‏إظهار الرسائل ذات التسميات التاريخ. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات التاريخ. إظهار كافة الرسائل

السبت، 1 مارس 2014

المدرسة المحمدية .. من الظلمات إلى النور

((المدرسة المُحَمَّدِيَّة من الظلمات إلى النور))



جمهورية تاتارستان  ـ مدينة قازان

حينما تتأمل ما جرى على مدارسنا العلمية الشرعية الوقفية في بلادي العربية الإسلامية من الدمار والخراب عبر السنين فإنك تصاب بنوبة من التعجب ! لا تفتأ معها تتساءل كيف حل بها ذلكم الخراب ـ على قصر عمرها ووفرة أهلها وغناهم ـ وهي في بلد آمن لم يمسسه سوء ؟؟


مدارسنا الوقفية في ذمة الله

ويزداد العجب حينما ترى وتشاهد بعينيك تلك المدراس التليدة الأثرية وقد عمرت قرونا لا تزال متناثرة في بلاد مصر والشام وغيرها شامخة، وقد باتت من مفاخر تلك البلاد ومعالمها الأثرية، بالرغم مما جرى على تلك البلاد من المصائب العظام والخطوب ..

 المدرسة الركنية في دمشق عمرها 800 سنة

ويتضاعف العجب حينما تخرج مدارس الحجاز والأحساء سالمة معافاة من أتون حروب تكفير وتشريك طاحنة !!


المدرسة الصولتية في مكة المكرمة تأسست سنة 1292هـ

ولكن العجب ـ سيدي ـ يصل مداه، وتتعدى الدهشة الإنسانية أطوارها عندما ينبؤك شهود الزمان كيف عاشت بعض المدارس الوقفية الإسلامية القابعة في أعماق الشرق، كيف عاشت ومشت في غياهب ظلمات بعضها فوق بعض، تتقاذفها أمواج كالجبال من المصائب والمحن، تشيب لها ذوائب التاريخ، وتتفجر عليها العيون كمدا بماء منهمر.

وبعدُ .. فهل أتاك نبأ (المدرسة المحمدية) في ولاية قازان من روسيا ؟؟


خارطة قازان في روسيا الاتحادية

نشرت مجلة المنار المصرية قبل 120 سنة لصاحبها السيد محمد رشيد رضا في عددها المؤرخ بـ 17 جمادى الأولى من سنة 1317هـ  خبرا عن المدرسة (المحمدية ) ضمن مقال للعالم الروسي أحمد جان بن محمد رحيم المصطفوي أحد مدرسي تلك المدرسة بعنوان : (المسلمون في روسيا) جاء فيه :

((أسس هذه المدرسة وشيد بنيانها الرجل الكبير والمحسن الشهير محمد جان بن بنيامين علييف والد العلامة عالم جان أفندي ... وذلك في سنة 1300 هجرية ... وقد أسس هذه المدرسة من ماله الخاص ، وصرف عليها أموالاً طائلة ، وأقام لها مديرًا شبله الأكبر الأستاذ عالم جان أفندي ... أما نفقات هذه المدرسة فبعضها من العقارات الموقوفة عليها من الأغنياء .. )) انتهى المطلوب.

بعد 35 سنة من تأسيس هذه المدرسة اندلعت الثورة البلشفية الشيوعية سنة 1335هـ ، وعاش المسلمون هناك أظلم وأطغى حقبة عرفها تاريخ قارة آسيا .. إذ دُمِّرت الحضارة الإسلامية ..



الثورة الشيوعية

كن مطمئنا ـ قارئنا ـ فلن أزعجك بما فعله لينين واستالين وجنودُهما وما أجرياه من بحار دماء الموحدين ولا المساجد والمدارس التي هدمت أو عطلت، ولا المصاحف وكتب العلم التي أحرقت وأبيدت .. سأجاوز بك 80 سنة من الإلحاد الأحمر والكفر الأسود.

فدعك من ذلك كله وتعال أريك معجزة كأن المسيح نفخ الروح في تمثال هامد فإذا هو جسد حي ناطق .. أقبل نتأمل إشراقة (المدرسة المحمدية) من جديد بعد سقوط دولة الشيوعية وتفتتها شذر مذر، تعال نتنسم عبير لا إله إلا الله من قازان ..

منذ مدة قصيرة زار الدكتور محمد موسى الشريف جمهورية تاتارستان المستقلة وزار مدينة قازان وأفادنا بتقريره التالي :

((.. احتفلت المدرسة سنة 2007م بمرور 125 عاماً على إنشائها، وقد أسسها العالم التتري المفتي عالم جان ابن محمد جان بارودي في قازان، وقد أغلقت المدرسة بعد الثورة الشيوعية بسنة واحدة سنة 1918م، وكان عدد من تخرج فيها من الطلاب إلى ذلك الوقت ألف طالب بل يزيدون وبعد مصادرة الشيوعيين للمدرسة حولت إلى مدرسة صناعية، ثم أعيد افتتاحها سنة 1993م في أكتوبر، في غرفتين مستأجرتين في قصر لينين للثقافة لأن المدرسة لم تكن قد استردت بعد، فقد اكتمل استردادها سنة 1997م ، وفي سنة 1994م استقبلت المدرسة الطالبات في قسم منفصل عن الطلاب بلباسهن الشرعي فكان ذلك بدءاً لظهور الحجاب في قازان ولله الحمد والمنة .. والمدرسة المحمدية هي معهد عالٍ وليست مدرسة، فهي تقبل الطلاب بعد الثانوية ويدرسون فيها خمس سنوات، وفيها دراسات مسائية أيضاً ودراسات بالانتساب، وللمدرسة أثر جيد في المجتمع القازاني بل التتري، فمن مهماتها تخريج الأئمة لمساجد تترستان البالغة ألفاً وثلاثمائة مسجد، وكذلك ملء الفراغ في المؤسسات الدينية المختلفة، والاهتمام بالنساء ـ وكل الطالبات محجبات ـ والدعوة إلى الله تعالى في وسائل الإعلام والمدن والقرى، والتصدي للأفكار المنحرفة التي تغزو المنطقة ..)) انتهى المطلوب.
الله أكبر ولله الحمد.

مفتي قازان  كامل سميع الله ابن المدرسة المحمدية

وقبل خمس سنوات احتفل المسلمون هناك بمرور 130 سنة على تأسيس المدرسة المحمدية، واليوم مضى على تأسيسها 135 سنة وإخالهم يحتفلون بها من جديد ..

نسأل الله تعالى أن يمن علينا بما من به عليهم من عودة المدارس إلى أهلها.


وهنا ينبغي أن أفارقك أخي القارئ حتى لا تمل أكثر، ولكن إيذن لي أن أودعك عند عتبات فصل من فصول المدرسة المحمدية وتلك الأصوات الشجية الندية والحمد لله ولا إله إلا الله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه والسلام عليكم.



إذا لم تر الشريط فاضغط هنا للتحول إليه

قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها 
وصدق الله العظيم

الجمعة، 21 فبراير 2014

بين الملك عبد العزيز آل سعود وشيخ الإسلام الظواهري في المؤتمر الإسلامي الأول بمكة المكرمة

بسم الله الرحمن الرحيم


عندما دخلت مكة تحت سيطرة النجديين نهض العالم الإسلامي مضطربا وجلا مما قد يفعله البدو فيها وفي المدينة المنورة فيما بعد .. فقد فرطت مذبحة الطائف، وعملت معاول الهدم في القباب والمآثر .. وقد باتوا قاب قوسين من المدينة النبوية .. حيث القبة الخضراء في خطر عظيم .. والمساس بها يعني حربا ضروسا أخرى بين الوهابيين والعالم الإسلامي دون شك.

اتجهت أنظار العالم الإسلامي كما هي العادة إلى مصر مركز قيادة العالم الإسلامي بعد الدولة العثمانية المريضة، واستعدت بعثة على رأسها الإمام محمد بن مصطفى المراغي لمقابلة الملك علي بن الحسين الذي يستصرخ العالم الإسلامي في جدة، ثم مقابلة الملك عبد العزيز آل سعود ..
أطلق الملك عبد العزيز ـ الذي لا يزال في مكة ـ وعوده وأقسامه للبعثة المصرية أنه لن يقدم على شيء يحزن العالم الإسلامي من حوله وأن ما يروج عن جلالته ما هي إلا تخرصات ووشايات .. 

مقال سابق بعنوان : وعود الملك عبد العزيز بن سعود

وبمجرد عودة البعثة المصرية هجم البدو على ما بقي من تلك المآثر في مكة فأفنوها وبددوها .. وساد القلق العالم الإسلامي وقل الحجاج جدا في موسم حج تلك السنة وعاد من عاد منهم ساخطا غاضبا لهول ما شاهد ورأى ..

جريدة مصرية تندد بأفعال البدو

أدرك الملك عبد العزيز أن تصرفا حكيما سريعا وحاسما يجب أن يطمئن العالم الإسلامي قبل فوات الأوان، فكان الإعلان عن المؤتمر الإسلامي الأول في مكة الكرمة لبحث شؤون الحجاز .
حضرت وفود العالم الإسلامي إلى مكة وقرروا ما قرروه .. ولأن النجديين لم يرق لهم ما قرره المؤتمر الإسلامي الذي تُمَثِّل وفوده العالم الإسلامي فقد قدم الملك عبد العزيز خطابا للمؤتمر قد يفهم منه الاستدراك على المؤتمر، فكتب شيخ الإسلام محمد الأحمدي الظواهري رأس البعثة المصرية ردا على خطاب جلالته، ولكن الخطابين سُحبا، حيث سحب الملك عبد العزيز خطابه، فامتنع الإمام الظواهري من تقديم خطابه، وسجلهما معا في مذكراته فماذا كان في الخطابين ؟  :



خطاب جلالة الملك عبد العزيز آل سعود للمؤتمر الإسلامي
الأول في مكة المكرمة في موسم الحج سنة
{1345هـ = 1926م}

لا أريد أن أتدخل في أعمالكم ولا أقيد حرية المؤتمر في البحث كما وعدت بذلك في خطاب الافتتاح ولكني أريد أن ألفت نظركم الكريم إلى بعض الأمور بصفتي زعيما من زعماء الإسلام الذي ألقيت إليهم مقاليد أمور هذه البلاد.
إن الدعوة التي وجهتها إلى ملوك المسلمين وأمرائهم وشعوبهم والتي عليها أوفدت الحكومات والشعوب ممثليها تنحصر في إسعاد هذه البلاد وإنهاضها من كبوتها وجعلها في المستوى اللائق بكرامة المسلمين دينيا وعلميا واقتصاديا وأدبيا. ولقد كنت أنتظر من حضراتكم كما ينتظر إخوانكم المسلمون في كل مكان أن تخطوا خطوات واسعة في هذا السبيل ولكن يظهر أننا نحاول القيام بكل شيء في أول مؤتمر إسلامي، وأخشى أن حرصنا على القيام بكل شيء يجعلنا نفقد كل شيء، وأفضل شيء التدرج في السير، فرب عجلة وهبت رينا.
إني وإن لم أحضر مجلسكم واقف على مباحثكم بالتفصيل، فإني على اتصال دائم روحي بكم، ويهمنا جدا أن تنجحوا حتى نبرهن للعالم أن المسلمين أهل للحياة وأنهم يجب أن يأخذوا قسطهم من الحياة في هذا الوجود وأن دينهم لا يحول دون رقيهم وأنهم وإن اختلفوا في الآراء والأفكار فهم أمام المصلحة العامة كتلة واحدة لا تنفذ إليها الأغراض والأهواء.

أيها الإخوان :
إني لا أريد علوا في الأرض ولا فسادا ولكن أريد الرجوع بالمسلمين إلى عهدهم الأول عهد السعادة والقوة، عهد الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، لا شيء يجمع القلوب ويوحدها سوى جعل أهدافنا تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بقعة في الأرض تصلح لهذا الغرض سوى هذه البقعة الطاهرة التي منها بزغ شمس الإسلام، ولذا فإني أرى أن تكون الكلمة العليا والرأي النافذ لجميع العلماء المحققين الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم وأن جميع البلدان الإسلامية مملوءة بالعلماء أولوا البصيرة والخبرة فلترسل كل أمة منهم جماعة ليقوموا بالوعظ والإرشاد وتقرير ما يجب تقريره في هذه البلاد.
كلنا يعلم أن هذه البلاد ينقصها شيء عظيم من الإصلاح دنيا ودينا، فشاركونا في ذلك نشكركم ويشتد ساعدنا بكم، أما تركنا نسير وحدنا والوقوف موقف الناقد العاذل فذلك لا يليق بالأخوة الإسلامية.

أيها الإخوان :
إنا لا نُكْرِه أحدا على اعتناق مذهب معين أو السير في طريق معين في الدين فذلك موكول أمره لعلماء الدين وحملة الشريعة، ولكني لا أقبل بحال من الأحوال التظاهر بالبدع والخرافات التي لا يعتبرها الشرع وتأباها الفطرة السليمة.
لا يُسْأَلُ أحد عن مذهبه وعقيدته، ولكن لا يصح أن يتظاهر أحد بما يخالف إجماع المسلمين أو يثير فتنة عمياء بين المسلمين، وخير لنا أن ننظر إلى صالح المسلمين ونترك هذه الأمور الجزئية للعلماء فهم أحرص منا على ذلك.

أيها الإخوان :
أرجو أن لا نضيع الفرصة الباقية قبل أن تستفيد البلاد المقدسة منكم حتى يجيء الحج القادم ويشعر المسلمون الوافدون أنكم قمتم بواجبكم نحو هذه البلاد.
وبهذه المناسبة أقدم لكم خطتنا السياسية لهذه البلاد لترشدونا إن أخطأنا وتؤيدونا إن أصبنا :
(1)       إننا لا نقبل أي تدخل أجنبي في هذه البلاد الطاهرة أيا كان نوعه.
(2)  إننا لا نقبل امتيازات لأحد دون أحد بل جميع الوافدين لهذه البلاد يجب أن يخضعوا للشريعة الإسلامية.
(3)  أن البلاد الحجازية يجب أن يوضع لها نظام حيادي خاص، لا تحارِب ولا تحارَب، ويجب أن يضمن هذا الحياد جميع الحكومات الإسلامية المستقلة.
(4)  النظر في مسائل الصدقات والمبرات التي ترد من سائر الأقطار الإسلامية ووجوب صرفها وانتفاع البلاد المقدسة منها.
هذا ما أحببت تقديمه إليكم والله بتولانا وإياكم برعايته ويوفقنا جميعا لما فيه خير الإسلام والمسلمين.

مذكرة
شيخ الإسلام محمد الأحمدي الظواهري
شيخ الأزهر الشريف لاحقا
ردا على الخطاب الملكي









قد عَرَّض جلالته بأن المؤتمر وقف من حكومة جلالته موقف الناقد العاذل، وعقيدتنا أن جميع أعضاء المؤتمر ما كانوا يقصدون إلا إسعاد الحجاز وأن قلوبهم كانت ممتلئة بالإخلاص.
ولقد أعرب جلالته عن الرغبة في ترك المسائل الدينية للعلماء.

وظاهر أن ذلك لا يمكن أن يكون لعلماء مذهب واحد ولا لعلماء المذاهب على أن يجتمعوا من سائر الأقطار بمكة للتناظر والمجادلة وإيقاظ التعصب المذهبي، إنما الممكن أن يكون ذلك لعلماء كل المذاهب على أن يرشد كل فريق أتباع مذهبه إلى حكم الله في ذلك المذهب وإرشاد الحكومة الحجازية إلى ما هو من مواضع الوفاق وما هو من مواضع الخلاف, وهذا هو ما قرره المؤتمر في هذا الشأن قبل أن يصل إليه كتاب جلالته.

ولقد قال أنه : (لا يقبل بحال من الأحوال التظاهر بالبدع والخرافات التي لا يعتبرها الشرع وتأباها الفطر السليمة).

وهذا قول حق إذا كان المراد به ما يقرره جميع علماء المذاهب الإسلامية أنه من البدع والخرافات، أما ما يقول فريق من العلماء إنه منها ويقول فريق آخر إنه ليس منها فلا تمكن الموافقة على أنه مدلول هذه الفقرة.

وقد قال جلالته أنه : (لا يسأل أحدا عن مذهبه ولكن لا يصح أن يتظاهر أحد بما يخالف إجماع المسلمين أو يثير فتنة عمياء).

وهذه الكلمة الأخيرة (أو يثير فتنة عمياء) واسعة النطاق غير محددة ! فقد يفهم قوم أن من التظاهر بما يثير فتنة عمياء التظاهر بمنع الناس من أمور جائزة في مذاهبهم، وقد يفهم آخرون أن من ذلك : التظاهر بفعل ما تبيحه المذاهب متى كان ممنوعا في مذهب آخر ! ولا شك أن في تطبيق هذا المبدأ خطرا كبيرا قد ندرك مغزاه من الحادثة الآتية :
سأل سائل أَمَامَنا الشيخَ ابن بليهد كبير العلماء النجديين وقاضي القضاة عن سبب منع شرب الدخان؟ فقال :
"نحن لا نمنعه لأنه حرام ولا لأنه حلال، فنحن نعلم أن فيه خلافا بين العلماء، وإنما نمنعه لأن النجديين إذا رأوا من يشربه ذبحوه"
فهل هذا هو الذي يعنيه جلالة ابن السعود بهذه الفقرة؟ وهل يريد النجديون أن يُحَكِّموا البدوَ في كل من يفد على الحجاز بمثل هذه العلة ؟ وهل مثل هذا التصريح في مصلحة النجديين وفي مصلحة الحجاز نفسه؟ وهل مع هذا يمكن أن يأمن الناس في حرم الله حيث يأمن الحيوان والنبات ويكون الحاج في خطر الذبح إن خالف مشيئة البدو ولو في شرب سيجارة؟ ومن هم الأحق بالمقاومة والردع، أولئك الذين يذبحون شارب الدخان أم أولئك الذين يفعلون ما تبيحه مذاهبهم الإسلامية مما لا يضر أي إنسان.

وقال جلالته : (خير لنا أن ننظر إلى مصالح المسلمين ونترك هذه الأمور الجزئية للعلماء).

وقد كنا نود أن يُرَاعَى هذا المبدأ من أول الأمر فلا تُهَدَّم المآثر وغيرها حتى يرى علماء المذاهب الإسلامية رأيهم فيها.

ولقد بين جلالته خطته السياسية وطلب الإرشاد إن كان ثمة خطأ، وذلك أمر يشكر عليه كل الشكر ولو أتيح لنا أن نفحص هذه الخطة ونبين نتيجة الفحص لبيناها كالآتي :

قال في البند الأول : (أننا لا نقبل أي تدخل أجنبي في هذه البلاد الطاهرة أيا كان نوعه).

وكلمة أجنبي هذه مجملة، فإذا كان المراد بها من لا يدين بدين الإسلام فذلك ما يؤيده فيه كل العالم الإسلامي، إلا أن تطبيق ذلك مع الجمع بين سلطة نجد ومملكة الحجاز يحتاج إلى دراسة المعاهدات التي عقدتها نجد مع الدول الأجنبية خشية أن يكون فيها ما يحمل إقرار الجمع إقرارا بوجه من وجوه التدخل الذي نهى عنه في هذا البند.
فمثلا إذا فرض أن لدولة أجنبية حق التدخل في تعيين سلطان نجد من بين آل سعود كان معنى ذلك أن لهذه الدولة حق التدخل في تعيين ملك الحجاز مادام سلطان نجد هو ملك الحجاز.
وإذا كان المراد بالأجنبي من ليس من أهل الحجاز وإن كان مسلما فلا ندري كيف يمكن إقرار ذلك والحجاز لجميع المسلمين؟ ولا ندري كيف ساغ حينئذ تدخل نجد في الحجاز باسم الدين؟

وقد قال في البند الثاني : (أننا لا نقبل امتيازا لأحد دون أحد بل جميع الوافدين لهذه البلاد يجب أن يخضعوا للشريعة الإسلامية)

فإذا كان معنى هذا منع ما يسمى في العرف السياسي بالامتيازات الأجنبية فذلك ما نوافقه فيه، ولكنا في الوقت نفسه نتساءل عما يعنيه بالشريعة الإسلامية التي يجب أن يخضع لها كل من يدخل الحجاز؟ فإذا كان المراد هو الشريعة في مذهب النجديين فهناك الخطر الشديد على قاصدي الحجاز وقاطنيه فإن مما تجيزه المذاهب الإسلامية ما يعده النجديون شركا أو دون الشرك بقليل، ومعنى هذا أن يكون عمل المسلم بمذهبه مما يعرض لعقوبة الإعدام أو الضرب أو غير ذلك من وجوه التعزير الشرعي.
أما إذا كان المراد الخضوع للشريعة بأوسع معانيها فذلك ما نؤيده فيه كل التأييد ولكن ذلك يقتضي (أولا) : سن قانون شرعي يوافق عليه المسلمون على اختلاف مذاهبهم . (ثانيا) : إقامة قضاة يثق بهم العالم الإسلامي وإلا لم يكن هناك ضمان للأرواح والأموال خصوصا بعد ما شاع أن النجديين استحلوا دماء أهل الطائف وأموالهم من أجل مذاهبهم في بعض الأمور الدينية.

وقد قال في البند الثالث : (أن بلاد الحجاز يجب أن يوضع لها نظام حيادي خاص لا تحارِب ولا تحارَب، ويجب أن يضمن هذا الحياد جميع الحكومات الإسلامية المستقلة).

وهذا الاقتراح إنما يفهم إذا كان على وجه يشمل الحجاز كلها، يستوي في ذلك الحاكم وطريقة الحكم، فهو على هذا التقرير يمكن قبوله على الطريقة الآتية :

أولا ـ أن يكون انتخاب الحاكم بواسطة الحكومات الإسلامية المستقلة إلى مدة معينة.
ثانيا ـ أن يدخل في هذا الضمان كل الحكومات المجاورة للحجاز.
ثالثا ـ إذا وقع خلاف بين الحجاز وأحد مجاوريه كان حله بواسطة الحكومات الضامنة.
رابعا ـ لا ينتخب لحكم الحجاز أحد من آل الإمارة أو الملك في الحكومات المجاورة حتى لا توجد سبيل إلى المطامع.
وهناك طريقة أخرى وهي أن ينعقد مؤتمر من الحكومات الإسلامية المستقلة فيضع نظاما وافيا لطريقة الحكم ثم ينتدب هذا المؤتمر واحدة من هذه الدول لتنفيذه، على أن تكون مسؤولة أمام هذا المؤتمر تقدم تقريرها إليه في كل عام وعلى أن يراعى في وضع النظام رغبات الشعوب الإسلامية وأن يكون الانتداب إلى مدة معينة، ولا مانع من تحديده لنفس تلك الدولة، ولا مانع من أن تكون هذه الدولة نجد إذا رأى المؤتمر ذلك.
وهذا هو الذي ينبغي أن يكون أساس المؤتمر الحجازي السنوي.
لقد تبين في المؤتمر الأول الذي انعقد هذا العام رغبات الشعوب، فلتعقد المؤتمر الثاني من مندوبي الحكومات الإسلامية لتنفيذ رغبات الشعوب ووضعها في القالب الدولي الحكومي.

أما إذا كانت مسألة الحاكم لا دخل للدول الضامنة فيها وأن معنى هذا البند أن عليهم أن يعترفوا بحكومة جلالة ابن السعود في الحجاز وأن يضمنوا له هذا الملك فتلك مسألة تحتاج إلى إمعان النظر قبل إقرار الاقتراح.
وقد جعل جلالته الركن الرابع من خطته السياسية النظر في أمر الصدقات والمبرات التي ترد من سائر الأقطار الإسلامية ووجوه صرفها وانتفاع البلاد المقدسة منها.
وأول ما يستوقف النظر جعل هذه المسألة الجزئية ركنا من أركان الخطة السياسية، على أن الصدقات والمبرات التي يرغب صاحبها في توزيعها على وجه خاص بنفسه أو بنائبه لا سبيل إلى إقرار تدخل الحكومة فيها بل أمرها موكول إلى محض إرادة المتصدق، لذلك لم نفهم معنى لذكر هذا البند كركن من الخطة السياسية بل نرى أن ذكره قد يغل بعض أيدي المتصدقين الذين لا يريدون أن يتحكم أحد في صدقاتهم. انتهى خطاب الإمام الظواهري.
شعر النجديون بالحرج الشديد من هذه المذكرة وعلموا أنها تلقى إجماع الوفود الإسلامية فسعوا إلى الإمام الظواهري متوسلين إليه بالعلماء والشيوخ كالشيخ رشيد رضا ليسحب خطابه فاقترح عليهم أن يسحب جلالة الملك خطابه فلا يكون لتقديم المذكرة من داعي، فاستجاب الملك عبد العزيز وسحب خطابه واختفى الخطابان.
والسلام عليكم ورحمة الله


الجمعة، 14 فبراير 2014

وعود الملك عبد العزيز بن سعود ونجاة المدارس الإسلامية في الأحساء والحجاز

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المتصف بالقِدَم والبقاء، والصلاة والسلام على خاتم الرسل وإمام الأنبياء، وعلى آله المطهرين وصحابته الأكرمين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..

وبعد ..

لا أحد ممن له مساس بالمعارف يجهل اسم المدرسة الصَّوْلَتِيَّة في مكة المكرمة، أقدم مدارس الحجاز الأهلية، عُمُرُها 145 سنة، والتي أنفقت في إنشائها المرأة الهندية الثرية المحسنة "صولت النساء" سنة 1290هـ رحمها الله تعالى، وأشرف عليها العلامة الكبير رحمة الله بن خليل الهندي الكيرانوي الحنفي النقشبندي مؤلف الكتاب العظيم "إظهار الحق" في الرد على النصارى رحمه الله تعالى، والناس يتحدثون أن الملك عبد العزيز آل سعود زارها ووصفها بأنها "أزهر بلادي" ولا يزال يديرها حفيد الشيخ رحمة الله الهندي إلى اليوم، وقد انتقلت المدرسة إلى مبناها الجديد قريبا بعد أن دخل المبنى القديم في التوسعة الجديدة للحرم.

مبنى المدرسة الصولتية القديم

المبنى الجديد للمدرسة الصولتية

كذلك هناك عشرات المدارس في الأحساء، ففي منطقة "المُـبَـرَّز" وحدها نحو عشر مدارس للمالكية مثل :

مدرسة آل عفالق، ومدرسة آل موسى، ومدرسة آل غنام، ومدرسة ابن كثير، ومدرسة الرميص الجحاحفة، ومدرسة السكار، ومدرسة سعدون بن سيف السعدون، ومدرسة الجبري، ومدرسة الحاج بكر المعروفة بمدرسة السيد الزواوي، ومدرسة آل خليفة حكام البحرين ..


وفي منطقة "الهفوف":
مدرسة النعاثل، ومدرسة الشهارنة، ومدرسة الشريفة، ومدرسة الحبيشية، ومدرسة السويق، ومدرسة الجعفر، ومدرسة الصالحية .. [انظر كتاب نبذة مختصرة عن المذهب المالكي للعلامة عبد الحميد آل الشيخ مبارك]

وكتب إلي الأستاذ البحاثة حسن الحسين الأحسائي المالكي قائلا : "لكل مذهب مدارس نشطة وأخرى مهملة، فمثلا من المدارس النشطة للحنفية : المدرسة الشلهوبية، والمدرسة الجديدة، ورباط آل أبي بكر [ أقول : وهذا الرباط كان مقصد كل طالبي العلم من أهل البحرين في القرنين الماضيين ]

وللشافعية من المدارس النشطة : مدرسة العثمان، ومدرسة العبد اللطيف، وبانيها محسن من أهل البحرين مالكي المذهب من أسرة آل الفاضل العريقة المشهورة، أوقفها على آل عبد اللطيف الشافعية، ونَصَّ على أن المذهب المالكي يلي المذهب الشافعي في التدريس .." انتهى مضمون ما كتب به إليَّ الأستاذ الحسين.

مدرسة آل عبد اللطيف الشافعي


رباط الشيخ عبد الله الملا الحنفي الشهير

وكل هذه المدارس لا تزال في يد أهلها، إما أصلحوا من شأنها وأقاموها فجعلوها ناشطة، وإما هم بسبيل إحيائها وترميمها إذا توفرت لهم المكنة والقدرة .. وهذه المدارس محصورة في إقليمين : (الحجاز) و (الأحساء) ..

وبينما كنت مشغولا بمقالي : 
(رحلة في تاريخ القِيَم ، من استقالة القحفازي إلى استقالة الذمم)

كنت أتعجب من بقاء المدرسة الركنية وكثير من الأوقاف في بلاد الشام وغيرها والتي عُمِّرَ بعضها 800 سنة وأتعجب من اندثار مدارسنا الوقفية المالكية في مملكة البحرين التي لا يصل عمر أكثرها إلى 150 سنة !! ثم ثار في ذهني تساؤل آخر، كيف اندثرت مدارسنا الوقفية كلها في البحرين وإلى جوارنا في الأحساء عشرات المدارس الوقفية ـ بعضها لمحسنين من أهل البحرين ـ لا تزال باقية ؟؟!!!  

إنه استفهام مُلِحّ مُزْعِج .. كيف نجت مدارس الحجاز والأحساء من يد الهدم والتدمير والتخريب أو الاستحواذ والاستيلاء في أتون معارك وحروب دينية دامية عنيفة، وتعاقب دول، في حين لم تسلم مدرسة واحدة من يد الإهمال والتفريط في مملكة البحرين كمدرسة ابن خاطر وابن مطر والزياني وابن مهزع وغيرها من المدارس والمنشآت الوقفية المالكية والشافعية في ظل الأمن والأمان ورغد العيش ؟؟!!
وكيف بقي علماء مدارس الأحساء والحجاز من شتى المذاهب مدرسين في الحرم وقضاة في المحاكم الشرعية مع أنهم باقون على مذاهبهم الاعتقادية والفقهية والسلوكية لم يتغير فيهم شيء ؟؟!!

إجابة هذا السؤال الكبير تحتاج منا إلى سرد سريع لشيء من تاريخ المملكة السعودية، ثم نتوقف عند حدث تاريخي مهم غفل عنه كثير من المؤرخين والباحثين يفسر لنا سر بقاء هذه المدارس، بل وسر توقف تلك الحروب العنيفة التي سالت فيها دماء المسلمين بحجة نشر الإسلام من جديد !!

فالقارئ لتاريخ الدولة السعودية يعلم بأنها مرت بثلاث مراحل :


المرحلة الأولى : بدأت سنة ( 1157هـ) واتسمت بالتشكيك في إسلام المسلمين، فالشدة والعنف، فالتوسع الدموي، الذي انتهى بالسيطرة على الحجاز لمدة قصيرة، وكانت تستقي تعاليمها من فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1206هـ فَجَرَّت عليها عداوة العالم الإسلامي كله، وانتهى الأمر بالقضاء عليها في مهدها سنة (1233هـ) على يد إبراهيم باشا بن محمد علي باشا بأمر الدولة العلية العثمانية، وأُعدِم قائدها السياسي في اصطنبول ونفي زعماؤها الدينيون إلى مصر.

نص من تاريخ نجد لابن غنام يعكس نهج هذه المرحلة


المرحلة الثانية : بدأت سنة (1240هـ) وكانت أعقل من سابقتها وأكثر اعتدالا، ولكن الخلاف دب بين الإخوة وأبناء العمومة، حتى شك بعضهم في إسلام بعض، ففشلت الدولة وقضت سنة (1309هـ).

أما المرحلة الثالثة : فقد بدأت تظهر ملامحها من سنة (1319هـ) عندما تمكن عبد العزيز آل سعود من فرض سيطرته على الرياض، ثم ضم الحجاز والأحساء وإعلان المملكة العربية السعودية سنة (1351هـ).



في الوسط مبارك الصباح والملك عبد العزيز على يمينه
وهي أقدم صورة له فيما يقال

فتلك المدارس إذا لم تكن دخلت تحت سيطرة الدولة السعودية الأولى أو الثانية بشكل كامل بسبب ضعف السيطرة أو الحذر الشديد من ردة فعل الدولة العثمانية فلا شك أنها دخلت تحت سلطة الدولة السعودية الثالثة، دولة الملك عبد العزيز آل سعود، فكيف لم تنلها يد العبث والتخريب؟؟

لقد ورث الملك عبد العزيز عبئا ثقيلا وتجارب كثيرة من الماضي البعيد والقريب، ولم يشأ أن يتكرر ما حدث في الماضي من استعداء العالم الإسلامي كله بسبب تصرفات البدو الذين يقودهم، وبالرغم من التقدم الحذر ناحية الحجاز فهاهو يتورط مع بعض قواده كسلطان بن بجاد وخالد بن لؤي بطلا مذبحة الطائف، التي طار خبرها شرقا وغربا، وذَكَّرَت العالم بما مضى، وكأن البدو يعيدون سيرتها الأولى؟!

سلطان بن بجاد بطل مذبحة الطائف

مقال الأستاذ حافظ الشيخ في أخبار الخليج مذكرا بمذبحة الطائف

لقد وجد الشريف علي بن الحسين المتحصن في مدينة جدة الفرصة سانحة ليذكر الناس بما فعله البدو قديما وحديثا وبما يمكن أن يفعلوه في حال دخولهم مكة والمدينة، وأن أتباع عبد العزيز ينوون تدمير قبور الصحابة وهدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم ..
ونهض العالم الإسلامي ثانية على قدم وساق وبلغت القلوب الحناجر، وتكاد أن تتكرر نهاية الدولة الأولى إذا ما قرر المسلمون في العالم ما قرروه أول مرة .. ولكن من ينوب عن المسلمين بعد أن تضعضعت الدولة العثمانية ووهنت قواها وانفرط عقد الخلافة الجامعة؟

اتجهت الأنظار ناحية مصر، مهد الأزهر الشريف، وصدر الدول العربية، ومركز قيادة الأمة الإسلامية، وعلى الفور شكل الملك فؤاد الأول ملك مصر بعثة مكونة من الشيخ محمد بن مصطفى المراغي ـ شيخ الأزهر فيما بعد ـ ومحمد المسيري بك رئيس مكتب الحج بوزارة الداخلية المصرية، وعبد الوهاب طلعت بك من رجال القصر الملكي.

الإمام محمد بن مصطفى المراغي

وانطلقت البعثة إلى جدة حيث التقت بالملك الشريف علي بن الحسين فاستمعت إلى مخاوفه، ثم انطلقوا للقاء الملك عبد العزيز آل سعود والذي قابلهم بالترحاب والتكريم .
قال الإمام محمد الأحمدي الظواهري شيخ الجامع الأزهر في مذكراته (السياسة والأزهر) ما نصه :
(( .. فصرح عبد العزيز لهم بأنه لا ينوي أن يغير شيئا ما في مكة أو في المدينة مما تعود الحجاج عليه فيما مضى، وستكون للحجاج حريتهم المذهبية كاملة كما كانت من قبل، وسيطوفون بالكعبة ويرمون الجمرات لا على طريقة الوهابيين بل كلٌّ على المذهب الذي ارتآه لنفسه أو الذي درج عليه، ولن تهدم قباب الصحابة، ولن تنـزع شواهد القبور، وإذا صاح رجل بقول "يارسول الله" فلن يجد أحدا يمنعه أو يؤاخذه، ولن تمتد إليه يد معتد أبدا.
وأما البقعة المباركة التي ولد فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانت أول ما مس جسمه الشريف من هذا العالم فستبقى مسورة كما كانت وسيبقى لها احترامها وإجلالها.
والحرية الشخصية للأفراد لن يتعرض لها أحد، فكل من يريد أن يشرب الدخان فله أن يفعل ذلك، وكل من تزيى بزي غير زي العرب فله أن يفعل ما يريد، وكل شخص طليق أن يذهب من جدة إلى مكة وإلى المدينة كيفما شاء بدون ضريبة أو جزية تفرض عليه ..
هذا هو بعض ما قاله ابن السعود لبعثة الملك فؤاد تطمينا منه لها وللعالم الإسلامي، وتدحيضا لأراجيف المرجفين وادعاءاتهم كما قال.
ثم إن عبد العزيز أقسم بوالله وتالله ـ وهذه هي دائما ألفاظ قسمه ـ أنه سينفذ كل ما قاله بالصدق والأمانة، وأنه لن يحيد عن وعده أبدا ..)) اهـ.


وبعد وعد الملك عبد العزيز هذا للبعثة المصرية هجم البدو على آثار الصحابة القديمة فخربوا وكسروا ونزعوا شواهد القبور التاريخية، ولم يبالوا بوعود عبد العزيز، بل منعوه هو نفسه من استعمال الهاتف وقطعوا عنه سلك الاتصال ظنا منهم أن الهاتف والكهرباء والمراكب الحديثة ووسائل الاتصال والراديو كلها رجس من عمل الشيطان تجب محاربته ..

وإذن فإن عبد العزيز الآن بين أمرين لا ثالث لهما :

إما أن يخلف وعوده ويحنث في قسمه ليكتشف العالم الإسلامي أنه قد خُدع خديعة نكراء ـ وليس هذا من طبع الرجل العربي الصميم ابن الصحراء ـ وإما أن يفي بها ومن ثم يتأهب لمواجهة عنيفة ومصادمة مع مكون أصيل في جيشه كما حدث مع سيدنا علي بن أبي طالب والخوارج ..

لقد تيسر للملك عبد العزيز أن يلتقي بكثير من قادة العالم الإسلامي أهل الحكمة والسياسة والتدبير، ويجتمع بعدد من رجال العلم والفتيا والفكر في العالم الإسلامي، وأن يطلع على ما لم يطلع عليه سلفه، فأدرك أن العالم العربي من حوله مسلمون لا مشركون ولا كفار، وأدرك أن حضاراتهم وأبنيتهم وقباب قبورهم لم تؤثر في إيمانهم وحبهم لله ولرسوله وللإسلام، وأدرك أن الاستمرار في السلب والنهب وإسالة الدماء تحت مسمى الجهاد والقضاء على الشرك مجرد استمرار في العبث والاستهتار بالدماء والحرمات، وأنه عمل آثم بكل المقاييس، كما أدرك أن الحضارة ووسائل التطور والراحة ليست رجسا ولا سحرا ولا شيطنة، وأدرك أن المذاهب الإسلامية المعتبرة هي مذاهب سلفية أكثر أصالة من مذهب أمثال سلطان بن بجاد وخالد بن لؤي أبطال المذابح.


الملك عبد العزيز في معية الملك فاروق في صحن
الجامع الأزهر الشريف لأداء صلاة الجمعة


الملك عبد العزيز في معية الحاكم الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة


ومن خلال هذا الإدراك العميق والمتجذر في النفس مضى عبد العزيز في إنفاذ عهوده صادقا، فاعتصم بالمذهب الحنبلي، وفرض احترام المذاهب الإسلامية المعتبرة، فارتاح الناس، وسلمت القبة النبوية من الهدم فلم تصل إليها الأيادي الآثمة، ونجت المدارس الإسلامية الوقفية من تخريب البدو، كما أمن الناس في الحج وسائر الطرقات، ووجدت وسائل الاتصال والحداثة طريقها إلى الحجاز ..

ولكن ابن بجاد وابن حثلين والدويش وغيرهم من أعمدة جيش ابن سعود لم يرق لهم كل هذا الكفر الذي يرتكبه عبد العزيز ـ في تصورهم ـ حيث يتكلم في الهاتف ويركب السيارة، ويحول بينهم وبين الهدم والتخريب والغنائم والسبي، ويعطل جهاد الكفار المشركين .. فلا بد إذن من الخروج عليه ومواصلة الجهاد لفتح العراق والشام ومصر وهدايتهم إلى الإسلام !! 

حاول الملك عبد العزيز أن يتلطف برؤوس الثورة ضده كل التطلف، وبذل جهده لحثهم على التعقل والطاعة ولزوم الجماعة، وأتبع العفو بعفو، ولكن مساعيه في إقناعهم وردهم بالمعروف باءت كلها بالفشل، وتجمع رؤوس الثورة ضده تحت مسمى "إخوان من طاع الله" ويمكنك معرفة المزيد عنهم هنا :

 وإذن فلا مناص من سل الحسام وردع الأشرار اللئام.

واجه الملك عبد العزيز حركة الثورة ضده وتمكن منهم واحدا واحدا حتى انكسرت شوكتهم.


فيصل الدويش في الوسط وعن يمينه ابن حثلين وعن يساره ابن صاهود
معتقلين على ظهر سفينة بريطانية

لقد استطاع عبد العزيز أن يقترب بالدعوة النجدية اقترابا بينا من سواد الأمة الإسلامية عن طريق الاعتصام بالمذهب الحنبلي وتقدير واحترام المذاهب الأربعة، والاعتراف بمواطن الخلاف، وإليه يعود الفضل في بناء الدولة السعودية الحديثة المتطورة.

إن من أكبر التحديات التي تواجهها الدولة السعودية الحديثة بقايا الفكر الدموي المتعصب الذي يتربص بهذه الدولة الدوائر .. ليفتحها من جديد ويدخلها في الإسلام هي وباقي الدول الإسلامية !!!

إن فكر أبطال الحرب والمذابح من شجعان العرب كابن بجاد وابن حثلين وأمثالهم لا يزال باقيا وإلى هؤلاء في واقع الأمر ينتهي النسب الفكري لبعض الفرق العنيفة اليوم .. ومن يسعون إلى العبث والتخريب والإخلال بالأمن وهدم المذاهب والمدارس الإسلامية والقضاء عليها اليوم إنما ينتمون إلى فكر إخوان من طاع الله ولا ينتمون إلى دولة الملك عبد العزيز آل سعود الحديثة العصرية المعتدلة، نسأل الله تعالى أن ينجي المسلمين من شرهم.

وهكذا نجت المدارس الإسلامية العريقة في الحجاز والأحساء، والحمد لله رب العالمين.

اقرأ كذلك مقال :

بين الملك عبد العزيز آل سعود وشيخ الإسلام محمد الأحمدي الظواهري في المؤتمر الإسلامي الأول بمكة المكرمة.

اضغط هنا