الجمعة، 21 فبراير 2014

بين الملك عبد العزيز آل سعود وشيخ الإسلام الظواهري في المؤتمر الإسلامي الأول بمكة المكرمة

بسم الله الرحمن الرحيم


عندما دخلت مكة تحت سيطرة النجديين نهض العالم الإسلامي مضطربا وجلا مما قد يفعله البدو فيها وفي المدينة المنورة فيما بعد .. فقد فرطت مذبحة الطائف، وعملت معاول الهدم في القباب والمآثر .. وقد باتوا قاب قوسين من المدينة النبوية .. حيث القبة الخضراء في خطر عظيم .. والمساس بها يعني حربا ضروسا أخرى بين الوهابيين والعالم الإسلامي دون شك.

اتجهت أنظار العالم الإسلامي كما هي العادة إلى مصر مركز قيادة العالم الإسلامي بعد الدولة العثمانية المريضة، واستعدت بعثة على رأسها الإمام محمد بن مصطفى المراغي لمقابلة الملك علي بن الحسين الذي يستصرخ العالم الإسلامي في جدة، ثم مقابلة الملك عبد العزيز آل سعود ..
أطلق الملك عبد العزيز ـ الذي لا يزال في مكة ـ وعوده وأقسامه للبعثة المصرية أنه لن يقدم على شيء يحزن العالم الإسلامي من حوله وأن ما يروج عن جلالته ما هي إلا تخرصات ووشايات .. 

مقال سابق بعنوان : وعود الملك عبد العزيز بن سعود

وبمجرد عودة البعثة المصرية هجم البدو على ما بقي من تلك المآثر في مكة فأفنوها وبددوها .. وساد القلق العالم الإسلامي وقل الحجاج جدا في موسم حج تلك السنة وعاد من عاد منهم ساخطا غاضبا لهول ما شاهد ورأى ..

جريدة مصرية تندد بأفعال البدو

أدرك الملك عبد العزيز أن تصرفا حكيما سريعا وحاسما يجب أن يطمئن العالم الإسلامي قبل فوات الأوان، فكان الإعلان عن المؤتمر الإسلامي الأول في مكة الكرمة لبحث شؤون الحجاز .
حضرت وفود العالم الإسلامي إلى مكة وقرروا ما قرروه .. ولأن النجديين لم يرق لهم ما قرره المؤتمر الإسلامي الذي تُمَثِّل وفوده العالم الإسلامي فقد قدم الملك عبد العزيز خطابا للمؤتمر قد يفهم منه الاستدراك على المؤتمر، فكتب شيخ الإسلام محمد الأحمدي الظواهري رأس البعثة المصرية ردا على خطاب جلالته، ولكن الخطابين سُحبا، حيث سحب الملك عبد العزيز خطابه، فامتنع الإمام الظواهري من تقديم خطابه، وسجلهما معا في مذكراته فماذا كان في الخطابين ؟  :



خطاب جلالة الملك عبد العزيز آل سعود للمؤتمر الإسلامي
الأول في مكة المكرمة في موسم الحج سنة
{1345هـ = 1926م}

لا أريد أن أتدخل في أعمالكم ولا أقيد حرية المؤتمر في البحث كما وعدت بذلك في خطاب الافتتاح ولكني أريد أن ألفت نظركم الكريم إلى بعض الأمور بصفتي زعيما من زعماء الإسلام الذي ألقيت إليهم مقاليد أمور هذه البلاد.
إن الدعوة التي وجهتها إلى ملوك المسلمين وأمرائهم وشعوبهم والتي عليها أوفدت الحكومات والشعوب ممثليها تنحصر في إسعاد هذه البلاد وإنهاضها من كبوتها وجعلها في المستوى اللائق بكرامة المسلمين دينيا وعلميا واقتصاديا وأدبيا. ولقد كنت أنتظر من حضراتكم كما ينتظر إخوانكم المسلمون في كل مكان أن تخطوا خطوات واسعة في هذا السبيل ولكن يظهر أننا نحاول القيام بكل شيء في أول مؤتمر إسلامي، وأخشى أن حرصنا على القيام بكل شيء يجعلنا نفقد كل شيء، وأفضل شيء التدرج في السير، فرب عجلة وهبت رينا.
إني وإن لم أحضر مجلسكم واقف على مباحثكم بالتفصيل، فإني على اتصال دائم روحي بكم، ويهمنا جدا أن تنجحوا حتى نبرهن للعالم أن المسلمين أهل للحياة وأنهم يجب أن يأخذوا قسطهم من الحياة في هذا الوجود وأن دينهم لا يحول دون رقيهم وأنهم وإن اختلفوا في الآراء والأفكار فهم أمام المصلحة العامة كتلة واحدة لا تنفذ إليها الأغراض والأهواء.

أيها الإخوان :
إني لا أريد علوا في الأرض ولا فسادا ولكن أريد الرجوع بالمسلمين إلى عهدهم الأول عهد السعادة والقوة، عهد الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، لا شيء يجمع القلوب ويوحدها سوى جعل أهدافنا تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بقعة في الأرض تصلح لهذا الغرض سوى هذه البقعة الطاهرة التي منها بزغ شمس الإسلام، ولذا فإني أرى أن تكون الكلمة العليا والرأي النافذ لجميع العلماء المحققين الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم وأن جميع البلدان الإسلامية مملوءة بالعلماء أولوا البصيرة والخبرة فلترسل كل أمة منهم جماعة ليقوموا بالوعظ والإرشاد وتقرير ما يجب تقريره في هذه البلاد.
كلنا يعلم أن هذه البلاد ينقصها شيء عظيم من الإصلاح دنيا ودينا، فشاركونا في ذلك نشكركم ويشتد ساعدنا بكم، أما تركنا نسير وحدنا والوقوف موقف الناقد العاذل فذلك لا يليق بالأخوة الإسلامية.

أيها الإخوان :
إنا لا نُكْرِه أحدا على اعتناق مذهب معين أو السير في طريق معين في الدين فذلك موكول أمره لعلماء الدين وحملة الشريعة، ولكني لا أقبل بحال من الأحوال التظاهر بالبدع والخرافات التي لا يعتبرها الشرع وتأباها الفطرة السليمة.
لا يُسْأَلُ أحد عن مذهبه وعقيدته، ولكن لا يصح أن يتظاهر أحد بما يخالف إجماع المسلمين أو يثير فتنة عمياء بين المسلمين، وخير لنا أن ننظر إلى صالح المسلمين ونترك هذه الأمور الجزئية للعلماء فهم أحرص منا على ذلك.

أيها الإخوان :
أرجو أن لا نضيع الفرصة الباقية قبل أن تستفيد البلاد المقدسة منكم حتى يجيء الحج القادم ويشعر المسلمون الوافدون أنكم قمتم بواجبكم نحو هذه البلاد.
وبهذه المناسبة أقدم لكم خطتنا السياسية لهذه البلاد لترشدونا إن أخطأنا وتؤيدونا إن أصبنا :
(1)       إننا لا نقبل أي تدخل أجنبي في هذه البلاد الطاهرة أيا كان نوعه.
(2)  إننا لا نقبل امتيازات لأحد دون أحد بل جميع الوافدين لهذه البلاد يجب أن يخضعوا للشريعة الإسلامية.
(3)  أن البلاد الحجازية يجب أن يوضع لها نظام حيادي خاص، لا تحارِب ولا تحارَب، ويجب أن يضمن هذا الحياد جميع الحكومات الإسلامية المستقلة.
(4)  النظر في مسائل الصدقات والمبرات التي ترد من سائر الأقطار الإسلامية ووجوب صرفها وانتفاع البلاد المقدسة منها.
هذا ما أحببت تقديمه إليكم والله بتولانا وإياكم برعايته ويوفقنا جميعا لما فيه خير الإسلام والمسلمين.

مذكرة
شيخ الإسلام محمد الأحمدي الظواهري
شيخ الأزهر الشريف لاحقا
ردا على الخطاب الملكي









قد عَرَّض جلالته بأن المؤتمر وقف من حكومة جلالته موقف الناقد العاذل، وعقيدتنا أن جميع أعضاء المؤتمر ما كانوا يقصدون إلا إسعاد الحجاز وأن قلوبهم كانت ممتلئة بالإخلاص.
ولقد أعرب جلالته عن الرغبة في ترك المسائل الدينية للعلماء.

وظاهر أن ذلك لا يمكن أن يكون لعلماء مذهب واحد ولا لعلماء المذاهب على أن يجتمعوا من سائر الأقطار بمكة للتناظر والمجادلة وإيقاظ التعصب المذهبي، إنما الممكن أن يكون ذلك لعلماء كل المذاهب على أن يرشد كل فريق أتباع مذهبه إلى حكم الله في ذلك المذهب وإرشاد الحكومة الحجازية إلى ما هو من مواضع الوفاق وما هو من مواضع الخلاف, وهذا هو ما قرره المؤتمر في هذا الشأن قبل أن يصل إليه كتاب جلالته.

ولقد قال أنه : (لا يقبل بحال من الأحوال التظاهر بالبدع والخرافات التي لا يعتبرها الشرع وتأباها الفطر السليمة).

وهذا قول حق إذا كان المراد به ما يقرره جميع علماء المذاهب الإسلامية أنه من البدع والخرافات، أما ما يقول فريق من العلماء إنه منها ويقول فريق آخر إنه ليس منها فلا تمكن الموافقة على أنه مدلول هذه الفقرة.

وقد قال جلالته أنه : (لا يسأل أحدا عن مذهبه ولكن لا يصح أن يتظاهر أحد بما يخالف إجماع المسلمين أو يثير فتنة عمياء).

وهذه الكلمة الأخيرة (أو يثير فتنة عمياء) واسعة النطاق غير محددة ! فقد يفهم قوم أن من التظاهر بما يثير فتنة عمياء التظاهر بمنع الناس من أمور جائزة في مذاهبهم، وقد يفهم آخرون أن من ذلك : التظاهر بفعل ما تبيحه المذاهب متى كان ممنوعا في مذهب آخر ! ولا شك أن في تطبيق هذا المبدأ خطرا كبيرا قد ندرك مغزاه من الحادثة الآتية :
سأل سائل أَمَامَنا الشيخَ ابن بليهد كبير العلماء النجديين وقاضي القضاة عن سبب منع شرب الدخان؟ فقال :
"نحن لا نمنعه لأنه حرام ولا لأنه حلال، فنحن نعلم أن فيه خلافا بين العلماء، وإنما نمنعه لأن النجديين إذا رأوا من يشربه ذبحوه"
فهل هذا هو الذي يعنيه جلالة ابن السعود بهذه الفقرة؟ وهل يريد النجديون أن يُحَكِّموا البدوَ في كل من يفد على الحجاز بمثل هذه العلة ؟ وهل مثل هذا التصريح في مصلحة النجديين وفي مصلحة الحجاز نفسه؟ وهل مع هذا يمكن أن يأمن الناس في حرم الله حيث يأمن الحيوان والنبات ويكون الحاج في خطر الذبح إن خالف مشيئة البدو ولو في شرب سيجارة؟ ومن هم الأحق بالمقاومة والردع، أولئك الذين يذبحون شارب الدخان أم أولئك الذين يفعلون ما تبيحه مذاهبهم الإسلامية مما لا يضر أي إنسان.

وقال جلالته : (خير لنا أن ننظر إلى مصالح المسلمين ونترك هذه الأمور الجزئية للعلماء).

وقد كنا نود أن يُرَاعَى هذا المبدأ من أول الأمر فلا تُهَدَّم المآثر وغيرها حتى يرى علماء المذاهب الإسلامية رأيهم فيها.

ولقد بين جلالته خطته السياسية وطلب الإرشاد إن كان ثمة خطأ، وذلك أمر يشكر عليه كل الشكر ولو أتيح لنا أن نفحص هذه الخطة ونبين نتيجة الفحص لبيناها كالآتي :

قال في البند الأول : (أننا لا نقبل أي تدخل أجنبي في هذه البلاد الطاهرة أيا كان نوعه).

وكلمة أجنبي هذه مجملة، فإذا كان المراد بها من لا يدين بدين الإسلام فذلك ما يؤيده فيه كل العالم الإسلامي، إلا أن تطبيق ذلك مع الجمع بين سلطة نجد ومملكة الحجاز يحتاج إلى دراسة المعاهدات التي عقدتها نجد مع الدول الأجنبية خشية أن يكون فيها ما يحمل إقرار الجمع إقرارا بوجه من وجوه التدخل الذي نهى عنه في هذا البند.
فمثلا إذا فرض أن لدولة أجنبية حق التدخل في تعيين سلطان نجد من بين آل سعود كان معنى ذلك أن لهذه الدولة حق التدخل في تعيين ملك الحجاز مادام سلطان نجد هو ملك الحجاز.
وإذا كان المراد بالأجنبي من ليس من أهل الحجاز وإن كان مسلما فلا ندري كيف يمكن إقرار ذلك والحجاز لجميع المسلمين؟ ولا ندري كيف ساغ حينئذ تدخل نجد في الحجاز باسم الدين؟

وقد قال في البند الثاني : (أننا لا نقبل امتيازا لأحد دون أحد بل جميع الوافدين لهذه البلاد يجب أن يخضعوا للشريعة الإسلامية)

فإذا كان معنى هذا منع ما يسمى في العرف السياسي بالامتيازات الأجنبية فذلك ما نوافقه فيه، ولكنا في الوقت نفسه نتساءل عما يعنيه بالشريعة الإسلامية التي يجب أن يخضع لها كل من يدخل الحجاز؟ فإذا كان المراد هو الشريعة في مذهب النجديين فهناك الخطر الشديد على قاصدي الحجاز وقاطنيه فإن مما تجيزه المذاهب الإسلامية ما يعده النجديون شركا أو دون الشرك بقليل، ومعنى هذا أن يكون عمل المسلم بمذهبه مما يعرض لعقوبة الإعدام أو الضرب أو غير ذلك من وجوه التعزير الشرعي.
أما إذا كان المراد الخضوع للشريعة بأوسع معانيها فذلك ما نؤيده فيه كل التأييد ولكن ذلك يقتضي (أولا) : سن قانون شرعي يوافق عليه المسلمون على اختلاف مذاهبهم . (ثانيا) : إقامة قضاة يثق بهم العالم الإسلامي وإلا لم يكن هناك ضمان للأرواح والأموال خصوصا بعد ما شاع أن النجديين استحلوا دماء أهل الطائف وأموالهم من أجل مذاهبهم في بعض الأمور الدينية.

وقد قال في البند الثالث : (أن بلاد الحجاز يجب أن يوضع لها نظام حيادي خاص لا تحارِب ولا تحارَب، ويجب أن يضمن هذا الحياد جميع الحكومات الإسلامية المستقلة).

وهذا الاقتراح إنما يفهم إذا كان على وجه يشمل الحجاز كلها، يستوي في ذلك الحاكم وطريقة الحكم، فهو على هذا التقرير يمكن قبوله على الطريقة الآتية :

أولا ـ أن يكون انتخاب الحاكم بواسطة الحكومات الإسلامية المستقلة إلى مدة معينة.
ثانيا ـ أن يدخل في هذا الضمان كل الحكومات المجاورة للحجاز.
ثالثا ـ إذا وقع خلاف بين الحجاز وأحد مجاوريه كان حله بواسطة الحكومات الضامنة.
رابعا ـ لا ينتخب لحكم الحجاز أحد من آل الإمارة أو الملك في الحكومات المجاورة حتى لا توجد سبيل إلى المطامع.
وهناك طريقة أخرى وهي أن ينعقد مؤتمر من الحكومات الإسلامية المستقلة فيضع نظاما وافيا لطريقة الحكم ثم ينتدب هذا المؤتمر واحدة من هذه الدول لتنفيذه، على أن تكون مسؤولة أمام هذا المؤتمر تقدم تقريرها إليه في كل عام وعلى أن يراعى في وضع النظام رغبات الشعوب الإسلامية وأن يكون الانتداب إلى مدة معينة، ولا مانع من تحديده لنفس تلك الدولة، ولا مانع من أن تكون هذه الدولة نجد إذا رأى المؤتمر ذلك.
وهذا هو الذي ينبغي أن يكون أساس المؤتمر الحجازي السنوي.
لقد تبين في المؤتمر الأول الذي انعقد هذا العام رغبات الشعوب، فلتعقد المؤتمر الثاني من مندوبي الحكومات الإسلامية لتنفيذ رغبات الشعوب ووضعها في القالب الدولي الحكومي.

أما إذا كانت مسألة الحاكم لا دخل للدول الضامنة فيها وأن معنى هذا البند أن عليهم أن يعترفوا بحكومة جلالة ابن السعود في الحجاز وأن يضمنوا له هذا الملك فتلك مسألة تحتاج إلى إمعان النظر قبل إقرار الاقتراح.
وقد جعل جلالته الركن الرابع من خطته السياسية النظر في أمر الصدقات والمبرات التي ترد من سائر الأقطار الإسلامية ووجوه صرفها وانتفاع البلاد المقدسة منها.
وأول ما يستوقف النظر جعل هذه المسألة الجزئية ركنا من أركان الخطة السياسية، على أن الصدقات والمبرات التي يرغب صاحبها في توزيعها على وجه خاص بنفسه أو بنائبه لا سبيل إلى إقرار تدخل الحكومة فيها بل أمرها موكول إلى محض إرادة المتصدق، لذلك لم نفهم معنى لذكر هذا البند كركن من الخطة السياسية بل نرى أن ذكره قد يغل بعض أيدي المتصدقين الذين لا يريدون أن يتحكم أحد في صدقاتهم. انتهى خطاب الإمام الظواهري.
شعر النجديون بالحرج الشديد من هذه المذكرة وعلموا أنها تلقى إجماع الوفود الإسلامية فسعوا إلى الإمام الظواهري متوسلين إليه بالعلماء والشيوخ كالشيخ رشيد رضا ليسحب خطابه فاقترح عليهم أن يسحب جلالة الملك خطابه فلا يكون لتقديم المذكرة من داعي، فاستجاب الملك عبد العزيز وسحب خطابه واختفى الخطابان.
والسلام عليكم ورحمة الله


هناك تعليق واحد:

  1. بارك الله فيكم وفيما تكتبون ونفع الله بكم الإسلام والمسلمين

    ردحذف