الخميس، 26 أبريل 2012

المقامة الأقطية

المَقامَة الأقِطِيَّة


صورة الأقط

لما قفلت راجعا من عَمَّان، في غابر الزمان - ووجهتي البحرين بلادي، وموطن نشأتي وميلادي - حطت بنا طائرة الراحة الضرورية، في مطار إحدى الإمارات العربية، وفي جعبتي من الزمان، ساعتان، فحدثتني نفسي الأمارة ـ والوقت ميسور ـ بزيارة سوق الإمارة المشهور، وكنت تذكرت صنفا من الأقط بيع في البحرين منذ أمد، تعزى صنعته إلى هذا البلد، فعقدت العزم على ابتياعه، من أهله وصُناعه، فاكتريت سيارة تتدفق في الزحام كالسيل، وتركض ركض الأيل، وفي خلوّ الطريق كالبروق، وإذا هي في خاصرة السوق، فترجلت وتجولت في أمده، إلى أن حللت في كبده، والهواء مضجر حارّ، والعرق مدرار، مع أن سراج السماء منطفئ، ورداء الليل علينا منكفئ ..

ومع أني سرت في السوق مليا، فما رمقت عربيا ! ولم أر في الجامع إلا القليل، من أبناء السودان والنيل، وكلما ذكرت الأقط قالوا، ما سمعنا به قط ومالوا، لأنه إنما تعرفه العرب قوتا وحرزا، ولست أحس منهم من أحد أو أسمع لهم ركزا !! فأنشدت :

فأين السبيل وأين الدليل؟ * وأين الطريق وأين المفر؟

وفي كل السوق عرضه وطوله، لم أحظ بمثوله، ولا ترى إلا بني "راجو" ومن في فلكهم ماجوا، ويؤنسك أن ترى أبناء الإسلام من أهل خير الله، التي يسمونها "كيرلا" وأما العرب فلا إله إلا الله، وسبحان الله، وتذكرت قول القائل:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وبينما أكابد قرصات الدقائق وأعاني، وأعالج المرارة من لدغ الثواني، إذا بياض ثياب من بعيد تتلألأ وتلمع، وبأنوار العروبة تنضح وتسطع، وكأني بنور ذلكم الشال، قد طوقه سواد العقال، فهرعت إليه أشتد، ولسان حالي قد أنشد :

يا ناق سيري عنقا فسيحا * إلى سليمان فنستريحا

فلما أتيت سليمان المقام، حييته بتحية الإسلام، فأجاب بالجواب المريح، واللسان الفصيح، فطفقت أشكو إليه انقراض العرب والأعراب، وكأنهم سراب، فلم يتكلم، لكنه تضجر وتألم، وهز رأسه قرفا، كأنه يقول وا أسفا، ثم سألته عن الأقط أين مصطنعه ومشتراه؟ وكيف ألقاه؟ فرفع كلتا يديه وقال:       

((كلام هذا إنتا أنا ما في معلوم)) !

فرجعت القهقرى، وبهت كأني لا أسمع لا أرى، ولم أزد على أن سلمت ومضيت تلفني الأحزان، ويضيق صدري ولا ينطلق اللسان، وعافت نفسي الأقط مما رأيت وسمعت بالمرة، واستشعرت الحسرة، وعدت أدراجي إلى المطار مشدوها، أقول في نفسي : 



يالله ما لهذه البلدة؟ أين أهلوها؟ أين ذهب ناسها، وأصلها وأساسها؟ أهجروا البلاد؟ أأفناهم الجلاد؟ أطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وبعد عشر سنين من قصة الأقط الحزين، وبينما كنت أجول في شوارع المنامة، تذكرت قصة الأقط في حسرة وندامة، لا أدري كأن القصة المُرَّة قد رجعت كَرَّة، فأنشدت أقول:

يالنجد وتهامة ** يالأصحاب الشهامة
هذه والله كبرى ** من علامات القيامة
مُسِخَ العُرْبُ هنودا ** نسأل الله السلامة
هذه بومبيْ أو دِلـ ** هيْ، وليست بالمنامة

هناك 4 تعليقات:

  1. والمعنى في قلب الشاعر

    ردحذف
  2. المقامة نوع من أنواع الفنون العربية، يصوغها الأديب بلسان فصيح، يتناول فيها حدثا معينا، ويستعمل السجع والتشبيهات والاستعارات وأنواعا من البلاغة، وقد تكون المقامات واقعية، وقد تكون خيالية، ومن أشهر من كتب في المقامات العلامة الهمداني، والإمام أبو القاسم الحريري صاحب المقامات العجيبة، وهي مسلية ومفيدة، وقد تستعمل لتوصيل فكرة معينة، ومقامتنا هذه واقعية.

    ردحذف
  3. الله أكبر ما أجملها من مقامة ، ولانستطيه أن نوليها الملامة ، صعبت حروفها عن فطن الأناسي ، وأعضل سبكها على الأديب النطاسي ..
    بوركتم سيدنا ومولانا الشيخ ..

    ردحذف
    الردود
    1. والشكر لكم ابن أخي على المطالعة والتعليق، والثناء الحلو الرقيق، فقد أخجلتم إحساسي، وأعجلتم ارتماسي، في بحر جودكم، ونعمة وجودكم، وبارك الله فيكم، والسلام عليكم.

      حذف