الخميس، 14 أغسطس 2014

التَّحِيَّة لمفتي الدِّيَار المِصْرِيَّة

التَّحِيَّة لمفتي الدِّيَار المِصْرِيَّة



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي رفع منار العلم، وخفض راية الجهل، وأبقى بين ظهراني المسلمين أئمة ذوي رسوخ في العلم وعزائم، يصدعون بالحق لا يخافون لومة لائم .. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول رب العالمين، وإمام المسلمين، القائل : "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وعلى آله سفينة النجاة وحبل العلم الممدود، وأصحابه حصن الدين المنيع المشدود  ..

وبعد ..

فمذ أُعْلِن عن إحالة أوراق مئات من المسلمين في مصر إلى العلامة مفتي الديار المصرية وأنا وَجِل من أن يصادق الشيخ على هذه الإعدامات ..

مفتي الديار المصرية شوقي علام

لقد بذلت كل جهدي لمحاولة التعرف على الحكم الشرعي لهذه المسألة مِنْ قَبْلُ عندما وقعت عندنا في البحرين، فحررتها تحريرا في مقالي :


وبينت فيه أن المطالبة بالإعدام والقتل مصادمة لما هو مقرر في الفقه الإسلامي بمذاهبه المعتبرة، ونقلت النصوص في ذلك، وبينت أن المسألة تُسْتفاد أحكامُها من باب البَغْي من كتب الفقه الإسلامي، لا من باب الحرابة ولا الردة ولا غيرهما، وأن إخراج هذه المسألة من بابها الأصل إلى غيره جنوحٌ عن الصواب وإبعادٌ للنُّجْعة، وأن تطبيق ما يسمى بالخيانة العظمى في هذه المسألة تشديدٌ وقسوةٌ مرجعُه القوانين الوضعية المصادمة للشريعة الإسلامية السمحة.

وعندما وقع مثل ذلك في مصر وثار من ثار على الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وصار في الأسر طالب كثير من الناس بإعدامه ومن معه ! وهذا أيضا جهل بحكم هذه المسألة، لأنه هو الحاكم المَبْغِيُّ عليه المنزوع من سلطانه، فلو دَفَعَ هو من خرج عليه لكان له ذلك بشروطه فكيف يتحول بعد ذلك إلى محكوم بالإعدام؟!



ولو ساغ مثل هذا الخبط من العامة والدهماء فكيف يسوغ ممن آل إليهم الأمر من محبي الشريعة ومناصريها المنادين بتطبيق أحكامها ورافعي شعار الحلول الإسلامية ؟! إن هذا لعجيب.

فلما صار الأمر إلى الإخوان المسلمين واستقر لهم الأمر لم يكن الخروج عليهم جائزا كذلك ـ وإن كانوا بغاة في الأصل لاشتراكهم في نزع الحاكم الأسبق ـ ولكن الناس أعادت الكرة ولم تصبر عليهم، فخرجوا عليهم ونزعوهم من الحكم، فاجتمع في الإخوان وصف البغاة ـ باعتبار ما كان منهم سابقا ـ ووصف المَبْغِيِّ عليهم ـ باعتبار ما آل إليه الأمر ـ فَدُفِعُوا دفعا قُتِل فيه من قتل منهم حتى استقر الأمر الآن لهذا السلطان الجديد.

ووُضِع الإخوان في السجون وحُكِمَ بالقوانين الوضعية على كثير منهم بالإعدام مرة أخرى !

إن هؤلاء في أسوأ أحوالهم ـ حتى أولئك الذين باشروا القتال ـ لا يزيدون عن أن يكونوا بغاة تجري عليهم أحكام باب البغي، وليس فيه إعدام ولا تضمين على تفصيل ذكرناه، وإنما هي فتنة يجب على المسلمين وأدها والإياب منها إلى الصلح والصواب، فمن أين يأتي الإعدام لولا القوانين الوضعية المخالفة للشريعة السماوية؟؟!!

فلما أحيلت أوراق المئات منهم إلى مفتي الديار المصرية كنت وَجِلا من أن يصادق المفتي على قرار الإعدام، لأننا نحن المشتغلين بالعلم نعلم أن هذه المصادقة حينئذ لن تكون إلا نزولا لرأي شاذ أو قانون وضعي ـ وما أكثر مفتي الأقوال الشاذة ـ أو خضوعا لضغوطات سلطوية، وهذا فيه ما فيه مما يمس الشريعة والأزهر والإفتاء، وفكرت في مكاتبة العلامة المفتي ببحث المسألة لشدة وضوحها لديَّ غيرة على أحكام الشريعة أولا وغيرة على الأزهر والإفتاء الشامخ ثانيا، ثم إني عدلت عن ذلك، وقلت : من أنا حتى أكتب إلى مفت وحوله مفتون يحررون المسألة؟ ولئن كان الإفتاء هناك خاضعا لأي ضغوط فما عساه يستفيد مما أكتبه؟ فالله يؤيدهم ويمدهم بالصواب، وصرنا نترقب ما يتمخض عن دار الإفتاء.


ولكن ولله الحمد لم يخيب الإفتاء الشامخ رجاءنا، ورفض الشيخ العلامة المصادقة على هذا الحكم المصادم للشريعة الإسلامية، وكرر رفضه حتى وجدت نفسي مدفوعا إلى تسجيل التحية لمفتي الديار المصرية.


هناك تعليقان (2):

  1. بارك الله فيكم و أيدكم.
    سيدي عبد الرؤوف وفقكم الله،هل ترون أنَّ من يحكِّم القوانين الوضعية و يجعلها مكان الشريعة الإسلامية،و يُشرِّع القوانين المخالفة و المضادة للشريعة الإسلامية حاكما شرعيا تجدب طاعته؟

    ردحذف
    الردود
    1. لا يتصور وقوع ذلك من حاكم مسلم على سبيل الابتداء والإنشاء، فتنحية الأحكام الشرعية القائمة واستبدالها بوضعية لا يفعله مسلم ولذلك فإن التنحية والاستبدال لم يقع غالبا ـ وبحسب علمي ـ إلا في عهد الغزو الصليبي لديار الإسلام فيخضع الحاكم لذلك رهبة . فما يقع اليوم من إجراء الأحكام الوضعية ما هو إلا استسلام لأمر سابق فرض على الناس فلا يتصور من حاكم مسلم إقرار ذلك رغبة منه بل لا يفعله إلا ضعفا منه عن التغيير أو خوفا وجبنا أو جهلا بما يجب عليه .. فهذا هو اللائق بحال المسلم في أسوأ الظروف .. وأما لو فرضنا حاكما مسلما يعمد إلى أحكام شرعية معلومة من الدين بالضرورة مستقرة واضحة فيكر عليها بالتغيير والتبديل لا يدفعه إلى ذلك خوف ولا وجل بل يظن أن ذلك جائز له فهذا لا بد أن يبين له العلماء خطر ما فعل ويوضحوا له أنه كفر بالله وخروج عن الإسلام، فإن أصر بعد ذلك فهو كافر ولا كرامة، ولكن كما قلت لك: لا يتصور هذا من مسلم عادة وغالبا.. فهذا الجواب أذكره لك على سبيل الاختصار وإلا فالمقام يحتمل شرحا طويلا وتفصيلا أكثر، وحاصل الكلام أنه ليس بمجرد التغيير يحكم بكفر الفاعل بل لا بد من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، وهو أمر لا يقوم به إلا العلماء الراسخون، فإذا قيل لحاكم مسلم لم لا تطبق أحكام الشريعة كاملة ؟ فاعتذر بالخوف من كذا وكذا وأنه يريد تطبيقها في نفسه ـ كما هو حال أكثر الحكام المسلمين اليوم ـ فهذا لا يحكم بكفره وإن كان قد يستحق ما هو أقل من الكفر بحسب ما يدلي به من عذر .. وإذا لم يخبر الراسخون بكفر حاكم من المسلمين فطاعته واجبة في المعروف لا المنكر والله أعلم.

      حذف