الجمعة، 29 أبريل 2016

المقامة الجدارية

المقامة الجِدَارِيَّة


رأيت ذات يوم وأنا بين النائم واليقظان لما أن قام سُوقُ الظالمين على سُوقِه، وضَرَب الجَورُ في الأرض بعروقه، ونُصِبت شباكُ الفَسَاد بحرا، وسارت به الرُّكْبان بَرَّا، كَأَنِّي رَمَيْتُ مَظلِمَةً من هذه المظالم بِسِهَام فِكَرِي، ومشيت إليها بأقدام نَظَري، وسألتها بلسان حالي، ومَنْطِق خَيَالي:
من أين أنتِ يا وجهَ المصيبة؟ وما هذه الشرور المريبة؟
فأجابت بلسان المجاز :
ـ لا تَسَلْنِي، وسَلْ من أَحَلَّنِي وأَجَاز.
وأَرْدَفَتْ بفصيح الكَلِم المقدَّر ومِذْرَبِ (1) البلاغة :
ـ المسؤول عن الشر من أَسَاغَه (2)
ـ هَلاَّ عَرَّجْتَ عَلَى فقهاء مذهب الإمام قانون وأهل القضاء؟ فإنما نحن بنات وهم الآباء، فيا أيها الغافل الَّلاه، اِيتِ فقيه مذهبنا القاضيَ أبا عبد الله.

فَتَصَوَّرْتُ مَجْلِسَه المعقودَ في رَحْبَةِ (3) خَيَالي، وَتَسَوَّرْتُ بِسَوَاعِدِ الذِّهْنِ سُورَه العالي، فباغَتُّه بلا تردد أو احتراز، بِمِذْوَدِ (4) القَريضِ والارتجاز :
عِمْتَ صباحا قاضيَ المدينةْ ** ما هذه المَظالِمُ المُشِينة؟
ما هذه الأحكامُ يا قاضيْ البلدْ؟ ** تُحِلُّ ما حرَّمه الله الأحدْ؟
ما بالُ أحكامِكَ في اضطرابِ ** تنذرُ بالشرِّ وبالخرابِ؟
أإنها حقا بَنَاتُ القاضي؟ ** وإنه بحالِهِنَّ راضي؟

فأجاب القاضي ـ وقد نَهَدَ من موضعه، وأشار بأصبعه ـ  : 
يأيها المُغَفَّلُ البَلِيْدُ
 ** 
مَذْهَبُ قَانُونَ وَلا نَزِيدُ
**
نَنْظُرُ قَانُونَ وما يقولُ 
** 
ثم يجيء الحُكْمُ يا جَهُولُ
**
فَهْوَ أساسُ حكمنا المُسْتَغْرَبِ 
** 
فافهم وإلا فامضِ عَنَّا واغْرُبِ
**
نحن عبيدٌ والقوانينُ العَصَا 
** 
هذا جوابي قد أتى وحَصْحَصَا

أفهمت كلامي، وعرفت مرامي ؟
قلت : فهمت كلامكم المُنيف .. أدام الله عليكم نعمة الراحة من التكاليف، ولا حرمكم من عطف عصا الطاعة، وجزاءِ تِيكَ الاستقامة والقناعة ! 
فهلا أرشدنا القاضي أبو عبد الله إلى مَنْبِتِ مسائل الإمام قانون ومُزْدَرَعِها، ودَلَّنَا على مُخْتَرَعِها؟
فقال :   
سِرْ إلى قُبَّة القِباب، ومجلس السعداء النواب، فَثَمَّ الزرع والسقاية، والحصاد والنقاية، والطحن والعجين، والصيد السمين، فسلهم أيهم بذلك ضمين.
فطِرتُ إليهم بأجنحة أحلامي، ودست بساطَهم بقدم أوهامي، حتى إذا كَفَّ منبرُهم عن أنينه ورنينه، ومخاض تقنينه، باغَتُّ (5) أحدهم بسؤالي وصريح مقالي :
عمت صباحا سعادة النائب، جنبك الله النوائب، إنا لما رأينا المعاصي ظاهرة لا تمنع ولا تستنكر، والمؤمن يخاف الأمر بالمعروف ويخشى النهي عن المنكر، سألنا القاضي أبا عبد الله المصون، فقيه مذهب الإمام قانون،  فزعم أنه يحكم بإشارتكم، ويصدر عن إرادتكم، وقد رأينا الفقيه القاضي لا يملك كثيرا ولا قليلا، ولا يجد إلى منع الفواحش سبيلا، فما جوابكم على ذلك، جنبكم الله المهالك؟
فقال : على الخبير سَقَطْتَ، ثم نظر إلى الجِدَار فكأنما قُطِعَ لِسَانُه بالمِقَصِّ، أو حُشِيَ فَاهُ بالحجارة والجَصّ، ووَلَّى هاربا.

فسألت آخر فقال : إنا لم نتخذ كتاب الله مهجورا، ولكن أَتَعْرِفُ مجلس الشورى؟ فقلت نعم : فأراد أن يقول شيئا فَرَمَقَ الجدار، فاضطرب وحار، وقبض رداءه وطار.

فرأيت ثالثا فقلت : إني سألت نائبا سعيدا، فنظر إلى الجدار ثم فر فرارا شديدا، وإني سألت آخر فاضطرب وحار، بعد أن رمق الجدار، أفأنت صانعٌ مثلهما، أم أسألك فتجيب عنهما؟ فقال : بل أجيبك قبل أن تسأل: (رأسكَ والجدارَ) ألا تعلم أن الإمام قانون ـ عليه السلام ـ مقبور تحت هذا الجدار، وأن هذا الجدار فوقه؟!
ثم أنشد شعر مجنون بني عامر :

أَمُرُّ على الدِّيار ديار ليلى
**
أُقَبِّلُ ذا الجِدارَ وذا الجدارا
**
وما حُبُّ الجِدار شَغَفْنَ قلبي
**
ولكن حب من سكن الديارا

ـــــــــــــــــــ
(1)       ـ المذرب : اللسان.
(2)      ـ أساغة : من إساغة اللقمة والمعنى : استحسنه.
(3)     ـ رحبة : رحبة البيت ساحته.
(4)     ـ المذود : اللسان.
(5)     ـ باغت : فاجأت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق