بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده،
والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، سيد العرب والعجم، وخير من مشى على قدم،
من مدحه ربه في كلامه المحكم القديم، بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم)، سيدنا
ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد ..
فإن من الرجال العظماء
الذين اشتهر أمرهم أواخر القرن الثالث عشر الشيخ العالم العارف بالله والدال عليه،
من أعطاه الله من خَيْرَي الدنيا والدين، ورُزِق القبول العجيب في الأرض والتمكين :
السيد الجليل: محمد بن
طاهر بن عمر بن أبي بكر الحداد اليمني الحضرمي المنتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن
أبي طالب رضي الله عنهم المتوفى سنة 1316هـ
لم أجد صورة للسيد محمد
بن طاهر وهذه صورة ولده علوي بن محمد بن طاهر.
وكانت للسيد المذكور
رحلات كثيرة، منها ثلاث رحلات إلى الهند، كانت الثانية سنة 1312هـ، إذ سار بجماعة
من أصحابه متكفلا بنفقاتهم جميعا، ومنذ خروجه من اليمن إلى وصوله إلى الهند والناس
تستقبله استقبال السلاطين والملوك، وهو ينفق مثل نفقاتهم، وينثر الدراهم على الناس
لا يميز بين غني وفقير أو رجل وامرأة أو كبير وصغير أو مسلم وكافر .. وهو مع ذلك
يدعو إلى الله تعالى على بصيرة، ويذكر به، ويجتذب القلوب إليه، ويدخل الناس بسببه
في الإسلام ..
وكان من أصحابه وطلابه
الذين رحلوا معه وشاهدوا أحواله العجيبة ودونوها: العلامة الشهير السيد الجليل عبد
الله بن طاهر الحداد المعروف بالهدار المتوفى سنة 1367هـ، فقد ألف في سيرته كتابا
كبيرا سماه "قرة الناظر في مناقب الحبيب القطب محمد بن طاهر" وقد
رأيته ذكر أحواله عند نزوله مدينة بومبي فقال :
((.. وتعالَمَ به الناس
فقصدوه يلتمسون من بركاته ويقتبسون من أشعة أنواره، على اختلاف أجناسهم، وأكْثَرَ
التَّرْدادَ إليه أناسٌ من عرب البحرين، يلقبون بآل مشاري وينتمون إلى سيدنا خالد
بن الوليد رضي الله عنه، وأخذ عنه ـ قُدِّسَ سِرُّه ـ بعضُهم .. على ما في أهل تلك الجهة -
أعني البحرين - من الصَّلَف وعدم الانقياد، فجذبهم ما شاهدوا من أخلاقه، التي هي أرق
من النسيم إلى العكوف على بابه والانطراح على أعتابه..)) انتهى المقصود من
كلامه.
إبانة
وإيضاح لكلام العلامة السيد الهَدَّار:
أما قوله رحمه الله: (وأكثر الترداد إليه أناس من عرب البحرين، يلقبون
بآل مشاري وينتمون إلى سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه)
فيذكر السيد الهدار هنا
أن من بين المكثرين من زيارة السيد محمد بن طاهر الحداد وهو في الهند – بومبي -
جماعة من آل مشاري، وذكر أنهم من البحرين، وأنهم ينتمون إلى سيدنا خالد بن الوليد،
أي أنهم من العرب من قبيلة بني مخزوم الشهيرة، وانتساب آل مشاري إلى البحرين خاصة
دليل على شدة حبهم وتعلقهم بالبحرين مع أن آل مشاري هؤلاء – المشار إليهم هنا – تجار
تنقلوا بين الزبارة والأحساء وقيس وفارس – لنجة – وبومبي، لكنهم لم ينتسبوا إلا
إلى أصلهم الأصيل وهو البحرين.
نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الــحــب إلا للـحــبـــيـــب
الأول
ومن آثارهم الخالدة
مسجدهم الذي ينسب إليهم في مدينة المُحَرَّق في البحرين، وكان فيهم تجارة اللؤلؤ
وغيره، ولهم أعمال خير وبر، ومن أراد المزيد من أخبارهم فليرجع إلى كتاب (أعيان البحرين) لتلميذنا مؤرخ البحرين البحاثة
الأستاذ بشار الحادي بارك الله في جهوده.
قال السيد الهَدَّار: (وأخذ عنه - قدس سره - بعضُهم)
أي أن بعض آل مشاري
لازموا السيد محمد بن طاهر الحداد في بومبي وأخذوا عنه أي صحبوه وانتفعوا بأحواله،
أو قرءوا عليه شيئا من العلم، ومن هذا البعض الشيخ أحمد بن عبد الوهاب المشاري،
حتى كتب له السيد محمد بن طاهر وصية وإجازة سأذكرها آخر المقالة.
قال السيد الهدَّار : (على ما في أهل تلك الجهة - أعني البحرين -
من الصَّلَف، وعدم الانقياد)
هذا الكلام من السيد
الهدار قد يبدو وكأنه ذم، ولكن حقيقته المدح، وبيان ذلك أن قبائل البحرين خليط من
ربيعة ومضر، فمن ربيعة: عبد القيس وبنو حنيفة وتغلب، ومن مضر: بنو تميم ..
فأما ربيعة فحسبك قول
قائلهم: (كذاب ربيعة خير من صادق مضر)
وهذا كلام قاله الكافر منهم في مسيلمة وهو يعلم أنه كذاب مدع للنبوة، يفضله على
سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه الرسول الصادق الأمين !! وهذا
غاية ما يكون من التعصب للأنساب والعشيرة، وقد انتشرت ربيعة في البحرين فمنها جاء
الفخر والخيلاء، وهذا هو (الصَّلَف)
الذي عناه السيد الهدار.
وأما مضر فقد انتشرت
منهم بنو تميم في البحرين، وهؤلاء قد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (هم أشد أمتي على الدجال) متفق عليه. فهم لا ينقادون لدجال آخر الزمان – وهو
أخبث الدجالين - ولا تنطلي عليهم حيله وخوارقه التي يُفتن بها كثير من الناس، بل يكونون
حربا عليه، فكيف تنطلي عليهم حيل من دونه من الدجالين؟! وهذا ما عناه السيد الهدار
بقوله (وعدم الانقياد).
فقد اجتمع في أهل
البحرين فخر بالأنساب واعتداد بالنفس لا يرون معه لأحد مزية عليهم، وهم فوق ذلك لا
ينقادون لمن يتعاظم عليهم ولو جاء بخوارق العادات وأنواع العجائب، ولكن الإسلام
هذبهم ونَهْنَهَ من غلوائهم فبقيت تلك الخصال فيهم على حال لا يبلغ من القبح ما
كان سالفا.
فإذا رأيت أهل البحرين
مالوا إلى رجل ليس منهم فوقروه ورفعوه واعتقدوا صلاحه وتقواه وولايته فاشدد به
يديك، وعض عليه بنواجذك.
فالسيد الهدار رحمه
الله تعالى أراد هذا المعنى الآنف، بأن يستدل لصلاح وتقوى العلامة العارف بالله
محمد بن طاهر الحداد باعتقاد أهل البحرين فيه وميلهم إليه، وأخذهم عنه، وكأنه يقول
يكفيك هذا وحده شاهدا على علو مقام السيد ابن طاهر وصلاحه وولايته، فبان أن قصده
مدح أهل البحرين لا ذمهم.
قال السيد الهدار: (فجذبهم ما شاهدوا من أخلاقه التي هي أرق
من النسيم إلى العكوف على بابه والانطراح على أعتابه)
ههنا يذوب الصلف
البحراني وينقاد – ببركة الإسلام - لا يعبأ بمال أو جاه أو سلطان أو أنساب، ولكنهم
تأملوا خلق السيد محمد بن طاهر الحداد مَلِيّاً فعلموا أنه ليس بخلق كذاب مدّعٍ،
فلما علموا صدقه رفعوه وأحبوه وانقادوا له.
وإذا تأمل القارئ هذا
الموقف البحراني هنا مع العارف بالله ابن طاهر، وقارنه بالموقف البحراني الآخر
الذي تحدثنا عنه في المقال السابق مع العارف بالله عبد القادر القصاب الدير عطاني صح
عنده أن للبحراني قدرة على استنشاق عبير الصالحين ونفحات الصادقين فمهما أحس بالأخلاق
النبوية ولمس الشمائل المصطفوية زال صَلَفه وسهل انقياده، ومتى ذهبت محاسن الأخلاق
ونفائس الأعلاق الإسلامية، وحل محلها عوائد الجاهلية، رجع البحراني إلى صلافته وصلابته
وجلافته وعناده ولسان حاله ينشد:
ألا لا يَجْهَلَنْ
أحدٌ علينا * فنَجْهَلَ فوقَ جهل الجاهلينا
فمن شكا من أخلاق بعض
أهل البحرين فليفتش في أخلاق نفسه.
ولنختم هذه المقالة بنص
إجازة العلامة ابن طاهر للشيخ أحمد بن عبد الوهاب المشاري رحمهم الله تعالى.
قال العلامة ابن طاهر
الحداد:
((بسم الله الرحمن
الرحيم
"بسم الله مجرىها ومرسها" إليه سيرها وإليه
منتهاها.
الحمد لله حمد الذاكرين
الشاكرين، حمدا ظهرت أنواره، وانبسطت على العبد أسراره، وكملت باتصاله معانيه،
وطهرت عن الشك مبانيه، وصلى الله وسلم على واسطة كل كائن، وشفيع المذنبين يوم
التغابن، وعلى آله وأصحابه وسائر أحبابه من أهل اليقين، الواصلين والسالكين،
والمحبين لهم إلى يوم الدين.
أما بعد
فقد طلب مني الإجازة
المحبُّ الأسعد الموفق إن شاء الله، ومن نرجو له الجمع بين خيري الدارين، بالأمر
الاضطراي والاختياري، الولد أحمد بن عبد الوهاب المشاري، فأجبته لحسن نيته، ونصوع
عقيدته.
فأقول
والله المستعان:
لا بد يا محبي قبل
الإجازة من الوصية، فأوصيك بتقوى الله، وصية الله لعباده، وهي عبارة عن امتثال أمر
ربك واجتناب نهيه، فمتى قمت بالفرض اللازم، واجتنبت المحارم، صرت في رتبة تسمى
رتبة الامتثال، فإن أكثرت النوافل مع الإخلاص صرت في قرب ربك حتى يحبك ويكفيك
أمورك كلها، ويُخْدِمَك الكون وأهله طوعا وكرها.
والنوافل أجناس، وهي
تختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من تحسن منه كثرة الصلاة، ومنهم الذكر، ومنهم قراءة
القرآن والحديث، ومنهم الدعاء، ومن الناس من يجمع بين ما ذكر من كل شيء ما تيسر،
بشرط حضور الفكر في القلب، فالمدد هنا، وأما قراءة الأوراد مع عدم الحضور فهو وإن
كان لا يخلو من سرٍّ فهو قليل الفائدة، ومنهم من نوافله كثرة الصدقة إلى القرابة
والأرحام والمحاويج، وهم أهل الأموال، فهؤلاء لو أطاعوا بنوافل أخرى لا تجدي لهم
مع البخل.
والشيطان حريص على
إضلال الإنسان ما أمكن، حتى إنه يحَسِّن للإنسان الكثرة من الصلاة والقراءة
والأوراد حتى يتعبه، ثم يعجز فيما بعد، ويكسل عليه، فالأولى للعاقل البصير أن
يكيده ويدرب نفسه قليلا قليلا، وأحب الأعمال إلى الله ما قل ودام، وبر الوالدين
أفضل القُرَب وأحبها إلى الله.
وأجزت المحب المذكور في
قراءة القرآن والحديث المُشَكَّل، وفي طلب العلم، وفي جميع الأوراد والأذكار
النافعة، وفي كل ما يقربه إلى ربه، إجازة خاصة وعامة.
وأطلب منه الدعاء لي
بصلاح أحوالي كلها، على ما يحب ويرضى مولاي، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم)) انتهى نص الإجازة.
وبهذا تنتهي المقالة
والحمد لله رب العالمين.
اقرأ إن شئت : العلامةعبد القادر القصاب وآل المهزع
جزاكم الله خيرا شيخنا الكريم وكثر خيركم
ردحذف