السبت، 24 مارس 2012

الساعات الأخيرة في مجمع السلمانية (7)


الحلقة السادسة والأخيرة


يوم الأربعاء 16 مارس

ذكرت فيما مضى أننا خرجنا من مجمع السلمانية ليلة 16 مارس، وذكرت ما شاهدته ليلتها، وأنني لم أشاهد أي قطعة سلاح حربي من نوع الرشاشات والمسدسات وإنما يحملون الأخشاب والقضبان الحديدية ونحوها .. وكان أكثر أولئك الشباب الذين يحرسون البوابات في أعمار طلاب الثانوية أو بداية سني الجامعة، ويبدو على ملابسهم السذاجة وعدم التكلف، بعيدين من الميوعة أو البذاءة، وتلمس فيهم الشهامة والمروءة وروح النجدة، وقد جعلوا همتهم فيما يعتقدونه صوابا ويرونه حسنا، ولا مطمع في إقناعهم بترك ما هم عليه وبعدم جدواه في تلك الظروف، ولم يكونوا يتعرضون لأحد بأذى، وقد رأيت عددا من الأجانب من باكستانيين وهنديين ـ منهم أصحاب لحى كبيرة ـ يمرون بهم فلا يتعرضون لهم بأذى، فهمتهم منصرفة كليا إلى الحذر من رجال الأمن أو عيونهم ولا أرب لهم في غيرهم .. هؤلاء الشباب هم آخر عهدي بالسلمانية تلك الليلة، وكان عددهم قليلا في الجملة ولم أر غيرهم، أعني أن ذلك النوع من الشباب كان مألوفا بالنسبة لي طيلة ترددي على السلمانية، أقول هذا لصلته بما سيأتي بعد قليل.  

أخوف ما نخافه :

بالرغم من أن مداهمة السلمانية باتت وشيكة وشبه مؤكدة لانتشار خبرها، إلا أنني كنت أتمنى ألا يكون ذلك صوابا، وأتوقع على ضعف أمل أن يكون ذلك الخبر من باب التخويف والتحذير فقط، ولو صح الخبر فمع هذا التأخر في الوقت لا أظنهم يأتون في هذه الساعات التي يرتاح فيها المرضى، فالمرجح أنهم يأتون في الصباح، ولكن أخوف شيء في المسألة ـ إذا جاء الأمن ـ هو صدق الإشاعة القائلة بأن المعارضة تختزن السلاح الحربي في السلمانية !! لأن هذه الإشاعة لو صدقت وأن ثم ذخائر وقنابل وأسلحة مخبأة لوقت المواجهة فإن السلمانية ستشهد حربا طاحنة لا ندري كيف ستنتهي وهل ستكتب النجاة لمن في السلمانية من المرضى أم لا ؟ فلك أن تتصور انفجار قنبلة أو حتى زجاجة مولوتوف في أحد أروقة المستشفى نتيجة الملاحقات والاشتباكات وما يستتبع ذلك من تطورات !! ولهذا كنا نتمنى وندعو الله على الدوام أن تكون الإشاعة كاذبة خصوصا أننا إلى تلك الساعات المتأخرة من الليل لم نر في أيدي الشباب غير ما ذكرنا.

وصبحهم رجال الأمن :



إلى الصباح كنت على تواصل مع الأسرة بضرورة موافاتي بأي جديد وأي تحرك غير طبيعي في المجمع، ولما جاء رجال مكافحة الشغب وتواجهوا مع الشباب المتمركز عند البوابات رموهم بمسيلات الدموع فعرف كل من في المجمع أن المواجهات قد بدأت، وهنا اتصل بي الأهل وأخبروني أنهم يسمعون صوت طلقات ـ كانت تلك مسيلات الدموع ـ وانسحب الشباب إلى داخل المجمع، وبقي رجال الشغب عند البوابات يحيطون بها لتأمين الشارع المحيط بالمجمع، ثم جاءت الدبابات والجيش وصار يحيط بالمجمع وتتمركز المدرعات عند المداخل.

وزير الصحة يصل إلى المستشفى :

وفي هذه الأثناء وصل وزير الصحة نزار البحارنة إلى السلمانية لمحاولة إقناع المتجمهرين هناك بالخروج من المجمع سلميا تفاديا للمصادمات، ويبدو أن الوزير نجح في إقناع بعض الشباب بذلك، وأن الشباب تلقوا وعدا بضمان خروجهم بأمان وسلامة إن هم خرجوا، ولكن يبدو أن بعضهم كان غير واثق بهذا الوعد وصمم على البقاء في المجمع أو الفرار بطريقته الخاصة، ودليل ذلك أن بعض الشباب شوهدوا يركضون في أروقة المجمع في صورة من يلوذ بالفرار.

وصولي إلى المجمع من جهة مركز الجوهرة :

بينما كان الوزير لا يزال يحاول مع الشباب بالداخل كنت قد اقتربت من السلمانية نافذا من العدلية، بحيث صرت أشاهد مركز الأميرة الجوهرة، وألاحظ السيارات التي تسبقني وهي تصل إلى منعطف السلمانية ـ إذ تنعطف يسارا ـ ثم تكر راجعة بسرعة، ويبدو من بعيد بعض رجال مكافحة الشغب وهم يشيرون لكل سيارة بالعودة فتدور السيارات وتعود أدراجها، بل يشيرون لكل شخص راجل يقترب فيأمرونه بالابتعاد والعودة، وهذا تسجيل عثرت عليه وهو يوضح الشارع الذي كانت السيارات تنعطف عنده ولا يسمح لها بالمرور فيه إذ كانت قوات الجيش ومدرعاته منتشرة فيه :



يقف في هذا الشارع باص أو اثنين مثل هذا :



وعدد من المدرعات مثل هذه:



والجنود فوق المدرعات وفي الشارع يتمترسون، كما توجد سيارات رباعية الدفع تابعة لقوة الدفاع.

تصرف عاطفي غير محسوب العواقب :

عندما وصلت إلى الإشارة التي عند مركز الجوهرة وانعطفت يمينا بحيث صار مركز الجوهرة على يساري تقدمت شيئا فشيئا، وكان رجال الشغب يتوقعون مني كما فعل غيري أن أنعطف راجعا إذا وصلت إلى المنعطف وشاهدت قوات الجيش والمدرعات، ولكنني لم أتراجع ولم أعد بل واصلت السير يسارا بالسيارة ببطء باتجاه الجنود، ولما لاحظني الجنود صاروا يشيرون إلي بحزم لأتراجع، ولكنني تقدمت فجلس مجموعة منهم في وضع إطلاق النار وصاروا يصيحون علي بالتوقف فتوقفت وفتحت باب السيارة ببطء فصاروا يصيحون علي ألا أفتح الباب، فأخرجت كلتا يدي من فرجة الباب قبل فتحه كاملا ليروا أني مجرد من أي سلاح، ثم دفعت الباب بكتفي ونهضت واقفا خارج السيارة وتقدمت نحوهم فصاحوا علي بالتوقف وهم يتراجعون إلى الوراء فوقفت، وقد عم الاضطراب في الجنود والتفتوا كلهم نحوي حتى أن بعضهم مشى ليكون خلف الباص وبعضهم مشى ليكون خلف المدرعة ـ كانوا يخشون أن تكون عملية انتحارية أو شيئا من هذا القبيل ـ
ثم صاح بي أحدهم : ماذا تريد؟؟
فقلت له : إن أسرتي بالداخل ولن أتراجع حتى أتحدث إليكم.
فقال لي : قف مكانك ولا تتحرك.

حوار مباشر مع قائد المجموعة :

أخبروا قائدهم ـ وكان في سيارة رباعية الدفع ـ فنزل من السيارة رجل ضخم في بزة تشبه هذه الصورة مع اختلاف يسير :

    

فاتجه نحوي بكل حذر حاملا سلاحه في صورة مهابة ـ يصحبه جندي آخر عن يمينه متأخر عنه قليلا ـ لا يبدو منهما غير موضع العينين، ثم جرى بيني وبينه هذا الحوار بمعناه :

قال لي : ماذا تريد؟ (اللهجة بحرينية)
قلت له : هل تنوون الاحتراب معهم في المجمع الآن حال وجود الأسر والمرضى ؟!!! (اطمئنان متبادل)

قال لي : نحن لدينا أمر بإنهاء المسألة فإذا لم يخرجوا فسوف نقتحم عليهم !

قلت له : لكن هذا الاقتحام في حال كان لديهم أسلحة ـ كما يقال ولا أراه صحيحا ـ أو استعملوا المولوتوف قد يؤدي إلى دمار المجمع وأذية الناس!

فتكلم صاحبه الذي عن يمينه قائلا : أنتم ما أتى بكم إلى السلمانية في هذه الظروف؟ (اللهجة محرقية ظريفة)
قلت له : هل يوجد عاقل يجلب المشاكل لنفسه؟ كان الوضع مقبولا ولم نكن نتوقع أن الأمر سيتطور إلى هذا الحد، كما أن هذا السؤال يجب أن يوجه إلى الحكومة التي اضطرتنا إلى هذا الحال.
فأجاب : ألم يفتحوا مستشفى الملك حمد؟
فقلت له : فتحوها متأخرة ولا نعلم إذا كانت مجهزة أو غير مجهزة.

ثم قلت للقائد : دعني أدخل لأخرج الأسرة قبل حدوث أي شيء.

قال : لا يمكنني أن أدعك تدخل الآن لأن الوضع الآن غير آمن أبدا.

قلت له : لقد كنت أدخل في الأيام الماضية وصرت مألوفا لديهم وأنا واثق من أنني سأدخل وأخرج بسلام، كما أن أكثرهم من الصبيان والشباب الصغار وليس لديهم إلا الأخشاب والقضبان فلا يستدعي الأمر كل هذا.

قال لي : لا، إن الذين هم في المجمع الآن غير من رأيتهم بالأمس، إنهم أناس مختلفون تماما !!!! (أقلقتني هذه الكلمة منه وإن لم أقتنع بها) فسكت.

ثم قال لي : في أسوأ الأحوال لن يصل الأذى إلى الطابق الثالث فضلا عن الرابع، والوزير الآن بالداخل يتفاهم معهم ليخرجوا بالطيب وقل إن شاء الله يخرجون باللين والتفاهم.

وقال : نحن حتى الآن لم نتدخل وإن شاء الله لا نتدخل، وصدقني يا شيخ إن هؤلاء الذين بالداخل برغم كل ما فعلوه وما قالوه إلا أننا حريصون ألا يصاب أحد منهم بأقل شيء من الأذى قدر المستطاع، وعلى كل حال أنا أطمئنك أننا نتصرف على أساس أن من يرقدون في المجمع هم إخواننا وأخواتنا، وتوقعاتنا أن المشكلة تنتهي خلال ساعتين ويخرجون. (الكلام يبعث الطمأنينة)

ثم طلب مني الانتظار قليلا فانتظرت في السيارة فتكلم بالهاتف ثم جاءني فجلس عند نافذة السيارة في لطف شديد وتواضع وأعاد علي بعض ما قاله عن الوضع ومحاولة الوزير ثم طلب مني أن أعود إليه بعد نحو ساعة وزودني برقم هاتفه الخاص.

عندها تراجعت إلى الوراء بقرب مسجد الإمام أحمد بن حنبل، بحيث أراقب الوضع.

أمضيت مجمل الوقت في التحدث إلى الأسرة حول شؤون مختلفة لرفع المعنويات وبث روح التفاؤل، وكان الاتصال ينقطع في بعض الأحيان ..

موقف مريح من جندي ظريف :

وبعد أقل من ساعة استعجلت الفرج وتحركت بالسيارة إلى حيث الجنود وانعطفت كما فعلت سابقا، لم يكن القائد موجودا، لكن كان صاحبه المذكور سابقا واقفا هناك، فلما رآني قال لي : ها الشيخ؟ فقلت له : ما صار شيء ؟؟
فقال : عاد الشيخ عطونا وكت خل انتفاهم وياهم ! (ثم وضع إحدى يديه على الأخرى متكتفا كما يفعل التلاميذ) وهز كتفيه ورأسه قائلا : تبي نقتحم عليهم؟ ها؟ تبي نقتحم عليهم؟؟ إذا تبي نقتحم عليهم قول !!!!! (أضحكني وكنت مهموما) فقلت له : بالعكس تماما، بل هذه الروح الإنسانية والتؤدة واللين في معالجة الأمر هو ما نحتاجه بالضبط وخذوا كل الوقت في هذا الاتجاه الصحيح .. وانصرفت عائدا إلى حيث كنت عند مسجد الإمام أحمد بن حنبل.

[شكر وتقدير] :

أجدني هنا مضطرا للاعتراف بأن هذه القوة بقائدها هذا ومن معه أثبتوا لي بما لا يدع مجالا للشك أنهم شرفاء ونبلاء وأنهم يحتاطون للدماء إلى أقصى حد ممكن فلهم مني كل تحية.

سحابة سوداء تنبعث من المجمع :

بعد مدة انبعثت سحابة سوداء ضخمة من المجمع لا أدري سببها، ولكن الدخان المنبعث غطى المجمع شيئا فشيئا وتسلل عبر أجهزة التكييف إلى داخل المجمع مما حدا بالمسؤولين إلى إغلاق المكيفات ونقل الأطفال إلى الغرف الخاصة .. وبالتواصل مع قائد الجنود أكد لنا أن ذلك لن يتكرر وأن الهواء الآن يبعد السحابة عن المجمع وأن بوادر انفراج تبدو .. وهذه صورة السحابة والتي التقطتها في الساعة 10.58 دقيقة ضحى:



الاتصال بالصددي :

لاحت لي فكرة الاتصال بعلي حسن الصددي والذي كان رئيس اللجنة التنظيمية للتأكد من الوضع وإسداء النصيحة الضرورية، فاتصلت به وجرى بيننا بعد السلام ما معناه :



قلت له: أرجو أن تكونوا وجميع من في المجمع بخير؟
فقال: نعم الكل بخير.
فقلت له : يا علي ربما لا ترى ما أراه الآن وأنا خارج المجمع، هناك مصفحات وجنود مدججون بالسلاح، فإياكم والمغامرة بأنفسكم.
فقال: يا أستاذ نحن مسالمون تماما ونجلس على الأرض وليس لدينا أي نية للمقاومة أو فعل أي شيء غير ما يأمروننا به.
فقلت له : هل معنى هذا أن كل شيء انتهى وأنه لا توجد مواجهات؟
فقال : نعم كل شيء هادئ وساكن تماما.
ثم تحدثنا في شيء لا حاجة إلى ذكره هنا، ويبدو من خلال كلامي مع الصددي أنهم تحاجزوا فقط ولم يختلطوا برجال الأمن بعد وإلا ما تمكن الصددي من الرد على الهاتف.

بعض الشباب يخرجون بسياراتهم من المجمع :

شاهدت بعض السيارات التي كانت في الموقف تخرج من المجمع وحدثني بعض من كان هناك ذلك الوقت أنهم شاهدوا سيارات مدنية تخرج مسرعة من المجمع، لكن يبدو أن البعض الآخر قرر الفرار بطريقته وبعضهم قرر البقاء في المجمع.

وقد علمنا فيما بعد أن وزير الصحة استقال احتجاجا على إصرار رجال الأمن على اقتحام مبنى المجمع ودخوله.

الإذن بالدخول على مسؤوليتي :

بعد صلاة الظهر أجريت مكالمة مع القائد المذكور فطلب مني الحضور، فلما وصلت إليه جاء إلي وكلمني قائلا ما معناه :
نحن لا نعرف كيف هي الأوضاع الآن بالداخل تماما، رجال الأمن يسيطرون على المبنى من الخارج، وأما بالداخل فلا ندري ما هي الأوضاع، فإذا كنت مصرا على الدخول فذلك يكون على مسؤوليتك الشخصية !
قبلت ذلك، فقام بالتحدث عبر الهاتف إلى أحدهم يخبرهم ببياناتي الشخصية ومواصفات معينة عني وعن السيارة ثم طلب مني التقدم ببطء (وبدا لي من خلال هذه الإجراءات أنني أول من يدخل السلمانية من المدنيين بعد هذه الأحداث) فتقدمت بسيارتي في الشارع المذكور أتخطى الحواجز والمدرعات، وأنا أشاهد السيارات المدنية على جوانب الطريق تم تفتيشها وفتحها بحيث ألحق ذلك أضرارا واضحة بزجاج السيارات وبعض الأبواب، وقد شاهدت إحداها وكأن مدرعة مشت على عجلتها الأمامية ..
   
أشاروا إلي بالدخول من البوابة (6) وبمجرد عبور سور البوابة وإذا بي كأني في صحراء، هدوء شديد، وصمت عجيب، فتقدمت إلى أن وقفت بالسيارة قرب بوابة طوارئ الولادة ونزلنا .. وكان هناك شرطي فأرشدنا إلى السير للدخول من البوابة الرئيسية للطوارئ جهة اليمين ..

عند بوابة الطوارئ :





لما وصلت إلى البوابة شاهدت أعدادا من رجال الأمن في الساحة المقابلة لبوابة الطوارئ، منهم الواقف ومنهم الجالس ومعهم مجموعة من الكلاب، وكانت بقايا الأدخنة منتشرة تملأ المكان ويتطاير في الهواء سخام أسود، وقد تم تفكيك كل الخيام وتسويتها بالأرض وقد عمت الفوضى المواقف لكثرة المخلفات .. وعندما اقتربت من البوابة كانت مفتوحة ومن الداخل يجلس يمينا ويسارا مجموعات من الأطباء والممرضين رجالا ونساء، ألقيت عليهم التحية، وقد شعرت بنظراتهم الغريبة نحوي وهم يشاهدون شخصا يدخل ويلقي التحية وكأن شيئا لم يكن، وواصلت طريقي في هدوء تام وفي الطريق كنت أنظر يمينا ويسارا وعلى اليمين شاهدت غرفة واسعة يتمدد فيها مجموعة من الشباب على الأسرة ! وكانوا ينظرون إلي فلما نظرت إليهم امتلأ قلبي هما وحزنا عليهم وتمنيت لهم السلامة، إنهم نفس الشباب ونفس الملابس وليس كما ظن القائد أنهم كائنات مختلفة وجديدة وخطرة !! ثم وصلت إلى المصعد ثم إلى الطابق الرابع في هدوء تام، ولم ألاحظ في خط سيري كله من يحمل سلاحا أو يتحفز لمكروه، بل كانت المستشفى كأنها خالية منهم، وهو يؤكد ما توقعته، فلما دخلت قسم الولادة أخذتني الأنظار، وطلبت من المكتب الأوراق الخاصة بنا للخروج فورا، فلما سمعني بعض الشباب ـ وكانوا مع عائلاتهم ـ واطمأنوا إلى أنني مدني جاؤوني يتحدثون إلي يسألونني كيف دخلت وكيف سأخرج ويذكرون لي ما حدث لهم وكانوا في غاية الخوف والقلق، وكنت أتمنى لو استطعت أن أخرجهم معي ولكن ما باليد حيلة، وكل ما أمكنني قوله تسلية لهم أنني شاهدت مجموعة من الشباب يخرجون ـ سمحوا لهم ـ فإن شاء الله يحصل فرج وتنتهي الأمور على خير، ثم أخذت الأمتعة والمستلزمات ومشينا مع الأهل تساعدنا إحدى الممرضات.
وهنا أذكر أن مجلة مرآة البحرين الألكترونية كانت نشرت مذكرة حول أحداث السلمانية بقلم أحدهم، وقد ذكر الكاتب أنه شاهد عائلة جيء بهم على أساس أنهم رهائن !! فإن كان هذا الكاتب يقصدنا فقد أشكل عليه الأمر وتوهم ما لا حقيقة له، ولم نشاهد ذلك الوقت أي كاميرات تصوير، ولم نلاحظ الإشارة إلينا من قريب أو بعيد في أي وسيلة إعلامية على أننا رهائن ولو شاهدت شيئا من ذلك لرددته وأنكرته في وقته، فلعل الكاتب يقصد غيرنا ممن دخل بعدنا، والله أعلم.

حملنا أمتعتنا وما نحتاج إليه، ومعنا الطفل تحمله ممرضة تساعدنا، وخرجنا من السلمانية حسب إرشاد رجال الأمن من البوابة (5) وتجاوزنا المدرعات، وعندها اتصلت بالقائد أشكره إذ يسر الأمر ولم يعسره، وأشهد هنا أنني لم ألاحظ وجودا لما يسمى بدرع الجزيرة في تلك القوات، بل كانوا مواطنين بحرينيين أصليين أو من أصول عربية، وما راج من أن درع الجزيرة كان مشاركا فغير صحيح من خلال مشاهدتي، وهكذا أخذنا طريقنا إلى البيت والحمد لله رب العالمين.



الخاتمة

يقول تعالى : ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10))) سورة الحجرات.

هذه الآية الكريمة والتي قبلها تحدثت عن القتال بين المسلمين، والذي كان أكثره بسبب الخروج على الحكام ونقض بيعتهم وطاعتهم، وقد تعرض علماء التفسير لهذه الحالة في كتبهم، كما بوب علماء الفقه الإسلامي لهذه الحالة في كتب الفقه بابا خاصا سموه بباب (البغي) وبينوا الأحكام الإسلامية المتعلقة به، وما حدث في البحرين في فبراير ومارس من سنة 2011م هو من هذا الباب، والأحكام الإسلامية في هذه المسألة في غاية العدالة والإنصاف والرحمة للجانبين المحتربين من المسلمين، وقد اعتبر الفقه الإسلامي هذه الحالة بحالة فتنة يجب على المسلمين العودة منها إلى رشدهم والمصالحة ثانية وإزالة أسباب الفتنة من جذورها .. وقد شرحنا جملة من أحكام هذه المسألة في مدونتنا بعنوان (رد السنة والشيعة إلى سماحة أحكام الشريعة) وعلى من تابع حلقاتنا أن يقرأ هذا المقال بعد الفراغ من هذه الخاتمة.

وبالرغم من أن الفبركات الإعلامية تم استعمالها في الحروب الإسلامية إلا أنه وبعد الحرب لم يحاسب أحد على ذلك، إن الفقه الإسلامي يرفع الحرج عن المخادعة في الحرب بناء على اعتقاد كل طرف أنه على الحق وأنه يشرع له المشي على قاعدة (الحرب خدعة) وهي قاعدة مسلمة سياسيا قبل الإسلام، كما هي مسلمة في الفقه الإسلامي السني والشيعي ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

إلا أنه وللأسف الشديد تختلف أحكام هذه المسائل في القوانين الوضعية المعمول بها في كثير من الدول والممالك الإسلامية اليوم اختلافا جذريا عنها في الشريعة الإسلامية فتتسم في الوضعية منها بالشدة والعنف والتناقض وبث روح الانتقام، بحيث إذا انتصر الثائرون نسبوا إخوانهم إلى الخيانة وفتكوا بهم بنصوص القوانين الوضعية، وإذا انتصر الطرف الآخر نسب الثائرين عليه إلى الخيانة وفتك بهم بناء على النصوص الوضعية .. وهذا ما انجر إليه أكثر الناس في البحرين .. وتركوا أحكام الشريعة وراء ظهورهم.

إن هذه الحالة تكررت كثيرا في التاريخ وكان لها صدى واسع في التاريخ الإسلامي، وما حرب الجمل وصفين وحروراء إلا أمثلة لهذه الحركات والحالة، إلا أن حالة البحرين تعتبر مثالية إذا ما قورنت بتلك التي ذهب ضحيتها آلاف من المسلمين .. فليس علينا أن نلوم أنفسنا لظهور مثل هذه الحالة في البحرين فلسنا خيرا من جيل الصحابة الذي مضى .. ولكن جيل الصحابة عالج المسألة إسلاميا فلم يصف أي طرف منهم الآخر بالخيانة أو العمالة أو الكفر أو غير ذلك، وكان أكبر وصف أنهم "إخواننا بغوا علينا" ومن أعدل الأوصاف قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم، ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكنا رأينا أنا على الحق، ورأوا أنهم على الحق" ..

إن كثيرا ممن واجهتهم من أفراد المعارضة أو الأطباء أو رجال الأمن كانوا نبلاء وفيهم رحمة وإنسانية ونجدة ومروءة وشهامة، وأكثر الأخطاء والتجاوزات تقع من أناس قلة ضعيفة الأخلاق رقيقة التدين، ولكن تبقى المشكلة في التعميم على الناس ورميهم كلهم بصفة السيء منهم وهذا ليس من العدل والإنصاف في شيء.

إن المعارضة في البحرين كانت بحسب الاصطلاح الفقهي حركة بغي سلمية غالبا بمعنى أنها لم تحمل السلاح الحربي المعروف، ولم تصل الحالة عندنا إلى ما كان في حرب الجمل وصفين .. وإن إقحام السلمانية في نشاطاتهم السياسية كانت خطوة فاشلة وغير محسوبة، وقد أتت بنتائج سيئة للمعارضة، وبقية الأحكام تؤخذ من مقالنا سابق الذكر (رد السنة والشيعة ..) ..

وفي ختام هذه الخاتمة أجدني مضطرا لاحترام شخصيات كثيرة لكني أخص هنا بعضها فأبعث التحية لأطباء وطبيبات السلمانية الشرفاء الذين لم يميزوا في العلاج بين هذا ولا ذاك ولم تمنعهم السياسة من أداء واجبهم ولم يتعرضوا لمريض بسوء من قول أو فعل فأهدي لهم التحية مجددا، وأخص من بينهم قسم الولادة بكل إجلال وإكبار واحترام، وبالرغم من اختلافي مع المعارضة فكريا وسياسيا وتخطئتي لهم في كثير مما أتوه لكنني أسجل هنا احترامي لمثل علي حسن الصددي إنسانا نبيلا ومسالما، وأشهد أنه كان يبذل ما في وسعه للحفاظ على السلم ولجم طيش الشباب، كما أهدي التحية والسلام لقائد القوة المكلفة بالسيطرة على السلمانية ولصاحبه الظريف ولكل من كان على مثل أخلاقهم النبيلة وشهامتهم وأستبعد كل الاستبعاد أن يكون مثلهم يرتكب ما ينسب إليهم من الإهانة والتعذيب وأتصور أن ذلك يكون ـ إن حدث ـ من غيرهم لا منهم، ولو جاز لي اختيار من يستحق التكريم في مثل تلك الأحداث لاخترت هذا القائد المتواضع والواقف عند حدود الله.

هذا وليس كل ما عرفته قلته، بل قد تركنا بعض التفاصيل التي لا حاجة إليها، وأصحابها يعرفون ذلك، كما أن ما كتبته قد يحتاج إلى تصحيح لأني أكتب مرتجلا فقد أكون قدمت أو أخرت ولي عودة للتصحيح إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهت الحلقات.



هناك 5 تعليقات:

  1. بارك الله فيك شيخنا الكريم ،،

    لماذا لا نرى أمثالكم يظهرون في التجمعات ليوحدون الشعب و نبذ الفرقة فيما نرى بعض المشايخ ممن يشتمون و يسبون و يكفرون طائفة من المسلمين يظهرون و نرى التغطية الأعلامية الضخمة لهم و هم لا يستحقون كل هذا ،،

    انني أدعوك شيخي الكريم للحضور في تجمعات المعارضة و التواصل مع المنظمين لإلقاء كلمة خطابية ليست فقط للمعارضين للنظام انما للشعب البحرين أجمع، و اذا كان هناك اي انتقاد للمعارضة طرحها بدون تردد ،،،

    أخيراً هناك سؤال يحيرني و ان كان قليلاً خارج الموضوع

    اذا كان لا يجوز الخروج على الحاكم حتى لو كان فاسقاً أو فاجراً فهل باستطاعت من يمسك الحكم باستطاعته عمل المنكرات و القتل و لا يجوز للناس الخروج عليه من جهة
    و من جهة أخرى لا ننسى حكم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من جهت أخرى ،، مع مراعاة أن الفتنة ممكن أن تحدث ليست فقط مع الحاكم فمثلاً الرموز الدينية و الخ ،، و اذا كان لا يجوز الخروج على الحاكم الفاسق فما حكم من خرج في البلدان العربية مثل تونس و مصر و ليبيا و اليمن و سوريا

    تقبلوا تحياتي ،،

    نوح عبدالله

    ردحذف
    الردود
    1. مرحبا بكم ..

      ليس هذا الفقير برجل سياسة، ولا بناشط سياسي، ولا أحب لعب هذه الأدوار، ولا المشاركة في شيء منها، وإنما أنا صاحب قرآن وحديث وفقه .. وشعر وأدب .. ولا شك أنكم تدركون السبب في غياب صوت الاعتدال وظهور صوت العنف والتشدد، لكنها حالة لن تدوم إن شاء الله، وفي نهاية المطاف سيذهب الزبد جفاء ويبقى ما ينفع الناس.

      وأما بالنسبة لسؤالكم فالجواب عليه بالتفصيل يحتاج إلى وقت طويل، ولعلي أفرده بمقال مستقبلا، ولكن أقول هنا :

      إن الفقهاء لما منعوا الخروج على السلاطين لم ينظروا إلى مصلحة السلطان بل نظروا إلى مصحلة المسلمين، فإذا كان الخروج سيؤدي إلى الضرر العظيم بالمسلمين بحيث يكون عدم الخروج أنفع وأبقى كان الخروج عندها ممنوعا وأما لو تصورنا خروجا آمنا لا يترتب عليه الضرر بل المنافع فهنا لا يمنعونه ولكن أين هذا النوع؟؟!! وكيف يكون، فالمسألة برمتها مبنية على الموازنة والمقارنة بين المصالح والمفاسد بين الخسائر والمكاسب ..

      وأما الأمر بالمعروف فليس خروجا ولا حجر فيه، ولكن يجب أن يؤدى بحيث يؤتي ثماره المرجوة وأما أن يؤدى بطريقة لا تثمر أو تثمر لنا شوكا وحنظلا فما الفائدة منه حينئذ؟؟
      ولك أن ترجع إلى مقالي حول فقه الأمر بالمعروف عند الإمامية هنا في المدونة.

      حذف
  2. أستاذي العزيز

    أرجو أن تتقبل انتقاداتي وتحليلاتي لما كتبته في هذه السلسلة التي تناولت الحقائق التي شاهدتها ورويتها بإتزان موضوعي وعقلاني، ولكن من الواضح جداً أنك لا تريد أن تضع أي لوم على النظام الذي أسس لكل هذه المشكلة، في حين أنك انتقدت المعارضة على جعلها مجمع السلمانية الطبي مكاناً للإعتصام.

    أستاذي العزيز

    لم تشأ المعارضة أن تؤسس لنشاط سياسي في مجمع السلمانيةالطبي، ومخطئ من يظن ذلك، الجماهير أُجبرت على أن تبقى في المستشفى مع أفراد عائلاتهم المصابين في الأحداث، ولا يخفى عليك ذلك، وهذا ما أسس لبقاء العشرات من المواطنين أمام الطوارئ.

    أستاذي العزيز

    أرى أن خلاصة ما وثقته أنت بقلمك المتزن والموضوعي يُفضي إلى القول بحق أن (النـ ..) هو من أسس إلى فتنة طائفية عبر وسيلةالإعلام الرئيسية في البلد (..) فيما أسس إلى إنزال الجيوش إلى أماكن لا يُفترض أن تُحاصر أو تُهاجم بناءً على إشاعات طائفية مغلوطة.

    الخلاصة أستاذي العزيز أن توازن إنتقاداتك ليبقى توثيقك موضوعياً، ليست المعارضة التي أسست لبقاء الجماهير في السلمانية، وكان هذا التصرف عفوياً لما يمر به أهالي الجرحى آنذاك من ألمٍ يرتبط إرتباطاً وثيقاً بسياسة النظام. الخلاصة أن النظام يتحمل أغلب ما حدث ويحدث إلى اليوم في مجمع السلمانية الطبي وتدهوره التام بعد إيقاف أفضل أطباء البحرين، النظام هو من يتحمل الفتن الطائفية التي روّج لها عبر الإعلام الرسمي، النظام هو من هجم وروّع الآمنين في السلمانية.. هذه حقائق أستاذي يجب أن تكون في تقييمك الختامي بدلاً من التهرب منها..

    أحيي فيك هذه الشجاعة والإقدام على الحفاظ على الوحدة الوطنية، وعلى تمسكك بنهج الحق وتبيان الحقائق للناس الذين لطالما يرددون صوت الفتنة.

    شاكر لك

    ردحذف
    الردود
    1. ربما لم تقرؤوا مقالي (رد السنة والشيعة إلى سماحة أحكام الشريعة) ففيه بيان لما هو صواب وخطأ في مسألة التعامل مع معارضي الحاكم فارجع إليه ..

      كما أنكم في كلامكم تحاولون تحديد الجهة المسوؤلة عن تطور الأحداث، ومهما قلتم وقال غيركم فالحقيقة التي لا مفر منها أن المسؤولية مشتركة بغض النظر عن حجمها ونسبتها لدى كل طرف.

      حذف
  3. بارك الله في شيخنا الفاضل أدام الله عليكم فضله

    ردحذف