أو كره الأنبياء أو أحدهم فقد أتى كفرا أكيدا لا شك فيه، وهما تهمتان انتشرتا في وقت من الأوقات، ولهذا ذكرنا هذين المثالين ..

إن أهل السنة في غنى عن هذا المسلك الجاهلي الوخيم، ولا يكون الانتصار على الخصوم أو التنفير من مذهبهم صحيحا بهذه الصورة لأنه يعتمد على الكذب، وإذا اكتشف الناشئة من أهل السنة أنهم لقنوا ـ ولو غلطا ـ ثلة من الأكاذيب على خصومهم لينفروا منهم ضعفت ثقتهم بمذاهبهم وربما أداهم ذلك إلى هجرها إلى غيرها، ومذهب أهل السنة مؤسس على القرآن والحديث والإجماع والعمل والقياس وأدلة العقول، وهو من المتانة بحيث لا يحتاج إلى مثل هذه الأساليب الرخيصة.


وبالرغم من اعترافنا بوقوع هذا الصنيع من أهل السنة إلا أنه وقع من جهال المتأخرين من عوامهم، ولم يكن متعمدا غالبا، ومثل هذا التشنيع لعله وقع من غير أهل السنة أكثر مما وقع من أهل السنة، ومهما يكن فإنه فعل مقبوح مستنكر لا يأتي بخير ولا ينتج إلا خبالا، ولا يليق بأهل المروءات فضلا عن أهل الديانات، وعند أهل الفرق الأخرى من المقالات الثابتة عنهم ما فيه الغنى عن الكذب عليهم أو الافتراء، وبالله التوفيق. 

السبت، 23 أغسطس 2014

لعبة الرابط العجيب الأوقاف و السلاح

لُعْبَةُ الرابط العجيب : (الأَوْقَافُ) و (السِّلاَح)

يلعب الأطفال أحيانا لعبة مسلية تسمى الرابط العجيب، تشحذ الأذهان وتنمى التفكير، يقول الطفل لصاحبه مثلا: (البيضة) و (الشمس) فيقول الآخر : البيضة لا تأتي إلا من الطيور، والطيور لا تعيش إلا على النباتات، والنباتات لا تنمو إلا على ضوء الشمس، وهكذا نصل إلى العلاقة بين البيضة والشمس، إنها علاقة السببية.

هلا جربنا هذه اللعبة مستعملين كلمتي (الأوقاف) و (السلاح) ؟ هل يمكننا أن نوجد رابطا قريبا واضحا بين الأوقاف والسلاح ؟ فلنجرب ذلك :

السلاح يمكن أن يملكه الإنسان ـ في البلاد التي تسمح بامتلاكه ـ وينتفع به في الجهاد المشروع كالدفاع عن وطنه، وكل ما كان كذلك يمكن لمن يملكه أن يجعله صدقة جارية، أي وقفا في سبيل الله، وهنا يأتي دور الجهة المخولة للإشراف على هذا السلاح والتي قد تكون إدارة الأوقاف المدنية أو التابعة للجيش.

وإليكم صورة ثانية : فيمكن أيضا أن يوقف الإنسان عقارا أو أرضا لصالح جيش المسلمين ـ وقد حدث ذلك كثيرا في التاريخ ـ ويشرف على هذه العقارات إدارة الأوقاف المدنية أو تلك التابعة للجيش، ومن ريع هذه العقارات يتم تجهيز الجيش بالسلاح.

أظن أننا نجحنا في إيجاد العلاقة الوطيدة والمشروعة بين الأوقاف والسلاح بصورتين مختلفتين .. ولكنني سأحاول إيجاد العلاقة بصورة ثالثة أيضا بخطوتين اثنتين من باب الإمعان في البيان :


الخطوة الأولى : (الأوقاف تدعو الشيخ عبد الله الغنيمان)



الخطوة الثانية : (الشيخ الغنيمان يدعو إلى شهر السلاح)




وهكذا نكون قد وفقنا للمرة الثالثة في إيجاد العلاقة الوطيدة بين الأوقاف والسلاح، ولكن هذه المرة في صورة لا أظن أنها مشروعة، لأن الظاهر من كلام الغنيمان هنا أن شهر السلاح في وجوه المسلمين الموحدين المسالمين ضمن خطة اضطهاد ديني !! فمتى وكيف وأين يكون شهر السلاح في وجوه المسلمين مشروعا ؟؟ إن الشيخ مصرح بأن هؤلاء الذين ينبغي الاستعداد لاضطهادهم وشهر السلاح في وجوههم هم أكثر العالم الإسلامي من أتباع المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية وحتى الحنابلة !! وصرح في بعض نصوصه بالأزهر الشريف وغيره أيضا كما سيأتي.
ومن نتائج هذا التفكير العنيف الواضح في كلام الشيخ الغنيمان وغيره من شيوخ الدعوة النجدية ما قاله لي واحد من خريجي جامعاتهم مرة قال : (لو كان لي جيش أو لواء لقاتلت الأزهريين) فهذا القائل ربما يكون قد حضر محاضرات الشيخ الغنيمان وهو يتحدث عن شهر السلاح ، ومن آثار ذلك ما نشاهده اليوم من التطرف والوحشية في حق المسلمين الموحدين، إذن فقد صحت العلاقة بين الأوقاف والسلاح.

لكن بما أننا تطرقنا إلى هذا الحديث فليس من العدل أن ندع القارئ مشوشا وقد نشبت كلاليب الاستفهام في رأسه من هول ما يقرأ هنا .. فلا مناص من إزالة هذا الإشكال لئلا ندع مجالا لمستدرك فلا بد أن نوضح التالي :

قد يقال ـ دفاعا عن الشيخ ـ  : إن الشيخ الغنيمان قال هذا الكلام قديما قبل 30 سنة، أي سنة 1405هـ، وكلنا يعلم أن المملكة العربية السعودية خاضت خلال العقود الماضية مصائب تشيب لها الرؤوس، وخرجت من تجارب مُرَّة، فقد ابتليت المملكة بفِرَق وطوائف اتخذت من العنف والشدة والتعصب شعارا لها، كإخوان من طاع الله والقطبيين والقاعدة وما تفرع منها، فكَفّروا حكام المسلمين بل وحكام المملكة السعودية أيضا وتعدوا إلى كبار المسؤولين في الدولة بل وكبار العلماء فيها ـ فسقوهم من كأسهم ـ وكالجامية التي حاربت الدعاة المعاصرين بكل ضراوة، وتفرعت منها الحدادية أتباع محمود الحداد المصري، والتي شنت حملة شعواء على تراث الأمة ولم تفرق بين قديم ومعاصر، وكلامهم من جنس كلام الغنيمان السالف ـ حاشا السلاح ـ وتعدى شرهم إلى حرق كتب أهل السنة كشرحَيْ البخاري ومسلم ـ وإن كان الحداد نفسه يبرأ من فعل الحرق خاصة كما سمعته في شريط مسجل ـ واكتشف كبار علماء المملكة أن التشدد والطرح المتعصب قد انقلب عليهم شرا ووبالا، فبدؤوا في محاولة متواضعة لتصحيح المسار شيئا ما، فصاروا يحذرون من التكفير والغلو ..
وقد كان حدثني أحد الزملاء من الأساتذة السعوديين أن المشايخ في السعودية عقدوا المحاضرات في إثر حادثة حرق شروح كتب السنة لأن مؤلفيها من الأشاعرة ـ مستدركين على أنفسهم ما لقنوه لطلابهم ـ وفي إحدى هذه المحاضرات ( قال الشيخ ابن عثيمين : إن 80% من العالم الإسلامي أشاعرة) قال الأستاذ : فرد عليه الشيخ ابن باز وكان بجواره قائلا : (90% يا شيخ محمد) هذا أو نحوه أوقريبا منه. 

فقد يقال بأن الغنيمان عندما كتب ما كتب كان ذلك قبل ثلاثين سنة والمملكة تشتعل تعصبا، ودخان التكفير في كل مكان، وسخام التبديع يملأ الأجواء تعكيرا، فلم يسع الغنيمان حينئذ إلا السير مع القافلة ومسايرة سوق العرض والطلب .. عندئذ فتش الغنيمان شراح صحيح البخاري فوجد ـ على حد تعبيره ـ أن ((غالب من قام بشرحه، على المذهب الأشعري، ولا سيما الشروح المتداولة اليوم)) !! فألف شرح كتاب التوحيد ذاك الوقت، وفيه قال ما قال عن شهر السلاح.

ولكن بعد ظهور الفتن ورجوع كثير من المشايخ هناك عن نبرة الغلو الشديد إلى الغلو المتوسط رجع معهم الغنيمان فيمن رجع إلى غلو متوسط، ولهذا تراه في كتابه "ثبات العقيدة" الذي ألفه سنة 1412هـ  يقول كلامه السالف دون ذكر السلاح :




  ومن آثار هذا التراجع ما تراه من الفرق في طرحه لمسألة القوانين الوضعية بين ما كان أفتى به سابقا مما يَسْهُلُ فهم التكفير من ثناياه وبين توضيحه الأخير الموافق لكلام جمهور العلماء، ومن آثار ذلك أيضا توقيعه على فتوى كتبها الدكتور عبد العزيز القارئ سنة 1427هـ  يفهم من ظاهرها جواز التعاون مع أهل السنة ـ الأشاعرة ـ في الأمور العامة وأنهم من أهل السنة في الجملة وليسوا من الفرق الضالة :



قد يقال كل هذا الكلام في الدفاع عن الشيخ الغنيمان وأن مرحلة السلاح والعنف وتبديع أهل السنة مرحلة مضت ولا أثر لها الآن فلا يصح الربط بين الأوقاف وشهر السلاح تعويلا على كلام قديم للغنيمان، بدليل شن الغلاة جدا من الجامية والحدادية على الغنيمان هجوما شرسا وصفوه فيه بأوصاف قاسية، وما ذلك إلا لظهور نوع من اللين والتراجع من الغلو الشديد إلى الغلو المتوسط لدى الشيخ الغنيمان حتى وصفه الغلاة جدا بأنه سروري وتكفيري :




وبدليل أن الجامية الحدادية ينقمون الآن على الشيخ مسألة التعاون مع أهل السنة كما نشروه بأنفسهم هذا العام :

فنقول جوابا عن هذا الدفاع :

أولا : الدفاع عن الشيخ بأنه لا يبدع أهل السنة مردود،  لأن الشيخ الغنيمان بعد أن وَقَّعَ على تلك الفتوى التي يُفهم منها أن الأشاعرة من أهل السنة عاد ناكصا مصرحا بأن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة والجماعة، كما تراه في كلامه من موقعه سنة 1431هـ  :

ثانيا : ما يقوله عنه الجامية والحدادية قد ينفيه الشيخ الغنيمان أيضا في أي وقت ببيان توضيحي كما نفى الاعتراف بأهل السنة والجماعة أتباع المذاهب الأربعة في موقعه.

ثالثا : لم نقف على أي تصريح واضح من الشيخ الغنيمان حتى الآن يقر فيه بأن أتباع المذاهب الأربعة في العالم الإسلامي اليوم هم أهل السنة والجماعة، ولم نقف له على أي اعتذار أو تراجع عما كان قاله في كتبه من التحريض على أهل السنة واستعداء طلابه عليهم ولو بشهر السلاح .. كل هذا لم يحصل من الغنيمان، فالدفاع المتقدم لا يلزمنا ولا نقِرُّ به.

النتيجة :

أن العلاقة بين الأوقاف والسلاح في مثالنا الثالث هذا صحيحة أيضا.

الخاتمة :

إننا نعتقد أن دعوة الأوقاف (السنية) للشيخ الغنيمان تجيء ضمن خطط مقاومة عقيدة جمهور الأمة الإسلامية من أتباع المذاهب الأربعة، أو على حد تعبير الغنيمان : (مقاومة هذه التيارات الجارفة، على حسب ما تقتضيه الحال، من مناظرات، أو بالتأليف، وبيان الحق بالبراهين العقلية والنقلية، وقد يصل الأمر أحياناً إلى شهر السلاح).

إن كلمة (أهل السنة) بالنسبة للأوقاف لا تعني أتباع المذاهب الأربعة السنية التي تشكل جمهور الأمة الإسلامية، وتُدَرَّسُ عقائدهم في الأزهر والقرويين والزيتونة وديوبند وغيرها من الجامعات الإسلامية الكبرى الأصيلة، بل أهل السنة عندهم مفهومة بالمعنى الذي يقصده الشيخ الغنيمان كما بيناه والمنحصر في فكر الدعوة النجدية، وأما وصف الأوقاف بالسنية فصحيح باعتبار الواقفين من الأجداد من أهل السنة من المالكية والشافعية الذين بذلوا أموالهم في سبيل الله، فالأموال أموال أهل السنة صحيح، لا بمعنى أن الإدارة الحالية تعترف بصحة عقائدهم أو بعقيدة جمهور الأمة من أتباع المذاهب الأربعة كما تثبته نشاطاتهم المتكررة.




إننا نبعث من خلال مقالنا هذا برسالة إلى كل أب وأم من أهل السنة المالكية أو الشافعية في البحرين مفادها أن عقائد ومذاهب الأمة الإسلامية الأصيلة قد أصبحت عرضة للمقاومة والتحريف والتغيير والتبديل لمصالح طائفية أو سياسية أو مالية أو غيرها .. وأصبح حفظها نقية صافية غير مضمون من خلال المؤسسات الرسمية ـ كالأوقاف ـ فهي إذن دين في أعناقكم، وأمانة تؤدونها سالمة لأولادكم، ذلكم حتى لا تجتاحهم الأفكار الهدامة والتطرف بكل أنواعه وأشكاله، وما بلاد الشام والرافدين ومن قضى من أبنائنا هناك عنكم ببعيد، اللهم إني قد بلغت فاشهد، والسلام عليكم ورحمة الله.


الاثنين، 21 يوليو 2014

دروس التوحيد الثلاثة من ذكريات الطفولة



(دروس التوحيد الثلاثة)
من ذكريات الطفولة

بسم الله الرحمن الرحيم

مع إشراقة العقل الأولى يبدأ الأطفال بتقليد الألفاظ ومحاولة فهم معانيها من والدِيهم، ويبذلون جهدا في التقاط الكلمات وتصحيحها، وطرح الأسئلة حول معانيها، ومع الحياة اليومية المستمرة يتكرر على مسامع الأطفال ذكر لفظ الجلالة (الله) ما شاء الله .. تبارك الله .. وفقك الله .. الله معك .. وكثيرا ما يقترن هذا الاسم بالثواب والعقاب .. لا تفعل كذا فيعاقبك الله فإن من يفعل كذا سيدخله الله النار .. من يفعل كذا يدخله الله الجنة .. فيسمع الأطفال الأقارب والجيران ومن يخالطون وهم يرددون كلمة (الله) كثيرا، بل يعثرون عليها في أسمائهم المحببة كعبد الله .. ويلفت انتباه الأطفال أن من يُسَمَّى (الله) يحظى بالمحبة والإجلال، كما يمتاز بالقوة والهيبة والقدرة على العقاب والثواب .. ولكنهم أبدا لا يحظون برؤيته في الزائرين والمرتادين للبيوت والمجالس ولا يقابلونه في أي مكان .. فمن هو الله؟

الدرس الأول :

يبدأ الدرس الأول عندما يسأل الطفل أباه أو أمه أو كليهما .. من هو الله؟ ويتفاوت الأقارب في الإجابة بحسب سن الطفل واستعداده، وأذكر بدايتي في سن الخامسة أو قبلها بقليل حينما طرحت أسئلتي، ومما أذكره منها: إذا كان القمر حجرا كبيرا فلماذا لا يسقط على الأرض كباقي الأحجار؟ وجاء الجواب: إنها قدرة الله .. فجاء السؤال: فمن هو الله؟ فجاء الجواب : إنه خالق كل شيء من أرض وسماء وشمس وقمر وإنسان، وهو إله واحد.


***
هذا هو الدرس الأول، وغالبا ما يتكرر في أوقات مختلفة ومناسبات كثيرة، ويكون الدرس عادة قصيرا ومشوقا، ويتفاوت الوالدون في طرح الدرس الأول على أطفالهم طولا وقصرا، شرحا وإيضاحا، ولكن لا يكاد يعلق في أذهان الأطفال إلا أنه إله واحد مدبر للكون عظيم القدرة.

تبدأ مخيلة الطفل البريء في محاولة الاقتراب من حقيقة الإله في محبة وإجلال، فيسمح الأطفال لأنفسهم بتصور هذا الخالق العظيم وقياسه وتشبيهه كأعظم شيء وأوقره في نفوسهم مما شاهدوه، ولن يحول دون استرسالهم في هذه التصورات أيُّ تحذير من الخوض في حقيقة الخالق، ولن يجدي معهم أي تهديد .. إنهم يحسبون التهديد هنا كأي تحذير مضى من مثل فتح الخزانة لأخذ الحلوى، أو تسور البيت لاصطياد عصفور عابر يعجز عن الطيران.

أذكر أنني اشتركت غير مرة مع أترابي متسابقين في اكتشاف الإله، ومن اللطيف أنه كلما بَزَّ أحدنا قِرْنه بوصف أجَلَّ وأوقر كلما خضع له الباقون ونزلوا لرأيه، وكان أحسن شيء بلغناه أنه في صورة الشيخ الوقور ذي الوجه المشرق واللحية البيضاء والجلباب الأبيض الفضفاض يجلس في هيبة شديدة على سرير فخم مرتفع في السماء، تحيط به ظلمة العدم، وقد بدا عليه السأم والملال من الوحدة ففكر في إنشاء الكون وبنائه، وهكذا بدأت الخليقة .. هذا أرقى ما توصلنا إليه في اجتماع طفولي بريء، وقد حظي هذا التصور بقبول بعض الأتراب من الأطفال بينما توقف بعضهم عن البت في هذا لأنه لا بد أن نشارك الكبار في كل أمر خطير .. ولم لا ؟ .. فقمت بشرح رأيي لوالدَيَّ وبعض الأقارب، ويبدو أن فكرتي كانت موفقة بدليل أنهم يضحكون كلما سمعوا مني قصة بدء الخلق .. والضحك علامة الرضا دون شك.

صور شركية وثنية تُشَبِّه الإله بالإنسان


الدرس الثاني :

لم أكن أتوقع أن تلك القصة الطفولية عن بدء الخليقة ستزعج أحدا بعد أن نالت إعجاب الأقارب واستدعت ضحكهم، ولكن رجلا واحدا انزعج منها ولم يضحك، لا أعرف هذا الرجل ولا أتذكر عنه أي شيء سوى أن لقاء جمعنا به في حضور الأقارب، وشرع يسألني عن شؤوني إلى أن حثَّه والدي أن يستفسر مني عن قصة بدء الخلق ! واندفعت أحكي له القصة .. ولكن الرجل امتعض وقطب وبدا عليه عدم الرضا .. ثم قربني منه وطلب مني أن أصغي إليه جيدا .. ثم كلمني كثيرا عن الله، وقال فيما قال : إن الله تعالى لا يحتاج إلى شيء، ولم يخلق الخلق لأنه في حاجة إليهم، كما أنه ليس في شكل إنسان، ولا يشبه أي شيء من خلقه، وهو لا يشعر بالملل، ولا التعب، ولا يحتاج إلى التفكير مثلنا، إن شأنه تعالى أعظم من أن تصل عقولنا الضعيفة إلى تصوره .. وكلما رأيت نفسك مندفعا في تخيلات عن الخالق فاصرفها عنك وقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وحاول أن تنشغل بشيء آخر.

نعم .. إن ما يقوله هذا الرجل لهو أكثر هيبة وأعظم مما تصورناه في المجلس الطفولي، ولكن بقي لدي إشكال واحد، لماذا كانوا يضحكون من القصة إذا كانوا غير راضين؟  وكان جواب الرجل وجواب أقاربي بأنك صغير ولا يحاسب الله الطفل على شيء يقوله أو يفعله وستتعلم شيئا فشيئا .. ولم يكن ضحكهم قبولا بالفكرة بقدر ما هو استظراف لطريقة تفكير طفل صغير.

انتهى الدرس الثاني وقد أصبح نَقْشاً ذهنيا لا أنساه أبدا.

***
إذن فالله تعالى موجود وواحد وخالق عظيم لا شبيه له ولا نظير، ولكن هل هذا كل شيء أم بقي شيء كتمه عنا الكبار لم يخبرونا به؟ فإنا نراهم يستصغروننا فلا يبدون لنا كل شيء، وربما أخطأنا فيضحكون علينا ولا يبادروننا بالتصويب !! فهل هذان الدرسان يكفيان في بناء معرفة وافية تامة عن الله تعالى أم لا ؟
إنهما لا يرسمان للطفل حدودا في التقديس والتنزيه، ما هي الصفات الإلهية التي يجب أن نعرفها عن الله ؟ وما هي التي يجب أن ننزه الله عنها؟
قريبا سنذهب إلى المدرسة وهناك سنتعلم كل شيء.


الدرس الثالث :

رغب أحد الفضلاء في التخلص من بعض الأوراق والكتب القديمة، فعرضها علي لعل لي فيها حاجة.

فقلبتها وإذا بالكتاب المدرسي الذي تلقيناه في المرحلة الابتدائية والذي كان فيه درسنا الثالث في باب معرفة الله تعالى.
كانت فرحتي كبيرة وأنا أقلب أوراقه بعد كل تلك السنين، وكان هذا الكتاب هو السبب في كتابة مقالي هذا.

تذكرت هذا الكتاب جيدا (الحديقة الدينية) وأننا درسناه في مدرسة أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه في المُحَرَّق، ولكنني لا أتذكر أي تفاصيل أخرى، ولا شك أن ما درسناه فيه حَمَلَ الجواب الكافي والشافي في باب معرفة الله تعالى، فلنطلع على بعض مضامين الكتاب المهمة ليستفيد منها الآباء والأمهات.

غلاف الكتاب الجميل، ويظهر عليه شيخ وقور يرتدي جبة وعمامة أزهرية مستغرق في صلاته.




مقدمة يظهر من خلالها أن الكتاب كان معتمدا ومقررا في أكثر الدول العربية :



وهذه معلومات حول الناشر وبيانات الطباعة وأن الكتاب طبع ثلاث عشرة مرة وكانت طبعته هذه سنة 1393هـ  ـ 1973م:




يظهر هنا باب صفات الله تعالى الواجبة وما يستحيل في حقه تعالى وما يجوز، وهو الدرس الذي كنا ننتظره :






هذا الدرس المهم لا يوجد الآن في مقررات المدارس الابتدائية بهذا الشكل المتكامل الوافي، وإنما يذكرون لهم في كل مرحلة صفة واحدة أو اثنتين ولا يستوفون الصفات الواجبة له تعالى في موضوع واحد، فلا يستفيد التلميذ فهما جيدا عن الله تعالى، وهذا في غاية الخطورة على الأجيال القادمة، ولهذا لا ينبغي للآباء والأمهات أن يهملوا تعريف أبنائهم بالله تعالى معتمدين على المدارس، كما لا يمكن الاعتماد على المساجد ونحوها لأنها قد لا تقدم المعلومات الجيدة والوافية والمنظمة والمنقحة والصحيحة في هذا الجانب الخطير، فعلى كل الأباء أن يعلموا أطفالهم هذه المعلومات كما وردت في هذا الكتاب ويكرروها عليهم كثيرا حتى ترسخ في أذهانهم، ولا يقولوا هؤلاء صغار لا يفهمون، بل إنهم يفهمون في الخامسة والسادسة من أعمارهم، ولا يقولوا غدا يتعلمون من المدارس فإن المدارس اليوم كما ذكرنا لا تقدم هذه المعلومات الضرورية مبكرا بشكل واف متكامل، والاعتماد على المدارس بات حلا غير مضمون، وهو هروب من مسؤولية تربية الأبناء وتعليمهم، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.

أيضا نجد في الكتاب عنوانا يتحدث عن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وآدابها:



وعنوانا يتحدث عن الأئمة المجتهدين مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد:



أبناؤكم أمانة في أعناقكم، والسلام عليكم ورحمة الله.




الجمعة، 30 مايو 2014

ضرورة التمييز بين الموقف الشرعي والسياسي .. وبيان موقف أهل السنة من الملكية الدستورية

بسم الله الرحمن الرحيم




السؤال :

السلام عليكم شيخنا العزيز .. أكن لكم كل احترام .. لماذا لم نسمع لكم أي مداخلة بخصوص الوضع السياسي المتأزم في البلاد؟ لماذا لا تدلون بدلوكم فأنتم تتحلون بقدر كبير من الإنصاف والاعتدال ؟ نعذركم إن كنتم تواجهون ضغوطا .. أتمنى لو تلخصون لنا رأي الشارع الموالي ـ السني ـ من الناحية السياسية كما ترونه، كما يهمني أن أعرف رأيكم الشخصي في الملكية الدستورية مع نصيحتكم ..

الجواب :

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..

أخي المفضال شكرا لكم .. وأنا لست رجل سياسة وإنما رجل فقه وحديث وأدب .. وأما في باب السياسة فأطالع بعض أخبارها كما يطالعها سائر الناس .. وأعجز عن فهم الكثير منها أو تفسيره .. وأكره أن أزج بنفسي فيها متكهنا متوقعا كما يفعله المحللون السياسيون فأقع في الكذب والبهتان ..  وأنا لا أحبها لأنها في الأعم الأغلب لم تبن على القواعد الشرعية وفيها الكثير من المحاذير، والمتورط فيها ـ في صورتها الحالية ـ مؤاخذ شرعا في كثير من مواقفه .. 



نعم ربما يختلط على بعض الناس الموقف الشرعي بالموقف السياسي فلا يفرقون بينهما، فمثلا إن كلمتي في تجمع السلمانية بتاريخ 14/3/2011م لا تأتي في إطار حراك سياسي، بل في ظل تكليف شرعي من باب المصالحة والمناصحة المتعينة على كل قادر وتهدئة الأجواء المشحونة، وقد تزامن هذا المقصد الشرعي مع مقصد سياسي ـ تقره الشريعة بل توجبه ـ متمثل بدعوة ولي العهد تلك الأوقات إلى التهدئة والصلح قدر المستطاع .. ولكن هذا الموقف الشرعي منا والمتناغم مع الموقف السياسي لولي العهد كان يتعارض في نفس الوقت مع موقف سياسي آخر يرفض فكرة الصلح والتهدئة ويتجه ناحية التصعيد .. وقد سيطرت الأطراف التي لم تكن مستعدة للصلح على الأجواء وكانت روح الانتقام ونفوس التشفي المريضة سيدة الموقف  .. لذلك لم يوفق ولي العهد ولم نفلح في مسعانا ، بل اعتبر المتعصبون مسعانا ـ من منظورهم السياسي المريض ـ مسعىً غير مشكور فنكون في نظرهم مخطئين متجاوزين للقانون ـ المطاطي ـ ومخالفين للمصلحة !! ولكن مثل هذا الرأي السياسي المحرم شرعا لا نعيره اهتماما ولا نقيم له وزنا إلا مضطرين، فالمعتبر لدينا دوما هو ما يقرره فقهاء الأمة المحمدية المبني على الأدلة المعتبرة شرعا ..
إذن فهذا الذي شرحته لك إنما هو مثال لموقف شرعي يندرج ضمن الواجبات الشرعية ويعتبر في نفس الوقت جريمة عند ماضغي القانون الوضعي .. ولكن بعض الخائضين لا يفهم هذا الموقف الشرعي لبعده عن الفقه الإسلامي ويتصوره موقفا سياسيا.
فهذا هو جوابي لسؤالك عن غياب موقفي السياسي، إذ موقفي حقيقة كان دوما حاضرا ولكن في مجاله الشرعي لا السياسي.

وأما ما ذكرت من الضغوط، فهي لم تكن ضغوطا فقط بل عقوبات لأننا لم نكن نؤيد الموقف السياسي الجانح المتجاوز لأحكام الشرع، ولا نحترم القانون الذي يخالف الشرع ولا طريقة تطبيقه إذ يتمطى ليطال قوما دون قوم، فهذا قد حدث أول الأمر ونرجو ألا يعود بعد اعتراف الجهات الرسمية بالخطأ والتسرع .. ولكن هذا كله لم يمنعنا أبدا من بيان الحكم الشرعي وإذاعته في كل المواقف السالفة منذ بدء الأزمة وإلى الآن، ومقالاتنا موجودة في هذه المدونة بتواريخها لمن شاء أن يتأكد .. وإن كان كثير من الناس من السنة والشيعة يكرهون ما نكتبه لأن السياسة غير الشرعية قد غمرت قلوبهم أكثر مما غمرها حب الشريعة الإسلامية أو لأنهم تبعوا بعض شيوخهم ظنا منهم أنهم يقودونهم بأمر الله ولا يدري المساكين أنهم تركوه إلى السياسة، أو لأنهم يفهمون الولاء فهما أحاديا سياسيا لا فهما شرعيا متمثلا في النصيحة الجامعة الشاملة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ..

تلخيص موقف الموالاة :

وبما أنك سألتني ملحا عن فهمي لموقف الموالاة فأنا ألخصه لك كالتالي:

مهما شككت في شيء أو ترددت في فهم الموقف السني ـ وهم من تعنيهم بالموالاة غالبا ـ أو لاحظت فيه تفرقا وتفتتا أو غرتك اختلافاته فلا تكن في شك من اجتماعهم جميعا بلا خلاف على ركنين اثنين يرتكز عليهما موقف الجمهور الأعظم من أهل السنة :

الركن الأول : ( الوفاء بالعهد )

فأهل البحرين من أهل السنة جميعا لا سيما العرب منهم من العوائل القديمة يعتقدون أن في أعناقهم بيعة لحكام البحرين متوارثة من أجدادهم إلى آبائهم، ويلقنها كل جيل من يليه فيقولون لهم حكامنا هم آل خليفة .. وهذا الاعتقاد المتوراث صار كالعادة لديهم حتى أولئك الذي يشعرون بالغبن والظلم وعدم الرضا لا يتجاسرون على نقض هذا العهد ويكتفي كثير منهم بالتذمر والشكاية، ويرون نقض العهد عارا وخيانة تسقط المروءة حتى كأن من تلبس به منهم قد أتى فاحشة أو جرما ..

ولا يوجد أي تفسير لهذا التقليد في نظري إلا الموروث الديني الأصيل القاضي بأن بيعة الحاكم لا تنتقض ولو جار وظلم، وهو الذي تقرر فقهيا في المذاهب الأربعة السنية .. فأهل السنة في هذا الباب ينطلقون من موروث ديني راسخ تحول إلى عقيدة تقليدية عرفية مبالغ فيها وتراث متجذر ، فلا سبيل إلى زعزعته رضى واختيارا، وأما بالإكراه والجبر فلا بد من سل السيوف وسيلان الدماء وتلف المهج والأرواح، وهذا ما سطرته التواريخ الخوالي وصدقته الأيام الماضية.

الركن الثاني : (الخوف من البديل)

وهذا ظاهر للعيان ولا حاجة إلى الإفاضة فيه لإثباته، فالخوف من الآخر والتحرز منه والخشية من تسلطه قائم وحاضر بقوة ليس بين الموالاة والمعارضة فقط أو بين السنة والشيعة فحسب، بل هو فاش حتى على مستوى الطائفة الواحدة فأهل السنة مثلا يشعر كل فصيل منهم بالخوف من الآخر والحذر منه، فذو السطلة فيهم يخشى من ضياعها من بين يديه وانتقالها إلى خصمه فينتقم منه والخصم يشكو ظلم أخيه وتعديه، وهذا كله بسبب تضييع حدود الله تعالى وعدم الوقوف عند أمره فنزغ الشيطان بينهم وسهل على ثعالب السياسة تفتيتهم .. فإذا كان هذا في الطائفة الواحدة فكيف بين طائفتين تتسع بينهما هوة الخلاف حتى أن بعض المتعصبين يشبهون الطائفتين بمعسكر يزيد والحسين ؟! فالخوف من البديل ظاهر قوي تغذيه أسباب كثيرة وتجارب تاريخية قديمة وجديدة لم يكتب لها النجاح لتكون أنموذجا مطمئنا.


فهذا هو تلخيصي لموقف الموالاة، وإن كنت خصصت أهل السنة بالذكر فأنا أعني بالتأكيد ضَمّ جملة من الشيعة إليهم يحملون نفس الفكرة الولائية ولكن بتعليل مختلف، ويشاطرونهم المخاوف ذاتها، وقد أشرت إلى ما يشهد لهذا الرأي في مذهب الشيعة الفقهي في مقال لي يمكن الاطلاع عليه هنا :

رأيي الخاص :

لا يختلف رأيي عن رأي أهل السنة في هذه المسألة فهو كما ذكرنا يعود إلى أصل أصيل قرره فقهاء المذاهب الأربعة عندنا وهو منع الخروج على ولاة العدل وولاة الجور أيضا، ومنع نقض بيعتهم ، ووجوب استبدال ذلك بالمناصحة والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنني أضع المسألة في حجمها الشرعي الصحيح فالمخالف فيها ليس كافرا ولا فاسقا إذا كان له تأويل سائغ كما قرره الفقهاء وإن كان مخطئا، ولذلك اتفق أئمتنا على أن أي طرف من أطراف النزاع في حرب الجمل وصفين ليس كافرا ولا فاسقا وإن كان الصواب مع أمير المؤمنين علي، فإن الفسق مرفوع عمن نازعه لمكان التأويل والشبهة وإن استحقوا لقب البغاة والدفع والقتال عند الضرورة ، وهذا مبحث غفل عنه أو أغفله كثير من ذوي المعارف الدينية فما ظنك بالعامة من الناس !!
وبناء على هذا كنت حذرت المعارضة في كلمتي من المطالب العالية جدا كإسقاط النظام ونحوه ، ومثلها ما يسمى الملكية الدستورية والتي تجرد الحاكم من أهم صفاته وتجعله تحفة فنية جامدة ، فهذا لا يختلف كثيرا عن إسقاط النظام، وهذا المشروع محكوم عليه بالفشل الذريع لأسباب أهمها :

السبب الأول : ما تقدم ذكره من الركنين الراسخين لدى أهل السنة ولا يتصور تنازل عنهما قط، فهي عقبة كأداء دائمة أمام هذا المشروع الذي تتبناه المعارضة ويجب عليها أن تأخذه بعين الاعتبار في مطالبها ضرورة أن النجاح في إنهاض الوطن لا يتصور دون التئام أطرافه وتوازن جناحيه.


السبب الثاني : أنه لا يوجد سلطان اليوم تجود نفسه بمثل ذلك، كما لا يجودون بأرواحهم ، وقد ولى زمان أبي محمد الحسن بن علي الذي ترك الخلافة لخصمه اللدود ، فهو معجزة نبوية لا تتكرر في التاريخ، والمراهنة على مثلها خاسرة بكل المقاييس، فمن عارض سلاطين هذا الزمان فقد أودى بنفسه وعرضها للتلف ، فمن نازعهم فيه نازعوه روحه التي بين جنبيه وأوردوه الهلكة .. وهاهي ذي التجارب المعاصرة في ليبيا وتونس ومصر والشام واليمن والبحرين حاضرة ماثلة للعيان فكم أزهقت الأرواح وأتلفت الأموال وهتكت الأعراض وانتهكت الحرمات بأنواعها وذاق الناس أصناف العذاب دون فائدة أو جدوى .. والإصرار على بعض المواقف السياسية المتشددة التي تتجاهل ما ذكرته ـ فضلا عما لم نذكره من الأسباب الدولية ـ سيجر البلاد حتما إلى هذه النتيجة ونحن لا نتمنى لبلادنا هذا المصير ونسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين ويؤلف بين قلوبهم ويصلح ذات بينهم ويذهب ما في صدورهم إنه تعالى ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.