الجمعة، 30 مايو 2014

ضرورة التمييز بين الموقف الشرعي والسياسي .. وبيان موقف أهل السنة من الملكية الدستورية

بسم الله الرحمن الرحيم




السؤال :

السلام عليكم شيخنا العزيز .. أكن لكم كل احترام .. لماذا لم نسمع لكم أي مداخلة بخصوص الوضع السياسي المتأزم في البلاد؟ لماذا لا تدلون بدلوكم فأنتم تتحلون بقدر كبير من الإنصاف والاعتدال ؟ نعذركم إن كنتم تواجهون ضغوطا .. أتمنى لو تلخصون لنا رأي الشارع الموالي ـ السني ـ من الناحية السياسية كما ترونه، كما يهمني أن أعرف رأيكم الشخصي في الملكية الدستورية مع نصيحتكم ..

الجواب :

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..

أخي المفضال شكرا لكم .. وأنا لست رجل سياسة وإنما رجل فقه وحديث وأدب .. وأما في باب السياسة فأطالع بعض أخبارها كما يطالعها سائر الناس .. وأعجز عن فهم الكثير منها أو تفسيره .. وأكره أن أزج بنفسي فيها متكهنا متوقعا كما يفعله المحللون السياسيون فأقع في الكذب والبهتان ..  وأنا لا أحبها لأنها في الأعم الأغلب لم تبن على القواعد الشرعية وفيها الكثير من المحاذير، والمتورط فيها ـ في صورتها الحالية ـ مؤاخذ شرعا في كثير من مواقفه .. 



نعم ربما يختلط على بعض الناس الموقف الشرعي بالموقف السياسي فلا يفرقون بينهما، فمثلا إن كلمتي في تجمع السلمانية بتاريخ 14/3/2011م لا تأتي في إطار حراك سياسي، بل في ظل تكليف شرعي من باب المصالحة والمناصحة المتعينة على كل قادر وتهدئة الأجواء المشحونة، وقد تزامن هذا المقصد الشرعي مع مقصد سياسي ـ تقره الشريعة بل توجبه ـ متمثل بدعوة ولي العهد تلك الأوقات إلى التهدئة والصلح قدر المستطاع .. ولكن هذا الموقف الشرعي منا والمتناغم مع الموقف السياسي لولي العهد كان يتعارض في نفس الوقت مع موقف سياسي آخر يرفض فكرة الصلح والتهدئة ويتجه ناحية التصعيد .. وقد سيطرت الأطراف التي لم تكن مستعدة للصلح على الأجواء وكانت روح الانتقام ونفوس التشفي المريضة سيدة الموقف  .. لذلك لم يوفق ولي العهد ولم نفلح في مسعانا ، بل اعتبر المتعصبون مسعانا ـ من منظورهم السياسي المريض ـ مسعىً غير مشكور فنكون في نظرهم مخطئين متجاوزين للقانون ـ المطاطي ـ ومخالفين للمصلحة !! ولكن مثل هذا الرأي السياسي المحرم شرعا لا نعيره اهتماما ولا نقيم له وزنا إلا مضطرين، فالمعتبر لدينا دوما هو ما يقرره فقهاء الأمة المحمدية المبني على الأدلة المعتبرة شرعا ..
إذن فهذا الذي شرحته لك إنما هو مثال لموقف شرعي يندرج ضمن الواجبات الشرعية ويعتبر في نفس الوقت جريمة عند ماضغي القانون الوضعي .. ولكن بعض الخائضين لا يفهم هذا الموقف الشرعي لبعده عن الفقه الإسلامي ويتصوره موقفا سياسيا.
فهذا هو جوابي لسؤالك عن غياب موقفي السياسي، إذ موقفي حقيقة كان دوما حاضرا ولكن في مجاله الشرعي لا السياسي.

وأما ما ذكرت من الضغوط، فهي لم تكن ضغوطا فقط بل عقوبات لأننا لم نكن نؤيد الموقف السياسي الجانح المتجاوز لأحكام الشرع، ولا نحترم القانون الذي يخالف الشرع ولا طريقة تطبيقه إذ يتمطى ليطال قوما دون قوم، فهذا قد حدث أول الأمر ونرجو ألا يعود بعد اعتراف الجهات الرسمية بالخطأ والتسرع .. ولكن هذا كله لم يمنعنا أبدا من بيان الحكم الشرعي وإذاعته في كل المواقف السالفة منذ بدء الأزمة وإلى الآن، ومقالاتنا موجودة في هذه المدونة بتواريخها لمن شاء أن يتأكد .. وإن كان كثير من الناس من السنة والشيعة يكرهون ما نكتبه لأن السياسة غير الشرعية قد غمرت قلوبهم أكثر مما غمرها حب الشريعة الإسلامية أو لأنهم تبعوا بعض شيوخهم ظنا منهم أنهم يقودونهم بأمر الله ولا يدري المساكين أنهم تركوه إلى السياسة، أو لأنهم يفهمون الولاء فهما أحاديا سياسيا لا فهما شرعيا متمثلا في النصيحة الجامعة الشاملة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ..

تلخيص موقف الموالاة :

وبما أنك سألتني ملحا عن فهمي لموقف الموالاة فأنا ألخصه لك كالتالي:

مهما شككت في شيء أو ترددت في فهم الموقف السني ـ وهم من تعنيهم بالموالاة غالبا ـ أو لاحظت فيه تفرقا وتفتتا أو غرتك اختلافاته فلا تكن في شك من اجتماعهم جميعا بلا خلاف على ركنين اثنين يرتكز عليهما موقف الجمهور الأعظم من أهل السنة :

الركن الأول : ( الوفاء بالعهد )

فأهل البحرين من أهل السنة جميعا لا سيما العرب منهم من العوائل القديمة يعتقدون أن في أعناقهم بيعة لحكام البحرين متوارثة من أجدادهم إلى آبائهم، ويلقنها كل جيل من يليه فيقولون لهم حكامنا هم آل خليفة .. وهذا الاعتقاد المتوراث صار كالعادة لديهم حتى أولئك الذي يشعرون بالغبن والظلم وعدم الرضا لا يتجاسرون على نقض هذا العهد ويكتفي كثير منهم بالتذمر والشكاية، ويرون نقض العهد عارا وخيانة تسقط المروءة حتى كأن من تلبس به منهم قد أتى فاحشة أو جرما ..

ولا يوجد أي تفسير لهذا التقليد في نظري إلا الموروث الديني الأصيل القاضي بأن بيعة الحاكم لا تنتقض ولو جار وظلم، وهو الذي تقرر فقهيا في المذاهب الأربعة السنية .. فأهل السنة في هذا الباب ينطلقون من موروث ديني راسخ تحول إلى عقيدة تقليدية عرفية مبالغ فيها وتراث متجذر ، فلا سبيل إلى زعزعته رضى واختيارا، وأما بالإكراه والجبر فلا بد من سل السيوف وسيلان الدماء وتلف المهج والأرواح، وهذا ما سطرته التواريخ الخوالي وصدقته الأيام الماضية.

الركن الثاني : (الخوف من البديل)

وهذا ظاهر للعيان ولا حاجة إلى الإفاضة فيه لإثباته، فالخوف من الآخر والتحرز منه والخشية من تسلطه قائم وحاضر بقوة ليس بين الموالاة والمعارضة فقط أو بين السنة والشيعة فحسب، بل هو فاش حتى على مستوى الطائفة الواحدة فأهل السنة مثلا يشعر كل فصيل منهم بالخوف من الآخر والحذر منه، فذو السطلة فيهم يخشى من ضياعها من بين يديه وانتقالها إلى خصمه فينتقم منه والخصم يشكو ظلم أخيه وتعديه، وهذا كله بسبب تضييع حدود الله تعالى وعدم الوقوف عند أمره فنزغ الشيطان بينهم وسهل على ثعالب السياسة تفتيتهم .. فإذا كان هذا في الطائفة الواحدة فكيف بين طائفتين تتسع بينهما هوة الخلاف حتى أن بعض المتعصبين يشبهون الطائفتين بمعسكر يزيد والحسين ؟! فالخوف من البديل ظاهر قوي تغذيه أسباب كثيرة وتجارب تاريخية قديمة وجديدة لم يكتب لها النجاح لتكون أنموذجا مطمئنا.


فهذا هو تلخيصي لموقف الموالاة، وإن كنت خصصت أهل السنة بالذكر فأنا أعني بالتأكيد ضَمّ جملة من الشيعة إليهم يحملون نفس الفكرة الولائية ولكن بتعليل مختلف، ويشاطرونهم المخاوف ذاتها، وقد أشرت إلى ما يشهد لهذا الرأي في مذهب الشيعة الفقهي في مقال لي يمكن الاطلاع عليه هنا :

رأيي الخاص :

لا يختلف رأيي عن رأي أهل السنة في هذه المسألة فهو كما ذكرنا يعود إلى أصل أصيل قرره فقهاء المذاهب الأربعة عندنا وهو منع الخروج على ولاة العدل وولاة الجور أيضا، ومنع نقض بيعتهم ، ووجوب استبدال ذلك بالمناصحة والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنني أضع المسألة في حجمها الشرعي الصحيح فالمخالف فيها ليس كافرا ولا فاسقا إذا كان له تأويل سائغ كما قرره الفقهاء وإن كان مخطئا، ولذلك اتفق أئمتنا على أن أي طرف من أطراف النزاع في حرب الجمل وصفين ليس كافرا ولا فاسقا وإن كان الصواب مع أمير المؤمنين علي، فإن الفسق مرفوع عمن نازعه لمكان التأويل والشبهة وإن استحقوا لقب البغاة والدفع والقتال عند الضرورة ، وهذا مبحث غفل عنه أو أغفله كثير من ذوي المعارف الدينية فما ظنك بالعامة من الناس !!
وبناء على هذا كنت حذرت المعارضة في كلمتي من المطالب العالية جدا كإسقاط النظام ونحوه ، ومثلها ما يسمى الملكية الدستورية والتي تجرد الحاكم من أهم صفاته وتجعله تحفة فنية جامدة ، فهذا لا يختلف كثيرا عن إسقاط النظام، وهذا المشروع محكوم عليه بالفشل الذريع لأسباب أهمها :

السبب الأول : ما تقدم ذكره من الركنين الراسخين لدى أهل السنة ولا يتصور تنازل عنهما قط، فهي عقبة كأداء دائمة أمام هذا المشروع الذي تتبناه المعارضة ويجب عليها أن تأخذه بعين الاعتبار في مطالبها ضرورة أن النجاح في إنهاض الوطن لا يتصور دون التئام أطرافه وتوازن جناحيه.


السبب الثاني : أنه لا يوجد سلطان اليوم تجود نفسه بمثل ذلك، كما لا يجودون بأرواحهم ، وقد ولى زمان أبي محمد الحسن بن علي الذي ترك الخلافة لخصمه اللدود ، فهو معجزة نبوية لا تتكرر في التاريخ، والمراهنة على مثلها خاسرة بكل المقاييس، فمن عارض سلاطين هذا الزمان فقد أودى بنفسه وعرضها للتلف ، فمن نازعهم فيه نازعوه روحه التي بين جنبيه وأوردوه الهلكة .. وهاهي ذي التجارب المعاصرة في ليبيا وتونس ومصر والشام واليمن والبحرين حاضرة ماثلة للعيان فكم أزهقت الأرواح وأتلفت الأموال وهتكت الأعراض وانتهكت الحرمات بأنواعها وذاق الناس أصناف العذاب دون فائدة أو جدوى .. والإصرار على بعض المواقف السياسية المتشددة التي تتجاهل ما ذكرته ـ فضلا عما لم نذكره من الأسباب الدولية ـ سيجر البلاد حتما إلى هذه النتيجة ونحن لا نتمنى لبلادنا هذا المصير ونسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين ويؤلف بين قلوبهم ويصلح ذات بينهم ويذهب ما في صدورهم إنه تعالى ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق